قراءة في كتاب
ثامر عباس: ماركس ومجتمعات ما قبل الكولونيالية
قراءة في كتاب (ماركس ومجتمعات الأطراف)
لطالما كانت شخصية (كارل ماركس) كفيلسوف والنظرية (الماركسية) كفلسفة، محط اهتمام الكثير من الدراسات والأبحاث التحليلية والتأويلية والنقدية في جميع أنحاء المعمورة، ليس فقط من جانب تيارات المريدين والمؤيدين فحسب، بل ومن جانب جماعات المناوئين والمعارضين كذلك. ذلك لأن النص الماركسي نص إشكالي بامتياز كونه يشتمل على مضامين فائضة بالمعاني وطافحة بالدلالات على أكثر من مستوى وفي أكثر من مجال. وهو ما أشار إليه مؤلف الكتاب بالقول (ان رائعة ماركس هذه سيمفونية قابلة للعزف عزفا"متنوعا"، بل حتى هي نصّ في سيرورة تطور)، للحد الذي يمكن وسمه – إن جاز لنا القول - بالخاصية (الجانوسية) التي تنطوي على الاتساع في الرؤى والشمول في الاتجاهات والعمق في الحفريات. فهو من جهة، عصيا"على التأطير والتموضع ضمن قوالب نظرية جاهزة، بحيث تصلح في مكان ولا تصلح في مكان آخر، مثلما انه لا يندرج ضمن سياقات تاريخية وحضارية ثابتة، بحيث يفقد حيويته وصلاحيته في المراحل الزمنية التالية لمرحلة تكوينه. ولكنه، من جهة أخرى، أضحى – بسبب هذا الغنى وهذا التنوع – قابلا"للتحوير والتأويل من قبل جماعات وتيارات شتى، سواء تلك التي تزامنت مع ظهوره أو تلك التي جاءت بعد انتشاره.
ومن جملة هذا النتاج الهائل من البحوث والدراسات التي تناولت الفكر الماركسي بالتحليل والتأويل، فان كتاب أستاذ العلوم الاجتماعية والسياسية في جامعة كاليفورنيا (كيفن ب أندرسون) يعد علامة نوعية فارقة في هذا المجال، ليس فقط لأنه حاول إعادة الاعتبار لمواقف (ماركس) المهملة أو المنسية، لاسيما ما يتعلق بطبيعة نظرته وخصوصية تصوراته حيال المجتمعات ما قبل الغزو الكولونيالي فحسب، وإنما لجهة متابعاته الشخصية واهتماماته الذاتية بصدد تطوير مقارباته الفكرية والاجتماعية والحضارية باتجاهات أكثر واقعية وأكثر إنسانية، بعد أن كانت حبيسة الرؤى (المركزية) والنوازع (الاستعلائية) التي تم اكتسبها خلال فترة تأثره بفلسفة التاريخ لأستاذه (هيجل). ولهذا فقد لاحظ مؤلف الكتاب (اندرسون)، انه (في مقالات ماركس عام 1835 يظهر أيضا"تأثير هيجل، وعلى نحو خاص كتابه فلسفة التاريخ، (إذ) يؤكد عالم الاجتماع الفرنسي ميخائيل لويي ومعه آخرون، على أن تأثير هيجل في ماركس ينحو به نحو تبني نظرة (غائية وأوروبية مركزية) للتطور التاريخي في كتاباته، الأمر الذي ابتعد عنه لاحقا").
وفي إطار متابعته لمراحل تطور النزوع الحضاري والإنساني لأفكار ماركس على امتداد عقود القرن التاسع عشر، فقد سعى مؤلف هذه الدراسة القيمة الى تقسيم سيرورة تطوره الفكري والسياسي استنادا"الى مضامين المقالات التي كان يحررها الى الصحف الأمريكية واللندنية الصادرة خلال تلك الحقبة، فضلا"عن الدراسات والتحليلات التي كان يتعقب من خلالها أفكار وتصورات مؤرخي الاقتصاد السياسي وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا وأضرابهم، حيال طبيعة الأواليات والديناميات المسؤولة عن أنماط التطور الحضاري للشعوب الغربية وغيرها من شعوب المعمورة. هذا وقد تتبع (المؤلف) مسار التطور الفكري (التاريخي والسوسيولوجي) لماركس عبر حقبتين أو مرحلتين أساسيتين هما؛ الأولى حقبة إصدار المانفيستو (البيان الشيوعي) الممتدة زمنيا"على مدى ما يقارب العقد من القرن التاسع عشر 1844 – 1853، وذلك باعتبار ان ماركس شرع في كتاباته منذ هذا التاريخ يصف المجتمعات التشاركية التقليدية، بدلا"من كونها منع (للاستبداد الشرقي، فإنه صار يصفها الآن بنظرة محايدة أو حتى بلفتة المتعاطف، ص228).
وأما الحقبة الثانية فهي التي شهدت إصدار كتابه المسمى (الغروندريسة) – الذي لم ينشر إلاّ بعد مضي خمسون عاما"على وفاة ماركس، وهو يعد اليوم نصا"رئيسيا"في نقد الاقتصاد السياسي للرأسمالية، ويأتي من حيث الأهمية بعد رأس المال مباشرة – هذا بالإضافة عمله الرئيسي في كتابه الشهير (رأس المال). ففي حين (كان ماركس في خمسينيات القرن التاسع عشر، يميل الى التركيز على الدور التقدمي للرأسمالية الغربية في خلخلة حالة الركود الشرقي، فإنه بوصوله الى هذه المرحلة التي بدأ فيها تجهيز نصّه الاقتصادي الأساس (رأس المال)، صار أقل ثقة بأنّ المجتمعات القديمة لا تحتوي على أيّة عوامل ايجابية. فنجده الآن يشير الى استقرار مجتمعات القرية القديمة بشكل يوحي بأنه يجد فضيلة أصلية في نمط حياتها هذا (...) إنّه يصعّد الآن من حدة نقده للمجتمع البرجوازي ولفاعلية النظام الرأسمالي كمنظومة اقتصادية. وبالتوازي تقل ملاحظاته المتساهلة، وتتصاعد لهجة الإدانة القاطعة حدة. وفي حين كانت البرجوازية تحظى منه عام 1847 ببعض الاستحسان لدكها الأسوار الصينية للبربرية، صار (النمط الآسيوي) عام 1867 يحظى بملاحظات استحسان منه، وتحديدا"ما يخص مجتمعات القرية التي صارت تقيّم بأنها حصون في وجه التفسخ الاجتماعي، ص237).
والحال، ما الذي غيّر التوجهات الفكرية والمنهجية (لكارل ماركس)، بحيث يطرأ على مواقفه وطروحاته هذا الانزياح من محدودية النزعة (الغربية) ذات الطابع (الاستعلائي) الى شمولية النظرة (الأممية) ذات البعد (الإنساني) ؟!. الحقيقة ان هناك عدة عوامل ذاتية وموضوعية - أسهب (المؤلف) في شرحها ضمن مؤلفه - ساهمت بحدوث هذا التغيّر والتحوّل، لعل من أبرزها نشاط الحركات الثورية والاستقلالية التي فاعلة ومؤثرة في كل من (ايرلندا) و(أمريكا) للمطالبة بالحصول على استقلالها عن هيمنة الكولونيالية البريطانية. ففي رسالة موجهة منه الى انجلس يشير خلالها الى (أن موقفه من القضية الايرلندية قد تطور (حيث) كنت أعتقد في السابق ان انفصال ايرلندا عن بريطانيا أمر مستحيل. أما الآن فإنني أعدّه أمرا"حتميا"، بالرغم من أن الفيدرالية قد تتبع هذا الانفصال. ص188)
هذا من جانب، أما من الجانب الآخر المتعلق بالعامل الذاتي لطبيعة الشعوب المستعمرة (بالفتح)، والذي أفضى الى حصول ذلك التحول النوعي في وجهة نظر ماركس حيال تلك الشعوب الطرفية. يمكننا القول أنه بعد أن كان يصنف هذه الشعوب ضمن خانة (الاستبداد الشرقي) الذي اعتقد انه كان من أبرز الأسباب التي وضعت تلك الشعوب على قائمة الغزو والاستعمار من جهة، وحال دون انخراطها في سيرورات التطور الحضاري التي انتهجتها المجتمعات الغربية من جهة أخرى. وحيث أنه (كلما تغلغلت الحداثة الرأسمالية في روسيا وآسيا مقوّضة الأنظمة ما قبل الرأسمالية لهذه المجتمعات، بزغت مواقع مقاومة جديدة. ورأى ان هذه المقاومة ضد الرأسمالية ستتخذ من هذه التشكيلات الاجتماعية التشاركية بؤرا"لها. وسواء كان اهتمامه منصبا"على الفلاح في القرية الروسية، أم المزارع الأجير في ايرلندا، أم ذلك العامل المهاجر الى بريطانيا، المزارع الأسود المعتق حديثا". فان ماركس واصل البحث عن حلفاء للطبقة العاملة في النضال ضد رأس المال، ص20).
ولهذا فقد عمد الى إعادة الاعتبار الى ما كان قد أهمله وازدراه لدى تلك الشعوب من طاقات ثورية وإمكانات نضالية ونزعات استقلالية، ليس فقط من منطلق اجتماعي وإنساني وحضاري فحسب، بل ومن منطلق فكري وسياسي وإيديولوجي كذلك. بحيث (ان وجهة نظر ماركس تغيّرت بين الأربعينيات وأواخر الخمسينيات بالنسبة لموضوع الهند وروسيا من منظور ينظر إليها بنظرة حداثية وغير نقدية نسبيا"نحو رؤية تأخذ بعين النظر الطاقات التحررية الكامنة الداخلية لهذه المجتمعات. ص185). وهو الأمر الذي أفضى الى (تغيّر ما كان يعدّ (المعتمد الماركسي) مع الوقت، فلقد نظر إليه في بدايات القرن العشرين كمنظر للاقتصاد السياسي وبطل الطبقة العاملة الصناعية، ولاحقا"صار المفكر النقدي للحداثة الرأسمالية بمجملها، والفيلسوف الديالكتيكي الانسانوي، وعالم اجتماع الاغتراب، والناقد الثقافي. ص24).
وبدلا"من أن يكتفي (المؤلف) بتصويب الآراء الخاطئة والتصورات المبتسرة عن طبيعة التحولات الفكرية والسياسية التي تعرضت لها أفكار (ماركس) حيال مصائر أمم وشعوب الأطراف، فانه قدم لنا رؤية استشرافية لما ستؤل إليه إسهامات ماركس على صعيد السيرورات والديناميات المسؤولة عن دفع عجلات التطور الاجتماعي والحضاري لتلك الشعوب والأمم الى حيث تشرأب وتسعى، حيث (إنني اعتقد ان كتابات ماركس التي تناولتها في هذا الكتاب، سواء لأنها نظرية متعددة مسارات التطور الاجتماعي، أم لأنها منهج في البحث والتحليل والكشف يقدم لمصلحة الحركات الوطنية الأصلانية في وجه العولمة الرأسمالية، أم لأنها نظرية في علاقة وتداخل الطبقي بالأثني وبالعرقي وبالقومي، فان هذه النصوص التي عرضنا لها هنا هي على درجة عالية من الأهمية لأيامنا المعاصرة. ص356.). وفي السياق ذاته، فقد أبدى المؤرخ الألماني (هانز بيتر هارستيك) الذي نشر ملاحظات ماركس حول أعمال كوفالسكي الخاصة بالملكية العامة، وجهة نظر مماثلة حين أشار الى مغزى الانزياح الذي طرأ على أفكار ماركس خلال متابعاته لحركات التحرر الوطني والقومي ضد هيمنة واستغلال قوى الغرب الرأسمالي، معتبرا"إياها مرحلة جديدة (يحوّل فيها ماركس نظره عن المشهد الأوروبي نحو آسيا وأمريكا اللاتينية وشمالي إفريقيا. ص289).
***
ثامر عباس – باحث عراقي