قراءات نقدية
كريم عبد الله: قراءة تحليلية فلسفية في قصيدة: رفوف مفتوحة تراقص الغياب
للشاعرة: سلوی علي / السلیمانیة ـ العراق.
مرايا الغياب: تأملات في زمن الهذيان
***
رفوف مفتوحة تراقص الغياب
أفواه جائعة ترقد في مضاجع الصمت، كي تتوسد الأحلام بشهقات الذكريات وبقايا قطار هرم ينتظر الصفير في أزقة المقابر، ليرى كيف يبعث من داخل المنطق والفلسفة، كي يوقظ شهريار على ضباب ينوح بعزف منفرد يملأ الطرقات بخيول هائجة، لجيوش من الأشواق مرصعة ببيوض الحنين فوق خارطة صماء خرساء، فيغرق الشوق، ليأكله الغياب بأنياب الوقت، يتحرك بعطر سوسنة بين ملاجئ الهذيان . شُرخت نبضاتها منذ الشهقة الأولى حين سرق الطيف من لوحة الشمس.
سلوی علي / السلیمانیة ـ العراق .
***
المقدمة:
مرايا الغياب: تأملات في زمن الهذيان
هذا العنوان يعكس عمق التوتر بين الحضور والغياب، ويستلهم من الرمزية الفلسفية في النص، حيث يمزج بين الحلم والذكريات والعزف المنفرد، متناولًا الوجود واللاوجود في سياق يتجاوز الزمن والمكان. / مرايا الغياب / يشير إلى الأبعاد المتعددة التي يتخذها الغياب في القصيدة، بينما / تأملات في زمن الهذيان / تشير إلى الحالة النفسية والتفكك الزمني الذي يعمّ القصيدة.
القراءة:
في قصيدة / رفوف مفتوحة تراقص الغياب /، تضعنا الشاعرة سلوى علي أمام مشهد شاعري غارق في الرمزية والتأملات الفلسفية التي تتراوح بين الحضور والغياب، الوجود والعدم، الحلم والذكريات. هي قصيدة تفتح أبواباً عديدة من الأسئلة الوجودية والوجدانية، حيث تلتقي فلسفة الزمن مع عبثية اللحظة، ويختلط الحلم بالواقع لتشكيل حالة من اللامنطقية التي تصوغها الشاعرة بأسلوب شعري يطغى عليه الغموض ويأخذ المتلقي إلى عوالم غنية بالأفكار المتشابكة.
1. الغياب والحضور: لعبة الوجود واللاوجود
الشاعرة تبدأ قصيدتها بصورة غريبة لكنها مشحونة بالمعنى: / رفوف مفتوحة تراقص الغياب /. في هذه الصورة، لا نرى مجرد رفوف بل إشارات إلى / الفراغ / الذي يتراقص على هامش الوجود، وهو ما يشير إلى حالة من اللاوجود، أو ربما وجود مشوه. هناك تعبير عن غياب شيء ما، شيء ثمين فقدناه أو أضعناه في زحام الحياة، لكن هذا الغياب يظل متراقصاً أمامنا، يعيش معنا وداخلنا، يضفي على النص طابعاً من المأساة المرفقة بالحركة الدائبة، وكأن الغياب هو العنصر المتحكم في هذا الكون الفوضوي.
2. الجوع والصمت: مراثي الروح والذاكرة
تتبع القصيدة وصفاً مؤثراً لصور جوع الروح وصمتها: / أفواه جائعة ترقد في مضاجع الصمت /. هذا الجوع ليس جوعاً مادياً بل هو جوع معنوي؛ جوع للمعرفة، جوع للأمل، جوع للوجود في عالم يشوبه الصمت. يتوحد هذا الجوع مع حالة السكون التي تنتاب الذات، حيث ترقد الروح في صمتها كي تستعيد توازنها أو لتتوسد الأحلام على فراش الذكريات.
وفي السياق نفسه، تبرز الشاعرة بقايا / قطار هرم ينتظر الصفير في أزقة المقابر/. هذه الصورة محملة بالرمزية العميقة، حيث يتم تصوير الزمن والذكريات كمجموعة من القطارات العتيقة التي تتنقل بين الأزقة الضيقة للمقابر، في إشارة إلى أن الحياة تتسرب بين أصابعنا بينما ننتظر الموت أو النهاية بلا أمل واضح في المستقبل.
3. الفلسفة والمنطق: بعث شهريار وعبث الزمن
في محاولة للتعبير عن العلاقة بين الفلسفة والموت والذاكرة، تطرح الشاعرة فكرة فلسفية عميقة: / كيف يبعث من داخل المنطق والفلسفة، كي يوقظ شهريار على ضباب ينوح بعزف منفرد /. إشارة شهريار (رمز الحاكم المستبد في /ألف ليلة وليلة/) تشير إلى محاولة الإنسان الخروج من دائرة الزمن المغلقة عبر الحكاية والفلسفة. لكن رغم هذه المحاولات، يبقى العالم مغموراً في الضباب، لا يحتمل سوى الحزن والعزف المنفرد. كما تبرز صورة الجيوش والأشواق المرصعة بـ/ بيوض الحنين/ التي تملأ خارطة صماء خرساء، مما يعزز فكرة التوتر بين الوجود واللاوجود، وبين الحنين والفقد.
4. شبح الزمن: الأنياب والشوق
القصيدة تتعامل مع الزمن كقوة مدمرة وشريرة: / فيغرق الشوق، ليأكله الغياب بأنياب الوقت /. الزمن في هذه الصورة لا يتصرف كعنصر محايد بل كوحش يلتهم كل مشاعر الشوق والحنين التي تراكمت عبر السنين. هذا التناول الزمني يطرح إشكالية فلسفية حول التفاعل بين الإنسان والوقت، ويمثل الزمن في القصيدة قوة قاهرة تسرق الأحلام والآمال وتغرقها في بحور النسيان.
5. الهذيان واليقظة: سوسنة الزمن المنتهك
القصيدة تنتقل من مفهوم الغياب إلى مفهوم الهذيان، حيث تتحرك الذكريات / بعطر سوسنة بين ملاجئ الهذيان /. السوسنة هنا تمثل رمزاً للجمال والهشاشة، وأينما وُجدت كانت تجسد الرقة والضعف في مواجهة تيارات الزمن والوجود المتسارعة. وفي هذه الحالة، يتداخل الهذيان مع الواقع ليخلق حالة من التشويش التي تقوض المنطق. هنا، الزمن والذاكرة معاً لا ينطويان على يقين أو حقيقة ثابتة، بل يتحركان داخل دوامة من الأفكار المجزأة التي تشكل / ملاجئ / ذاتية.
6. الوجود الأول: الشهقة المسروقة من لوحة الشمس
/ شُرخت نبضاتها منذ الشهقة الأولى حين سرق الطيف من لوحة الشمس/. في هذه الجملة الختامية، تعيد الشاعرة تعريف البداية والنهاية بشكل فلسفي عميق. الشهقة الأولى هي لحظة الوجود الأولى، لكنها مشوهة، مسروقة من / لوحة الشمس /، التي هي في حد ذاتها رمز للضياء والمعرفة. هذا الطيف المسروق يرمز إلى فقدان البراءة أو المعرفة الأولى التي كانت تكمن في اللحظة الفطرية.
الخلاصة
قصيدة / رفوف مفتوحة تراقص الغياب / هي رحلة فلسفية عبر الزمان والمكان، عبر الغياب والحضور، عبر الذكريات التي تختلط بالأحلام، وفي مواجهة مع شبح الموت أو النهاية التي تقترب كلما حاولنا الهروب منها. الشاعرة سلوى علي تستخدم في قصيدتها أدوات الشعر الرمزي لتتناول موضوعات وجودية عميقة، ولتفتح أمامنا أبواب التساؤلات حول طبيعة الزمن والوجود والعلاقة بين الذاكرة والحياة.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق