قراءة في كتاب

مرتضى السلامي: على دروب الحداثة.. تأريخ نقدي لتجربة الفكر العربي

نواصل اليوم رحلتنا في استكشاف رؤى الدكتور عبد الإله بلقزيز، ونتوقف عند الفصل الرابع من كتابه "من الإصلاح إلى النهضة". هذا الفصل، المعنون "نحو كتابة تاريخ فكرة الحداثة في الوعي العربي"، لا يقدم سرداً تاريخياً تقليدياً، بل يضع بين أيدينا إطاراً منهجياً ونظرياً لكتابة هذا التاريخ، محاولاً تفكيك المسلمات الشائعة وتقديم رؤية نقدية لمسار الحداثة العربية، بما في ذلك أصولها، وآليات انتشارها، وأنماط استقبالها، ومراحل تطورها.

مداخل الحداثة إلى الثقافة العربية: الفن والفكر والفجوة بينهما

يلفت بلقزيز الانتباه إلى أن الحداثة، كممارسة وتعبير، طرقت أبواب الثقافة العربية بقوة لافتة من خلال الأدب والفن، بدءاً من منتصف الأربعينيات تقريباً. يشهد على ذلك مسرح توفيق الحكيم، وروايات نجيب محفوظ، وشعر نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وموسيقى الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، وسينما صلاح أبو سيف ويوسف شاهين. هذا المدخل الفني والأدبي، كما يشير المؤلف، سمح للحداثة بأن "تنتج معها جمهورها العريض" وأن تتجاوز بسرعة نسبية حالة "النخبوية" التي ترافق بدايات أي تيار فكري جديد. لقد أصبحت رموز الحداثة الفنية والأدبية، كـ محمود درويش وأدونيس وعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وحنا مينه ومرسيل خليفة، يمثلون مرجعيات راسخة وذات سلطان جماهيري يصعب منازعته.

لكن الصورة تبدو مختلفة حين ننتقل إلى رحاب الفكر والإنتاج النظري. فمع أن الحداثة ولدت أيضاً في هذا المجال، بل ربما كانت أسبق في بعض جوانبها على الحداثة الفنية، ومع وجود كوكبة واسعة من المفكرين العرب الذين خاضوا "مغامرات" فكرية حداثية كبيرة ومستمرة في مختلف حقول المعرفة – من طه حسين وعبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا وسلامة موسى، مروراً بعلي الوردي ومحمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي وحسين مروة وطيب تيزيني ومهدي عامل وسمير أمين وصادق جلال العظم، وصولاً إلى محمد عابد الجابري ومحمد أركون وحسن حنفي وهشام جعيط ورضوان السيد وجورج قرم وغيرهم – إلا أن نصوصهم الكبيرة، كما يصفها بلقزيز، ما زالت وستظل لفترة قادمة "نُصُوص نساك معتكفين في أديرة المعرفة لن يكون لها - شأن سائر النصوص النظرية - إمكان الفشو والسيادة".

هذه الفجوة بين تجذر الحداثة الفنية وسطحيتها النسبية في المجال الفكري النظري تثير تساؤلاً محورياً: "هل مفاد ذلك أن مغامرة الحداثة انتصرت في ميدان الإبداع وأخفقت في ميدان الفكر؟" ورغم أن المؤلف يرى أنه من المبكر التسليم بوجاهة هذه المعادلة، إلا أنه يقر بأن الحداثة تعاني كرؤية فكرية من "نقصاً حاداً في القدرة على منافسة نقائضها في حقل التأليف الفكري والثقافة السياسية العمومية". بل إن الأغلب الأعم من رموز الحداثة في الفكر بات لا يملك "مُكْنَة الدفاع عن الحداثة، بل قُلْ: عن صنعته الحداثية"، وبعضهم لم يعد يجد غضاضة في المساومة عليها. هذه المعاناة، كما يخلص بلقزيز، تعود إلى عاملين متضافرين: اندفاعة "التقليد" المتجددة، المدعومة بأزمات الواقع العربي (فشل الدولة الوطنية، التهميش، إخفاق التنمية، تصدع القيم، قمع الفكر النقدي)، و"هشاشة الحداثة الفكرية نفسها"، فهي لم تخض معاركها بصلابة كافية أو بارتباط عميق بالواقع كما فعلت الحداثة الفنية.

الحداثة والتحديث: تمييز منهجي حاسم

يعود بلقزيز ليؤكد على تمييز مفاهيمي ومنهجي يعتبره حاسماً لفهم التجربة العربية، وهو التمييز بين الحداثة والتحديث. فبينما "تعني الحداثة  - في تعريفها النظري الدقيق - الرؤية الفلسفية والثقافية الجديدة للعالم"، وهي منظومة أفكار تنتجها نخب ثقافية، فإن "التحديث، فهو فاعلية سياسية واجتماعية تَرُومُ تطوير بنى المجتمع والسياسة والاقتصاد" عبر سياسات وإجراءات تخطط لها وتنفذها الدولة. مستفيداً من ملاحظة عبد الله العروي، يرى بلقزيز أن الوطن العربي غالباً ما شهد تجارب "تحديث (مادي) من دون أن يعيش تجربة الحداثة (الفكرية والثقافية)". والأخطر أن "التقليد المجافي للحداثة... قد يتعايش مع التحديث... وقد يوظفه في إعادة إنتاج نفسه كتقليد!".

في أصول الحداثة الغربية: قطيعة العقل والإنسان

لفهم طبيعة الحداثة التي يتفاعل معها العرب، يحلل المؤلف بإيجاز تكوين الحداثة في موطنها الأوروبي. فالحداثة، وإن نشأت في رحم تحولات أوروبا التاريخية، شكلت "علاقة قطع أو قطيعة بالمعنى الفُوكوي" مع النظام المعرفي للعصور الوسطى، وأسست لنظام معرفي جديد. ويحدد بلقزيز ملمحين رئيسيين يؤسسان براديغمات الحداثة هما: "تنزيل العقل منزلة السلطة المرجعية المعرفية الوحيدة في إدراك العالم الطبيعي والاجتماعي، وتكريس الإنسان هدفاً نهائياً للتحرر والتقدم". أو بعبارة أخرى: العقلانية والإنسانوية.

فالعقلانية الحديثة، التي تختلف عن اليونانية القديمة، نشأت في صراع مرير مع لاهوت الكنيسة، واستفادت من الإصلاح الديني لكنها تجاوزته نحو مرجعية العقل وحده. أما الإنسانوية، فمثلت قطيعة مع النظرة اللاهوتية التي همشت الإنسان وجعلته "رعية"، وأحلته "محلّ المركز من الوجود بعد أن كان من الوجود على هامشه". وقد تطورت من فكرة الحق الطبيعي إلى العقد الاجتماعي وحقوق المواطن، وترجمت عملياً في الثورات الحديثة. فبانتصار العقلانية والإنسانوية، "فتح الباب أمام الحداثة: رؤية فلسفية ونظاماً اجتماعياً - سياسياً تمثل الديمقراطية اليوم تعبيره المادي والمؤسسي". ولكن يجب فهم هذا الميلاد في سياقه الأوروبي الخاص.

عنف الحداثة وانتشارها العالمي: عندما تأتي الأفكار على ظهور الدبابات

ثم ينتقل بلقزيز إلى تحليل الطريقة التي انتشرت بها الحداثة الأوروبية عالمياً، وهو ما يفسر جزءاً كبيراً من إشكاليات تلقيها في العالم العربي وغيره. فمنذ مطلع القرن التاسع عشر، بدأت الحداثة الفكرية الأوروبية تزحف خارج حدودها، ولكنها لم تقتحم العوالم الجديدة عبر الحوار الثقافي، بل "أطلت على تلك العوالم بوسائط غير ثقافية وبغير قليل من العنف الرمزي". لقد "أتت الحداثة في ركاب الحملات الاستعمارية الأوروبية... وتَعَرَّف إليها مثقفو وأدباء هذه المجتمعات كثقافة لأوروبا الغازية الظافرة وليس كمنظومة أفكار مستقلة عن الغالب الأوروبي". تم "زرع" الحداثة الثقافية، والرأسمالية، والدولة الحديثة في المستعمرات بعمليات "قيصرية" دمرت البنى التقليدية السابقة. لم تنشأ هذه المنظومات الجديدة بشكل طبيعي، بل كـ"انقلاب خارجي فرض - بالعنف المادي والرمزي - هذه المنظومات الجديدة في مجتمعات لا يُسْعِفُها تاريخها باستقبالها كتحولات طبيعية". فالحداثة "لم تقترح الحداثة نفسها - إذاً بطريقة حضارية «إقناعية» على المجتمعات والثقافات التي اقتحمت قلاعها المحروسة. بل أتتها على حين غرة متوسلة بالغزوة الاستعمارية حاملاً لها ومُحَقِّقاً". ورغم أن عنف الحداثة هذا كان كافياً لرفضها، إلا أن البعض رأى ضرورة الأخذ بها لاكتساب القوة.

أنماط الممانعة الثقافية في مواجهة الحداثة الوافدة

في مواجهة هذا الاقتحام العنيف للحداثة، أبدت المجتمعات غير الغربية، بما فيها العربية والإسلامية، أشكالاً مختلفة من "الممانعة" أو المقاومة الثقافية. يصنفها بلقزيز إلى ثلاثة أنماط رئيسية:

الممانعة الحادة والشاملة (التقليدية الأولى): وهي رد فعل دفاعي كلي ومنكفئ إلى الذات والماضي، ظهر في فترة الصدمة الأولى للاستعمار (القرن التاسع عشر). وقد شارك العرب والمسلمون في هذا النمط من الممانعة الصينيين والهنود واليابانيين قبل تحديثهم. ويتمثل الجامع بين هذه الممانعات في "الرجوع الحاد إلى الماضي والتمسك به، وإحياء تقاليده... بحسبانه عنواناً لهوية تتعرض للتبديد". وقد مثلت هذا النمط في العالم العربي والإسلامي مراكز إسلامية عريقة كالأزهر والقرويين والزيتونة والنجف وقم، والتي يرى المؤلف أنها، رغم دورها الوطني سابقاً، تبدو اليوم "عالة على العقل الإسلامي".

الممانعة المتكيفة (الإصلاحية): وهي مقاومة لا ترفض الحداثة بالكامل، بل "تتكيف مع كثير من تلك المعطيات بهدف تغذية نفسها من جديد... متوسلة ببعض معطيات الحداثة وأدواتها". وقد اتخذت هذه الممانعة شكل رد فكري متكامل وبالغ الإيجابية هو "الفكر الإصلاحي الإسلامي للقرن التاسع عشر وفواتح القرن العشرين". هذا التيار انصرف إلى إعادة بناء خطاب إسلامي منفتح على معطيات العصر، وغرف من الحداثة الفكرية الغربية، خاصة في جوانبها السياسية، لكنه وضع نفسه في سياق الإسلام ومشروع ثقافي يهدف لمجابهة زحف الفكر الغربي. وقد شملت خارطة انتشار هذا الفكر أهم مراكز الثقافة في البلاد العربية والإسلامية، من مصر (العطار، الطهطاوي، عبده) إلى سوريا (الكواكبي، رشيد رضا) وتونس (خير الدين) والمغرب (الحجوي) وإيران (النائيني) والهند (إقبال).

الممانعة البعدية (الإحيائية الرفضوية): وهي ممانعة متأخرة زمنياً، تعود إلى الربع الأخير من القرن العشرين، وتظهر بعد أن تكون الحداثة قد حققت انتشاراً نسبياً في تلك المجتمعات. وتكتسب هذه الممانعة شكلاً "رفضوياً حاداً لِكُلّ ما هو حديث على خلفية برانيته واقترانه بالقوى الصليبية المعادية للأمة". ويرى المؤلف أن أكثر المجتمعات العربية والإسلامية انفتاحاً على الحداثة سابقاً هي نفسها أكثرها توليداً لهذه الظاهرة (أمثلة: مصر وإيران في السبعينيات، ثم تركيا وتونس وباكستان وإندونيسيا في الثمانينيات). وتتمثل هذه الممانعة في الكتابات الإسلامية التي خرجت من رحم فكر سيد قطب، وصولاً إلى التيارات الجهادية المعاصرة، والتي تدور حول ثنائيات الفكر والإيمان والصليبية والإسلام والجهاد والعدوان، وتجتمع على نظرة إنكارية للآخر الغربي والعودة للأصول والسلف.

ويشير المؤلف إلى أن هذه الأشكال الثلاثة من الممانعة قد تتداخل وتتعايش زمنياً، وأنها جميعاً، بدرجات متفاوتة، ساهمت في التأسيس الثقافي لأيديولوجيا سياسية وطنية ضد الاحتلال، غالباً بالتركيز على العامل الخارجي وإغفال مثالب الداخل.

تحقيب مقترح للحداثة العربية الإيجابية: ميلاد، عنفوان، وأفول

مقابل هذه الممانعات، كان هناك مسار آخر من الاستقبال الإيجابي للحداثة والانفتاح عليها. يقترح المؤلف تحقيب هذا المسار في ثلاث لحظات أو أطوار، مستلهماً الدورة الخلدونية:

لحظة التأسيس والاندفاع ("اندفاعة ميلاد"): وتمتد من منتصف القرن التاسع عشر. تميزت هذه اللحظة بولادة رؤية حداثية عربية منفصلة تماماً عن الرؤية الإسلامية التجديدية، ومستمدة بشكل مباشر من الفكر الأوروبي الحديث الذي أنجز قطيعته مع اللاهوت المسيحي. وليس مصادفة، كما يرى المؤلف، أن الموضوعات الأولى التي شغلت الليبرالية الحداثية العربية اتصلت بمسائل الدين والعلم ومناهضة رجال الدين وسلطانهم السياسي. ومع الشدياق والشميل وأديب إسحق وفرح أنطون، خرجت مقالة علمانية عربية إلى الوجود، تميزت باندفاعة تجرأت على نقد كل ما بدا قرينة على الانحطاط، بما في ذلك الدين. ورغم تعرض بعض رموزها للقمع والتراجعات (مثل ما حصل لطه حسين وعباس محمود العقاد وخالد محمد خالد في الثلاثينيات وما تلاها بعد المحاكمات الفكرية)، استمرت فيها الجرأة عند آخرين مثل سلامة موسى. وقد تأخرت المقالة الحداثية السياسية قليلاً في التعبير عن نفسها مقارنة بالفلسفية، لكنها لم تكن أقل اندفاعاً، كما يظهر في ترجمة لطفي السيد لكتاب "السياسة" لأرسطو، كفعل رام القول بأن العرب لم يعودوا بحاجة لمدونتهم التقليدية لتأسيس نظرية السياسة. وكان أعلى أشكال هذه الاندفاعة ما تحقق في مجال اللغة والأدب والفن.

لحظة العنفوان والسيادة ("ظفراوية عنفوان"): وتمتد بين مطلع الخمسينيات ومنتصف السبعينيات من القرن العشرين. في هذه الفترة، بدت الحداثة العربية وكأنها زادت جرعة التعبير عن نفسها، وكانت تياراتها صاخبة والمناخ السياسي العام يسعفها. شهدنا ميلاد نظرة علموية، وداروينية اجتماعية عربية، وفلسفة وجودية، وفورة في الاشتغال بمفاهيم التحليل النفسي، وفلسفة بنيوية زاحفة. وترافق هذا العنفوان في الفكر مع عنفوان في السياسة والاقتصاد، حيث استقر اليسار قوة مستولية على السلطة أو المنابر الثقافية. وفي الاقتصاد، بدت التنمية الاشتراكية عنواناً لاندفاعة الحديث إلى حده الأقصى. الأهم في هذه المرحلة أن الحداثة لم تعد محط شبهة وطنية أو قومية، بل تعربت سياسياً واكتسبت شرعية داخلية وجمهوراً عريضاً، وآلت إليها سلطة الاتهام، فقدحت في القوى الدينية واتهمتها بالتحالف مع الرجعية والإمبريالية.

لحظة التراجع والانزواء ("تهافت التراجع"): بدأت نذر تراجع فكرة الحداثة مبكراً منذ النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، وإن استمرت بعض تعبيراتها عقداً آخر. وكان هذا التراجع في امتداد تراجع عام أطلقه انكسار المشروع القومي العربي بعد حرب 1967، وتوجته هزيمة المعسكر الاشتراكي. ورغم أن بعض الفحص النقدي بدأ مبكراً مع تنبيهات عبد الله العروي وياسين الحافظ حول عدم تطابق الحداثة مع حاجات الواقع وعمق التأخر التاريخي، إلا أن هذه الوقفة النقدية ضاعت في صخب المكابرات الأيديولوجية الحداثوية. وحينما بدأت مقاليد السلطة الثقافية تعود لقوى الإحيائية، سارع بعض بقايا الحداثيين إلى تقديم "التوبة والاعتذار" عن كل ما آمنوا به سابقاً، والتصالح مع "غرب جديد هو الغرب الأمريكي وثقافته الاستئصالية"، بل والدعوة للتحالف معه ضد "الخطر الأصولي". ويرى بلقزيز أن هذا التهافت على يد "سقط المتاع" ممن كانوا فرسان الحداثة سابقاً، يعيد الاعتبار للنظرة الخلدونية التي ترى أن الدول والأفكار تمر بأطوار ثلاثة: استواء ونهوض وأفول.

هكذا، يرسم لنا الفصل الرابع إطاراً شاملاً لتأريخ ونقد تجربة الحداثة في الفكر العربي، مبرزاً تعقيداتها منذ لحظة التلقي الأولى مروراً بمراحل مختلفة من الصعود والهبوط والمقاومة، وصولاً إلى أزمتها الراهنة.

***

مرتضى السلامي

.........................

- ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (5)

في المثقف اليوم