قراءة في كتاب
حاتم حميد محسن: كيف يمكن إعادة التوازن لعالم غير مستقر؟
هل لا زال بالإمكان ان يعيش الناس حياة جيدة وفي نفس الوقت يتجنبون كوارث المناخ؟ كيف يمكن تنظيم المجتمع بحيث يمكن خلق الظروف المواتية لذلك وبما يسمح لتوريثها للجيل القادم؟ اذا كانت الهياكل الاقتصادية والاجتماعية هي التي قادتنا الى هذه الكوارث، فما هو المطلوب عمله من جانب الاجيال اللاحقة وما هي الأسباب لإعطاء أمل لذلك؟
التحذيرات من ان مسار الاقتصاد العالمي غير قابل للاستدامه ليست جديدة. قبل خمسين سنة أشار دونيلا ميدوز Donella Meadows وزملائه بالتفصيل في (حدود النمو: تقرير لمشروع روما حول مأزق البشرية،1972) بان هناك "حدودا للنمو". التراكم المستمر في البيانات منذ ذلك الوقت لم يغير تلك الرسالة، ولكن فقط منحها إلحاحا اضافيا. مفهوم حدود الاقتصاد جرى تعزيزه ايضا بفكرة "حدود الكوكب"، التي اقترحها اول مرة يوهان روكستروم Johan Rockstrom عام 2009 ومن ثم رئيس مركز ستوكهولم للمرونة الى جانب مجموعة من 28 من العلماء البارزين دوليا. مخططهم الدائري يبيّن تسعة حدود عالمية تتضمن تغيير المناخ وفقدان التنوع البيئي والتلوث ويعطي صورة واضحة مصممة علميا للأخطار المهددة "لمكان آمن للانسانية". المجموعة أصدرت تحديثا لتقريرها عام 2023 بيّن ان ستة من الحدود الآمنة هي تُنتهك الان، والضغوط تتزايد. العالم لا يتصرف بسرعة وبكفاءة كافيين لضمان أمنه. فقط فيما يتعلق بتدهور طبقة الاوزون كانت الاشياء تتحرك في الاتجاه الصحيح.
الدليل العلمي كان واضحا، لكن الحكمة المطلوبة للقادة السياسيين وللمجتمعات التي يحكمونها كانت للأسف مفقودة. الافضليات القصيرة الأجل كانت هي القاعدة، ورحلة البدء لمستقبل اكثر أمانا بيئيا اصطدمت بقضايا العدالة والانصاف، لأن تغيير المناخ سلّط الضوء بشكل حاد على اللامساواة القائمة ضمن وبين مختلف المجتمعات. الإضطراب البيئي كان ماثلا وستستمر الشعوب تشعر به وبشدة في البلدان النامية التي هي غير مسؤولة عن خلقه و ايضا غير مؤهلة ماليا وغير قادرة من ناحية الهياكل الاجتماعية للتعامل مع تأثيراته، ذلك لأن التخفيف من تلك التأثيرات سيكون مكلفا. وفي نفس الوقت، تحتج الشعوب الفقيرة بشكل مبرر على فرض معايير تعيق تقدمها نحو مستوى الوفرة الذي يتمتع به العالم المتطور. الاستثمار في الطاقة الشمسية يصعب بيعه للمزارعين الذين يعيشون في حد الكفاف.
أسئلة المساواة تبرز ايضا ضمن العالم المتطور. في كثير من الأحيان الحلول المفضلة لحملات الخُضر تبدو كأنها من عالم آخر. كلفة المركبات الكهربائية تتجاوز ميزانية العديد من العمال العاديين، والطعام العضوي ايضا مكلف جدا للعوائل التي تصارع لتلبية حاجاتها، كذلك وضع عوازل كافية لضمان حرارة ملائمة للعيش، غير ممكن لاولئك الفقراء او لمنْ يواجهون الإفلاس. لذا فان الدعوات المتزايدة للتحرك نحو اقتصاد أخضر قد تبدو غير معقولة عندما تُكشف اللامساواة العميقة في العديد من المجتمعات. هذا قاد العديد من الناس للقول ان أكبر حجم من المساواة هو شرط مسبق للعيش ضمن حدودنا الكوكبية ولايمكن للاخير ان يتم بدونه.
نموذج جديد
لكي يتم الجمع بين متطلبات الحدود البيئية و تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية، أطلقت كيت راوورث Kate Raworth استاذة الاقتصاد في جامعة اكسفورد اسما غريبا لكتابها الصادر عام 2017 بعنوان "اقتصاد الكعكة" Doughnut Economics.(1) في كتابها جمعت بين الحدود الكوكبية و فكرة الأساس الاجتماعي – مستوى من الحياة لا يُسمح للفرد بالعيش في أقل منه . هنا، الأمان والعدالة تصبحان جزءاً من نفس المشروع. عبر إضافة حلقة داخلية لمخطط روكستروم، تدعونا راوورث لنتصور القضايا باسلوب تكاملي.
هذا بالذات يُعتبر تحدياً لاولئك الذين يرغبون بتجزئة وتهميش المشاكل قيد النقاش – نقد مؤتمرات المناخ المتعاقبة.
الشرائح الاثني عشر من الحلقة الداخلية للاساس الاجتماعي مشتقة من الافضليات المحددة في اهداف التنمية المستدامة للامم المتحدة عام 2015. المهمة هي احترام حدود العالم الطبيعي مع ضمان تزويد الجميع به. تجاوز تلك الحدود يجلب كوارث المناخ، بينما نقص الحاجات الاجتماعية يحرم الناس من حياة كريمة ومستديمة.
التوازن كل شيء
يهدف النموذج الى "مكان آمن وعادل للانسانية" بين الحدين – نوع من الإعتدال او الوسط يسعى لتجنّب كل من افراط رأسمالية المستهلك العالمي المدمر للبيئة واللامساواة التي تُضعف أي مجتمع لائق، عبر منع حصول الفقراء على حصة عادلة من ثروة الكوكب. نماذج الاقتصاد المبكرة تميل لإفتراض نمو اقتصادي لا محدود ولذلك اعتمدت على استحواذ و نزعة استهلاكية لا حدود لها . السياسات المرتكزة على تلك النماذج تحطم المحيط البيئي الذي نعتمد عليه. فكرة ان الكثير من سكان العالم شهدوا خروجا من الفقر المدقع في العقود الاخيرة صاحبه وبسرعة تدهورا في العالم الطبيعي وزيادة في الفجوة بين الفقراء والأغنياء.
يرى اقتصاد الكعكة ان الصحة البيئية والاجتماعية هما وجهان لعملة واحدة، وانه فقط عبر معالجة الاثنين معا تستطيع المجتمعات تحقيق الازدهار للفرد في مكان آمن وعادل.
التحديات الاجتماعية والفردية
للإجابة على الأسئلة المثارة أعلاه، يتصور نموذج اقتصاد الكعكة تحولا في التفكير: معالجة المشاكل الناجمة عن تجاوز الحدود الكوكبية يجب ربطها وموائمتها بعمل جدي يشمل الأبعاد الاقتصادية والسياسية المطلوبة للتنمية المستدامة. لذا فان المخاوف البيئية ليست فقط حول البحث عن حلول تكنلوجية (رغم ان العديد من هذه مطلوبة ومرحب بها)، وانما حول الطريقة التي يعيش بها الناس مع بعضهم، وكيف يستجيبون للتحديات التي يواجهونها، افرادا وجماعات. يمثل اطار الكعكة الوفاء بالالتزامات الحالية وتجاه الجيل المستقبلي، انه ايضا تحدّي للناس ليتحملوا مسؤولية واسعة عن أفعالهم حيث ان الرفاهية الاجتماعية تعتمد على تطبيق القيم الانسانية.
في مواجهة النماذج الاقتصادية التقليدية، التي هي غير مستديمة وغير عادلة، تتحدى راوورث المجتمعات لإعادة تفكيرها وتنظر بطرق للتحرك من اقتصاد "الإنحدار المتزايد" و "الخطّي" (شعار: خذ – إعمل – إستعمل- إخسر) الى اقتصاد دوري و "متجدد". اقتراحها في قَسم اقتصادي (على غرار قسم ابقراط للاطباء) ايضا يتضمن بعدا أخلاقيا، عبر اقتراح مجموعة من المبادئ الاخلاقية لصنّاع السياسة الاقتصادية. هذه ترفض الرؤية الواسعة النطاق للاقتصاد التي ارتبطت بشكل مفرط بمعيار احادي للناتج القومي الاجمالي GDP. اقتصاد الكعكة بدلا من ذلك هو حول ما الذي يساعد الناس في كل المجتمعات لتزدهر وبما يعني ان "الثروة" هي اكثر من مجرد تراكم في رأس المال. هناك ثروة كافية للجميع، ولكن فقط عندما نقوم بتوزيعها بشكل اكثر عدالة، وايضا نأخذ على محمل الجد الادراك بان ما يجعلنا أثرياء لايمكن دائما قياسه بعبارات الناتج القومي الاجمالي، وانما بعبارات أكثر شمولية. "الثروة" هي كل ما يساعدنا لنزدهر : من المدارس الجيدة الى الهواء النظيف، ومن خدمات صحية فعالة الى بنية تحتية جيدة، ومن أمن الى حرية في التفكير والكلام والاجتماع. وبمقدار التأكيد على تلبية الحاجات الاساسية، فان هذا النوع من الثروة يعزز الرفاهية.
أول مبدأ لليمين الاقتصادي المقترح هو "العمل في خدمة ازدهار الانسان ضمن شبكة حياة مزدهرة"، المبدأ الثاني هو "احترام استقلالية الجاليات من خلال طلب انخراطها وموافقتها"، المبدأ الثالث هو "الحيطة في صناعة السياسة، والسعي لتقليل مخاطر الأذى"، المبدأ الرابع هو "العمل بتواضع".
تبنّي هذه المبادئ سيحبط عدد من السياسات الاقتصادية الحالية النشطة – أي سياسة تثري البعض على حساب البؤس المطلق للآخرين، او تفضل المكاسب القصيرة الأجل على الضرر البيئي الطويل الاجل، او تفضل الإزدهار الحالي على الرفاهية المطلقة لأجيال المستقبل، في الحقيقة، هي اي سياسة اقتصادية تحمل مخاطر كبيرة، سواء كانت للناس او للبيئة.
تحديات التحدي
بالطبع، قبول وتطبيق هذه الطريقة الجديدة في التفكير تواجه تحديات خطيرة. سننظر في اثنين منها هنا.
1- هناك قضية تتعلق في علم النفس. ان المبدأ القائل بان من واجب الناس الاستمرار في الشراء حتى يتمكن الاقتصاد من الاستمرار بالنمو قد استغل الرغبة الطبيعية في التملك لدى البشر الى حد ان الكثيرين يعتقدون الان ان لديهم الحق في توقّع المزيد والمزيد من السلع. الاخلاقيون ولفترة طويلة استمروا يشيرون بعبارات صارمة، الى النتائج السايكولوجية للرغبات غير المقيدة. لكن تحذيرا شديدا من المنابر والأعمدة الصحفية القصيرة يتم تجاهله بسهولة عند مواجهة الإغراءات المكرسة إعلاميا للاستهلاك : "امنحني زهدا ولكن ليس الان".
التعاون الاجتماعي هو دائما في أقصى قوته عندما يواجه المجتمع تهديدا وجوديا من الخارج. وعلى الرغم من ان غالبية الناس الان يقبلون بان تغيير المناخ حقيقي، لكن هناك رغبة قليلة لإتخاذ اجراءات تقود لتخفيض في مستويات المعيشة، حتى عندما تكون هناك فوائد للمجتمع. في عيون معظم الناس، هذه الفوائد تبقى نظرية وربما غير مرغوبة. النشطاء ربما أوقفوا السفر لغرض الحفاظ على البيئة لكن معظم الناس يريدون قضاء اجازاتهم تحت الشمس.
2- التحدي الثاني هو الوقت. ترويج نموذج اقتصادي جديد هو اولاً مسألة كسب للقلوب والعقول – عملية طويلة شاقة – و ثانيا،يتطلب حساب مفصل لإنعكاس ذلك على الجاليات. لكن الزمن هو قصير نسبيا. هناك احتمال قوي بان بعض عمليات تغيير المناخ لا يمكن الآن وقفها او إبطالها. الكوارث قد لا تضرب البلاد الاّ من مسافة قصيرة، وحينذاك سيكون قد فات الأوان لمنع تأثيراتها. انت لا تستطيع بناء دفاعات قوية لتأمين الغذاء عندما يتسرب الماء سلفا من تحت الباب الأمامي: في الوقت الذي يحصل فيه نموذج الكعكة على جاذبية هامة، سيكون العالم مكانا مختلفا جدا. الاتجاهات نحو عادات مختلفة هي صالحة، وثمينة، لكنها لا تعالج المواقف الملحّة والعاجلة. عندما يعيد المناخ صياغة ذاته ويبقى السياق السياسي يتحرك نحو المصلحة الوطنية الذاتية (وربما قومية من الطراز القديم)، فان الفرصة لإتفاق عالمي فعال تتراجع، والتعاون المؤسس على قبول الإعتمادية الانسانية المتبادلة يصبح هو الإستثناء وليس القاعدة.
استنتاجات
ماذا يبقي اذاً عندما تبدو التحديات هائلة؟ وجد العديد من الذين يتبنّون المحاذير ويدعون للتغيير، ان نشاطهم يمنع الوصول الى حافة اليأس. الانسحاب يقود فقط الى الكآبة. ما يبقى هو شكل من الأمل الثوري. يقوم المرء بما هو مناسب في اللحظة المناسبة: العيش ضمن حدود، في خط يتماشى مع حاجات الكوكب ومع انسانيتنا، يضع مثالا للكيفية التي يمكن ان تكون بها الحياة مختلفة بدون إطراء للذات او إشارة لفضيلة. يستمر بالعمل لإحداث تغييرات ضرورية لتأسيس مجتمع جيد يزدهر فيه الجميع. فرد يؤمن بانه مهما ينتج عن تغيير المناخ من كوارث، لايزال هناك عالم وان المرء يستطيع ويجب ان يعيد البناء على أساس سليم. ذلك ما تتطلبه العدالة بين الاجيال: الهدف هو ان نكون أسلافا جيدين. نعيش في أمل ان مُثل الإعتدال والشجاعة والحكمة والعدالة سوف توفر ذلك الأساس.
ان أعلى فضيلة لإقتصاد الدونات هي ان يحفز ذلك الأمل الراديكالي من خلال الاهتمام الشامل بحفظ الشبكة المعقدة للحياة وبما يعزز رفاهية جميع الشعوب حاليا وفي المستقبل.
***
حاتم حميد محسن
........................
الهوامش
(1) اقتصاد الدونات (الكعكة) هو نموذج عمل واطار يهدف لتحقيق التوازن بين حاجات الناس من جهة وضرورات الكوكب من جهة ثانية. اُدخل النموذج لأول مرة عام 2012 من قبل استاذة الاقتصاد الانجليزية كيت روث في تقرير لأوكسفام، ومنذ ذلك الوقت نال النموذج دعما دوليا بما في ذلك الامم المتحدة. يرتكز النموذج على فكرة ان الاقتصاد يجب ان يكون متجددا وتوزيعيا، والانسانية يجب ان تلبي حاجات جميع الناس على الكوكب ضمن وسائل العيش. النموذج يتجسد بحلقتين متحدتين في المركز مع فجوة في الوسط. في النموذج يبدو المجتمع يشبه قطعة الدونات الدائرية الشكل حيث يمثل الجزء الداخلي من الكعكة الحد الادنى من مستوى المعيشة بينما السقف البيئي يمثل الجزء الخارجي من الكعكة. بين السقف البيئي والحدود الاجتماعية توجد منطقة (مثلى) آمنة بيئيا وعادلة بنفس الوقت. الأساس الاجتماعي او الحدود الاجتماعية تضمن ان لا يُحرم احد من ضرورات الحياة مثل الطعام ودخل للعيش والماء والرعاية الصحية والتعليم والطاقة والمساواة بين الجنسين والمساواة الاجتماعية والمشاركة والعمل والحصول على سكن. اما السقف البيئي يضمن ان الانسانية لا تتخطى حدود الكوكب التي تحمي الانظمة الداعمة للحياة على الارض، مثل فقدان التنوع البيئي وتلوث الهواء وتدهور طبقة الاوزون. الهدف النهائي للنموذج هو تمكين المجتمعات من عمل خيارات ايجابية والعيش بتوازن.