قراءة في كتاب

مرتضى السلامي: في محراب النهضة.. عبد الإله بلقزيز وقيمة الفكر الحداثي العربي

حين يستهل مفكرٌ مرموقٌ كالدكتور عبد الإله بلقزيز مشروعاً فكرياً ضخماً يتناول مسيرة "العرب والحداثة"، فإن عتبات هذا المشروع، ممثلةً في مقدمات كتابه الأول "من الإصلاح إلى النهضة"، تكتسب أهميةً استثنائية. فهي لا ترسم خريطة الكتاب فحسب، بل تكشف عن رؤيةٍ عميقةٍ وموقفٍ نقديٍّ من واقع الفكر العربي وتاريخه، وتقدم مبرراتٍ قويةً لضرورة العودة إلى ينابيع الحداثة الأولى.

يستهل بلقزيز مقدمتيه، اللتين تفصل بينهما سنواتٌ سبع (2006 و2013)، بتشخيصٍ واضحٍ لمشهدٍ ثقافيٍّ عربيٍّ شهد، في العقود الأخيرة، "انحسار نفوذ أفكار الحداثة" وصعوداً موازياً لـ"دعوات الأصالة". هذا التحول، في نظره، لم يكن مجرد تبدلٍ طبيعيٍّ في التيارات الفكرية، بل صاحبه "حيف شديد وتهميش كبير" لخطاب الحداثة ورواده، غالباً من قبل مؤرخين انطلقوا من "مقدمات أيديولوجية" معادية للحداثة. من هنا، ينبع الهدف الأساسي للكتاب: "إعادة الاعتبار" لهذه المساهمة الفكرية والثقافية الجليلة، ليس كنوعٍ من الحنين إلى الماضي، بل كضرورةٍ لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.

فخطاب "الأصالة"، على ما امتلكه من "طاقة حركية هائلة" وقدرة على التعبئة والحشد، أثبت، في رأي بلقزيز، "قصوراً فكرياً" وعجزاً عن تقديم إجاباتٍ شافيةٍ لأسئلة التقدم والمستقبل. بل إنه أمعن، في بعض تجلياته، في "الانكفاء على الذات والانسحاب من العصر ومخاصمته"، ولم يرقَ حتى إلى مستوى الطموح الذي ميز الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر. في مقابل ذلك، يؤكد المؤلف أن الحداثة ليست شيئاً وراءنا، بل هي "أمامنا"، تمثل المستقبل الذي لا ينبغي أن نتردد في اقتحامه خشيةً زائفةً على الهوية.

وهنا، يفصح لنا بلقزيز عن قناعته العميقة التي تشكل قلب رؤيته ودافع مشروعه، فيقول بكلماتٍ تستحق أن تُنقش في ذاكرة كل باحثٍ عن النور: "وفي وسعي الآن أن أفصح عن سبب ثالث هو اقتناعي بأن خطاب الحداثة في الفكر العربي - وكائنةً ما كانت درجة نقدي له في الكتاب - أعمق وأرصنُ من غيره فكرياً ومنهجياً وإشكالياً، وأغنى معرفياً، و - قطعاً ـ أقل أيديولوجية وشعبية، إلى كونه أكثر اتصالاً بالمعارف الإنسانية الحديثة والمعاصرة، وأشدَّ ارتباطاً بأسئلة العالم وقضاياه، وأكثر قابلية للإصغاء إلى معطيات الفكر الإنساني، وأقل إصابة بمرض المركزية الذاتية والاعتداد النرجسي بالنفس، أي أقل إصابة بالأمراض التي تمنع الفكر من التطور. وهذه - في ما أزعم - أسباب كافية للاعتناء به، وإعادة الاعتبار إلى مساهمته الفكرية في الثقافة العربية".

إن هذا الكلام هو بمثابة شهادةٍ فكريةٍ بليغة. فالمؤلف، وهو الذي لا يتوانى عن ممارسة "النقد الحاد" لخطاب الحداثة نفسه وتناقضاته، يرى فيه مع ذلك قيمةً جوهريةً لا يمكن إنكارها. إنه "أعمق وأرصن" على الصعيد الفكري والمنهجي وقدرته على صياغة الإشكاليات، و"أغنى معرفياً" بانفتاحه على منابع المعرفة المتنوعة. كما أنه، في نظر بلقزيز، "أقل أيديولوجية وشعبوية"، مما قد يعني نقاءً فكرياً أكبر وابتعاداً عن التبسيط المخل الذي قد تتسم به الخطابات التعبوية.

وتتجلى قوة هذا الخطاب الحداثي في كونه "أكثر اتصالاً بالمعارف الإنسانية الحديثة والمعاصرة، وأشدَّ ارتباطاً بأسئلة العالم وقضاياه". هذا الانفتاح على الفكر الكوني، وهذا الاستعداد "للإصغاء إلى معطيات الفكر الإنساني"، هو ما يمنحه القدرة على التطور ويحميه من "مرض المركزية الذاتية والاعتداد النرجسي بالنفس"، تلك الأدواء التي، كما يصفها المؤلف، "تمنع الفكر من التطور".

لهذه الأسباب مجتمعة، يرى بلقزيز أن الاعتناء بهذا الإرث الحداثي ليس ترفاً، بل هو واجبٌ فكريٌّ. فالكتاب يهدف إلى تصحيح التهميش التاريخي لهذا الخطاب، ويؤكد على ضرورة أن يشمل تأريخ الفكر كل التيارات دون انتقائية، وينطلق من إيمانٍ بالعمق الفكري والمعرفي والمنهجي للحداثيين وقدرتهم على التجدد. كما يشيد المؤلف بتلك الروح النهضوية التي تحلى بها الرواد الأوائل، وغيرتهم الصادقة على تقدم أمتهم.

ولكي يقدم دراسةً منهجية، يوضح بلقزيز أن كتابه سيركز بشكلٍ أساسي على الطور "الابتدائي" لخطاب الحداثة، أي منذ نشأته وحتى منتصف القرن العشرين، وهي مرحلةٌ لم يكن فيها مفهوم "الحداثة" قد اتخذ شكله المكتمل بعد، بل كان يتجلى في مفاهيم كـ"المعاصرة" و"التقدم" و"التنوير". وينقسم الكتاب إلى أقسامٍ ثلاثة: الأول يتناول مقدماتٍ عامة حول جدل الأصالة والحداثة وإشكالية الأنا والآخر؛ والثاني يدرس تكوين فكرة الحداثة وتطورها ونقدها؛ أما الثالث فيحلل مفاهيم رئيسية (كالحرية والدستور والعقل) لدى ثلاثة مفكرين بارزين (يتبين أنهم مصريون) كدراساتٍ تطبيقيةٍ. وقد أضاف المؤلف في الطبعة الثانية فصلاً جديداً عن أحمد فارس الشدياق، ليكون نموذجاً تطبيقياً لإشكالية "الآخر" في الوعي العربي.

إن مقدمتي كتاب "من الإصلاح إلى النهضة" ليستا مجرد مدخلٍ إجرائي، بل هما بيانٌ فكريٌّ عميقٌ يضع القارئ في قلب السجال الثقافي العربي، ويكشف عن مشروعٍ يهدف إلى إنصاف الحداثة ونقدها في آنٍ واحد، مؤكداً على ضرورتها الفكرية لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، واستعادة تلك "اللحظة الفكرية النهضوية" التي يمكن أن تسهم في "تهوية" المجال الفكري العربي المعاصر الذي قد يعاني أحياناً من الاختناق.

***

مرتضى السلامي

 

في المثقف اليوم