قراءات نقدية
عدنان عويّد: دراسة نقديّة لرواية (وحوش في منزلي)

للكاتبة والروائيّة محبوبة محمد سلامة
محبوبة محمد سلامة - كاتبة وروائيّة، عملت معلمة للقراءات العشر للقرآن الكريم، وتدرس في رواق الأزهر الشريف للقرآن الكريم، كما تدرس في كليّة آداب جامعة القاهرة، قسم علم نفس وفي كليّة دار العلوم جامعة القاهرة. (سُقِيَتْ روحها بالقرآن وتشبع به حرفها وارتوى) كما يقول أحد نقاد أعمالها.
صدر لها: كتاب "جنود من عسل" – رواية "على شق الوسن" – رواية "دليلة" – كتاب "أمسك عليك قلبك" – رواية "ونراه قريباً" – رواية "يوم المزيد" – كتاب "أميرة الدموع وقلوب الزمن". ورواية "وحوش في منزلي" موضوع دراستنا.
الرواية في المضمون:
البنية الحكائيّة للرواية:
تعالج الروائيّة "محبوبة" في روايتها "وحوش في منزلي" قصة فتاة جامعيّة تزوجت بعد تخرجها من الجامعة في بداية العقد الثالث من عمرها، موظف حكومي، أنجبت له في ولادتها الأولى طفلة سمتها "مريم"، وبعد أربع سنوات جاء حملها الثاني بثلاثة توائم، ولدان وبنت هم "روح، وريحان، وريتال".
منذ الأيام الأولى للولادة بدأت التعب والارهاق يأخذ مأخذه من حياة الأم فكراً وجسدا. حتى راحت الكوابيس تلاحقها في نومها إن استطاعت النوم (انتفضت في يوم من نومي على احساس ألهب عقلي.. أيدي تتحسسني وتنهشني.. حاولت التملص والهرب لا مفر ولا مقر، اختلطت انفاسي بأنفاس من عند رأسي وهو يقترب من وجهي ويتحسس خدي وأنفي، حاولت فتح عيني لكن شعور من الارهاق والتعب قد أنهكني.. صرخت بداخلي.. ابعدوا عني لكن الصوت لم يتعدَ حدود عقلي وفكري.في لحظة سئلت نفسي.. هل أتمنى الموت الآن أم أنتظر قليلا ؟. وصدع الرفض في رأسي معلنا ان هذا التمني سيكون دليلاً على الاستسلام والهزيمة... فتحت عيناي بعد توسلي لها لتنفتح وتدع عنها سلطان النوم وآثامه فالنوم لم يعد مسموحا لي بعد الآن.). (4ص).
بعد خمسة عشر يوماً من ولادتها تقرر الرحيل من منزل أهلها إلى منزلها.. تتوسل أمها وأختها أن تبقى أياماً أخرى حتى تتعافى من آلام الولادة، إلا انها تقرر الذهاب أخيراً وهي تقول لأختها التوأم "هدى" على الهاتف التي نعتتها بالجنون على رحيلها إلى منزلها وترك منزل أهلها غير مراعية وضعها الصحي :(انت ناسية أن اختك بتمتحن، وأمك مش حمل مراعية أولاد بالوضع دا، وطبعا أبوك إن كان مش عاوز يزعلني ويتكلم فانا من غير ما يقول لازم أخلي، عندي دم إزاي راجل في سنه يستحمل صريخ ثلاث أطفال في وقت واحد !. انا مش بستعبط.. أنا بحاول ما ضايقش الي حواليا.).(ص6).
مع وصولها إلى منزلها، تبدأ مأساة أم وحيدة مع أربعة أطفال كلهم بحاجة لتأمين حاجاتهم ومتطلباتهم، من طعام ورضاعة وتنظيف وكل ما يتطلبه الطفل الرضيع... ويلها صراخهم الذي لا تعرف سببه، هل هو من الجوع أم من ألم ما: (وعلا صوت الصراخ، وشعرت بجسدي يسخن من أثر صوتهم ورأسي تكاد تنفجر، وتجمعت في عيني دموع القهر ورأيتهم كوحوش قد سكنت عالمي بملامح طفوليّة بريئة تخدع الأعين ويتملكوا بها القلب).(ص8) فتصرخ بأعلى صوتها وهي تقول لزوجها: (إبق الليلة دي كلها هناك جنب السرير وظل إسأل عليا من فترة للتانية لا يكون جرالي حاجة. ).(ص9 ).
وهكذا تمضي أيام التعب والشقاء مع (وحوشها) كما سمتهم، حتى راحت تنسى ذاكرتها أشياء مألوفة عندها كبعض آيات القرآن: (مر أول يومان لي دون نوم تماما، فجأة عرفت معنى الجنون من قلة النوم، نام اثنان وظل ثالثهم يبكي بدون سبب، غيرت حفاضه، أطعمته حتى اكتفى، أعطيته دواء المغص، أخذته في حضني كي يهدأ وكل هذا وما زال يصرخ خ خ خ.. أكاد أجن.. أصمت.. يكفيك.. ارحمني لكن يا ليته يفهم ، بدأت أربت علي ظهره حتى وجدتني أردد سورة الفاتحة ثم أوائل البقرة وأنهيت أول ربع ووقفت ولم أعد استطيع التكملة.. يالله أين ذهب الحفظ!! ما الآية التي بعدها ؟ ). (ص10).
إضافة لفقدان بعض ذاكرتها بدأت تشعر بخلل واضح في رويتها بسبب ما تعانيه من تعب وشقاء مع وحوشها: (رؤيتي صارت مشوشة، نظرت للسرير وجدته وقد امتلأ أطفالاً..ما يقرب من العشرة كلهم على السرير.. كدت أصرخ من الفزع ،إنه كابوس مخيف لا بد أنني نائمة، لكن يا ليته كان كابوسا كنت حينها سأفرح لأنني ذقت طعم النوم لكنه ضعف رؤية وتشوش من قلة النوم جعل عيناي ترى ما لم يتواجد في الحقيقة.). (ص11).
مشكلة أخرى حلت مع وحوشها... لم يوافقهم حليب أمهم، وهذا ما جعل زوجها يبحث عن عمل إضافي لتأمين مصروف العيال من حليب ودواء وغير ذلك.
كل ما كبر الأولاد يوما كبر همهم وازدادت حركتهم وعبثهم في محتويات البيت من نثر وتكسير لكل ما يقع تحت أيديهم إضافة لإذاء أنفسهم. كل هذا كان يشكل عبئاً إضافيا على الأم من كل النواحي الجسديّة والفكريّة والروحيّة..
في يوم التقت عيناها في المرآة فجأت: (وقفت أمام المرآة ورفعت وجهي إليها، وتأملت تلك الملامح التي أظنني أعرفها منذ زمن بعيد، تألمت لحالي، اقتربت من المرآة وألصقت وجهي بها كأنني أتأكد أنني صاحبة هذا الوجه. فرأيت وجهي وقد نزفت منه الحياة، حينها رفعت يدي لأنظر إليها فصدمني اصفرارها وجفاف جلدها... أدمعت عيناي من منظري وكأنني من ضحايا حرب نزعت الرحمة من قلوب فائزيها فجاروا على خاسريها.(ص31).
وهنا تتطرق الروائية إلى حالة أخلاقيّة أو وجدانيّة تركت آثاراً نفسية عندها بسبب جارتها التي تركت عندها أولادها مرات عديدة للعناية بها، وعندما احتاجتها للمساعدة في العناية بأولادها لمدّة ساعة لظروف طارئة رفضت مساعدتها، لقد تنكرت للجميل. إلا أن العذاب النفسي الأكبر يأتي من حماتها التي ترفض العناية بأطفالها الصغار عدا الطفلة مريم التي تأخذها دائما معها إلى منزلهم، في الوقت الذي تُحَمّلُ زوجة ابنها ما يتعرض له الأطفال التوأم من مشاكل صحية أو غيرها متهمة إياها بالإهمال.
تمر الأيام مسرعة بكل شقائها وانعكاسات هذا الشقاء على الأم فيكبر الأولاد.. مريم أصبحت في السادسة ودخلت المدرسة الابتدائية، والتوأم الثلاثي وصلوا العامين من العمر فيوضعونهم في الحضانة، ولكن رغم تحوله العمري تزداد شقاوتهم وعبثهم.
في نهاية الرواية تسافر الأم وأطفالها ووالدها ووالتها وأخوها وأختها "ليلى" رحلة لمدّة يومن إلى الاسكندرية، وفي طريق العودة تتعرض سيارتهم لحادث ينجون منه بأعجوبة، موعزين سبب النجاة للقدر أولاً ثم للأطفال ثانياً، وهنا يتحول الأطفال بنظر أمهم وأهلها من وحوش كما وصفتهم أمهم إلى ملائكة.
البنية الفكريّة للرواية:
تمتد الرواية في بنيتها السرديّة على مقدمة وثمانية عشر جزءاً، كلها في سياقها العام تقوم على السرد الوصفي للأحداث التي تضمنتها الرواية، فاستخدام التفاصيل واللغة الوصفيّة في توصيف الأشخاص والأماكن والأحداث في الرواية، ساعد المتلقي على تخيل للمشاهد وتجسيدها في ذهنه، وهذا ما يجعله يعيش ويستمتع بالأحداث بشكل أكثر واقعيّة وتفاعليّة.
بيد أن اعتماد الرواية على الوصف بشكل واسع في متنها السردي، غطى إلى حد كبير على الرؤى الفكريّة التي يمكن أن تبرز بشكل مباشر من خلال الحوار، وتشد القارئ من البداية إلى النهاية بحثاً عنها والتفكير بها.
إن وصف الرواية بالتفصيل الدقيق لشقاوة التوائم وعذابات الأم بشكل خاص في ملاحقة ما يبدونه من أعمال عبث بمحتويات المنزل وإصلاحه، لا تخرج عن المألوف عند أية أسرة لديها أطفال، عدا أن شقاوة التوائم الثلاثة تتضاعف، وهذا ما يربك الأم والأسرة والمحيط الأسري بعمومه إن كان من أهل الزوج أو الزوجة.
بيد أن ما يلفت النظر في الرواية هو استنتاج المتلقي لتلك المواقف النفسيّة والسلوكية، وحتى الفيزيزلوجيّة المتشابهة التي يتعرض لها التوأم في أوقات محددة، كما يجري لبطلة الرواية وتوأمها "ليلى" من حالات مرضيّة نفسيّة أو جسديّة عرضيّة قد تصيب إحداهن فجأة فتشعر بالألم أو بالإحساس النفسي توأمها دون مبرر منطقي، كما جرى لبطلة الرواية عندما انتفضت في أحد الأيام على ألم حاد برأسها لا تدري له سبباً، فقلة النوم اعتادت عليها كما تقول.. فتتساءل لماذا الآن رأسها تؤلمنها هكذا ؟. تطور الأمر وصارت الرؤية مزدوجة والألوان متداخلة، لم تعد تستطيع الوقوف على قدميها، وكلما نظرت بالمرآة وجدت تجمعات دموية قد خطت لها موقعا في بياض عينيها، لقد ضعفت رؤيتها أكثر وأكثر... فاتصلت بزوجها بالعمل وهو بدوره اتصل بوالدتها.. لكنها لم ترد مرة واثنان وثلاث.. حتى يئس من الاتصال واعتذر من عمله وحضر للمنزل، وأخيراً تتصل والدتها تعتذر.. وتقول بأن "ليلى" توأمها في المستشفى.ص66.
عند ذهابها إلى المشفى مع زوجها سألها الطبيب (بتشتكي من إيه ؟.صمت قليلا وهي تنظر لزوجها وتشعر بقلة الحيلة ثم قلت: ولا حاجة.. أنا كنت تعبانة جداً النهاردة ومش شايفة ومصدعة وعيوني حمر، لكن من حوالي عشر دقائق كل الحاجات دي اختفت.. فانا مش عارفة إيه الي حصل. فأشرت برأسي له أنني بخير. ثم وجهت كلامها لزوجها علينا أن نرحل. فأشارت برأسها له أنها بخير.). (67). المفاجأة أن أختها "ليلي" التي كانت في المشفى قد خف مرضها فانعكس أمر الشفاء عليها. ثم راحت تسأل والدتها عن حالة شقيقتها على الهاتف وتقول: (تفتكري ها يطلعوا أولادي زينا.. كل ما يغيبوا عن بعض يعيوا ؟
هل سيكونوا مثلي أنا وليلى ؟.).
عند زيارة أم التوائم وأختها "ليلى" الطبيب للنظر في وضع حالتهما الغريبة، بعد أسئلة كثيرة تداولها معهم منذ طفولتهما حتى اليوم وصل لنتيجة مفادها كما قال لهما: (نصيحتي ليكم يا بنات ما تروحوش لدكاترة متخصصين لأن الأمر دا مش مرض دي نعمة من ربنا ليكم ويكفي ان ولا واحدة فيكم ها تحس في يوم إنها لوحدها. بالإضافة أن سبب ردود الفعل دي مختلفة.. منها البعد عن بعض لمدّة طويلة أو زيادة الالم عند حد فيكم فالتاني بيستقبله بصورة عرضية.. طبعاً كل دي فرضيات والله أعلم.).(ص94). وهنا بررت هذه القضية الغامضة بسبب عجز الطب على أنها نعمة من الله.
أما الفكرة الثانية التي تشير إليها الروية بشكل غير مباشر وهي أن المرأة تظل تعشق الأولاد والإنجاب حتى ولو كان لهذا الأمر نتائج خطيرة على حياتها.
تقول أم التوائم: (خرجت من دورة المياه بعد خمس دقائق وقد شحب وجهي وانتفضت أوصالي. أريد أن أبكي.. لا بل أريد أن أنتحب... ظلت والدتي تحدثني وتسئلني وبكل ما أوتيت من قوة وعزم تحثني على الإفصاح عن ما يدور بداخلي. لكني كنت مغيبة عن الواقع تماما وكأن الألوان حولي باهتة والأصوات مهتاجة وصريخ مولود يعلو في الخلف لا أدري موضعه لكنه يفزعني... اقترب مني زوجي وراح يسألني: في إيه.؟... أعاد علي السؤال مرة واثنتين وثلاث وخمسة وعشرة حتى افقت قليلا من صدمتي والتفت إليه ونظرت بعيني زوجي ثم أخرجت ما في قلبي بكلمتين اثنتين اسقطتهم عليه: أنااااا..... حامل.). (ص122). أفاق بعدها على لمسة يدها ليده، فنظر لي وابتسم.. ثم قال:الحمد لله على ما رزق.. بس ازاي ما انت بتاخدي موانع الحمل ؟.نظر إليها بابتسامة وأخفى الكثير من ما في نفسه بنفسه، ولكنها تعلمه وتفهمه، بل هي تدري ما برأسه قبل أن يخطر بباله أو ينطقه لسانه.
تقول: (اتصلت بطبيبتي ثانية وهي تبارك لي على الحمل وتخبرني أن حملي هذه المرة سيكون بتوأم... ابتسمت.. كيف هذا، لا أدري؟... سعدت بالخبر مع أنه أحزنني في البداية تحسست بطني فشعرت بقشعريرة قد ملكتني، أعدت النظر في المرآة فكأن جبيني يتلألأ كتلؤلؤ الكوكب في جنح ليل مبرد، وافتر ثغري عن الأنوار افترار الأكمام عن الأزهار..(ص134).
أما الفكرة الأكثر حضوراً في الرواية هي قضية إيمان الفرد المسلم بقدره وما يكتب له أو عليه، فكل شيء يعتبر أمراً مقدراً من قبل الله وعلى الإنسان أن يرضى به. ولكن الذي لا نستطيع تفسيره هو كيف حملت هذه المرأة وهي تأخذ موانع الحمل، رغم أن زوجها يعرف سر حملها وهي تعرف أن زوجها يعرف. ؟!!!!.
الرواية في الشكل:
العتبة السيميائيّة للغلاف والعنوان:
مساحة كبيرة من سطع الغلاف يغطيه الأسود الذي يدل على الحزن والألم والكآبة والتعب والمعاناة.. تتخلله بقعة ضوء متدرجة في نورها تكشف عن ثلاثة أشباح في وسط الغلاف تؤكد عنوان الروية (وحوش بمنزلي)، الذي يعبر عن غرابة تصرفات التوأم الثلاثي وما تركوه من الم وشقاء وعذاب عند الأم، الأمر الذي جعلها تصفهم بصفة الوحوش.
الأنموذج المرجعي للرواية:
تنبني الرواية على الأنموذج الواقعي، وعلى طبيعة المتخيل القائم على معطيات اجتماعيّة استلهمت الروائيّة معطيات مضمون روايتها وتشكيل عالمها الحكائي من صور الواقع.
فالرواية تدخل من جهة في محيط الأدب الواقعي، الذي يصور حياة الناس وقضاياهم ومشاكلهم، بعيداً عن عالم الفانتازيا والخيال والرومانسيّة وغير ذلك من أشكال الرواية الحديثة. ومن جهة ثانية، تقع الرواية أيضاً في مضمار الرواية النسويّة من حيث أن الروائيّة فتاة وهي " محبوبة محمد سلامة"، ثم أن البنية السرديّة والفكريّة للرواية تدخل في مضمار عالم المرأة. وهذا النوع من الروايات راح ينتشر بسرعة كبيرة في عالم الرواية العربيّة خاصة بعد أن كثر عدد الروائيات والقاصات وحتى الشاعرات من الأناث، اللواتي رحن يسلطن الضوء على عالمهن ومشاكلهن في هذه الحياة، وأهل مكة كما يقال أدرى بشعابها، وبالتالي هن أدرى بمشاكلهن.
إن الرواية في سياقها العام قدمت لنا شخوصاً تشبه شخوص الواقع المعيش في ظروف اجتماعيّة مختلفة يسهل التعرف عليها. أي الروائيّة قدمت في روايتها عالم شبيه بظروفنا الاجتماعيّة وشخصيات شبيه بشخصيات الواقع. لذلك يطلق على هذا الأنموذج من الروايات بالرواية الواقعيّة. وأهم سمات وخصائص هذه الروية أن تقدم للقارئ تفاصيل دقيقة عن المكان وجزئياته، كالشوارع والغرف ومكونتها والأصوات والأفعال وضروب الأنشطة المختلفة. وذلك يأتي لقذف المتلقي في عالم يشعر أنه جزء منه، أي تطلعنا على تفاصيل حياتنا الاجتماعية، وهذا ما استطاعت الروائية تحقيقه.
سمات وخصائص البنية السرديّة للرواية:
لقد اتسم أسلوب سرد الرواية بالاقتصاد والدقة. وجنبها الوقوع في السرد التقريري. وجعل منها لوحات متتابعة مرسومة بألوان حيّة مجللة بأطياف من الحزن والأسى والفرح والسخرية وغيرها من المواقف الحياتيّة.
إن الروائيّة صاغت الكثير من أحداث روايتها في ضوء وإيقاع وزوايا تصوير واقعيّة مدهشة كما بينا في موقع سابق. وحشدت الكثير من المفردات والوقائع الواقعيّة. الأمر الذي يجعل القارئ يقبل على قراءتها بحفاوة وتأملها وتقصي أبعادها بجديّة واهتمام. وبالتالي يقدر جهد الروائية بأنها تؤمن بدور الأدب في الحياة وتأثيره على المتلقي.
لقد تميز أسلوب الرواية وبناءها بالأحكام والانسيابيّة والرصانة والبساطة، حيث يتم فيه الانتقال من باطن الشخصيات إلى ظاهرها أو عالمها الخارجي بسلاسة وانسيابيّة واقتصاد. مع ورود الكثير من القطع في البنية السرديّة، وهذا واضح من تعدد أجزاء الرواية (ثمانية عشر جزءاً) الذي جعلها لا تسير باتجاه واحد، حيث وجدنا بَالبنية السرديّة مجموعة من السرديات التي تتوازى على مدار الرواية، مما جعل الرواية مليئة بالزخم. فالسرديات المختلفة تتوزع على الفصول أو أجزاء وكأن شاشة الرواية منقسمة إلى أقسام كثيرة، يراها المشاهد بَالوقت نفسه تقريبا، فهو لا ينتهى من السرديّة الواحدة مرة واحدة، وإنما يدخل معها حكايات متنوعة، وينتقل من حكاية إلى أخرى، بكل سهولة وحرفيّة.
لقد اعتمدت الروائيّة في معظم سردها من جهة المنطوق اللفظي على المنولوج الداخلي، وهذا المنطوق يعكس رؤية خاصة بمؤلفها، حيث تم تبنى رؤية واحدة في تشخيص الواقع، وكانت العلاقة بين الروائي والشخصيّة الروائيّة علاقة تحكم وسيطرة، وهذا ما ساهم في فقدان الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية وهي (الأم) حريتها وشخصيتها، لتصبح تعبيراً عن صوت الروائيّة وأيديولوجيتها. هذا مع وجود بياضات كثيرة داخل البنية السرديّة، قامت الروائية بتلوينها أو تغطيتها عبر حوارات سريعة على الهاتف أو بشكل مباشر بين الزوجة وزوجها أو مع حماتها أو والدتها أو الدكاترة المشرفين على حالات الوجع الذي يصيب شخوص الرواية. فالحوار من جهة أخرى جاء في الرواية أداة فنيّة أخرى كشفت عن ملامح وسمات الشخصيات، وساعد القارئ على تمثلها وفهمها. إن الروائيّة في حواراتها المتناثرة في بنية السرد استطاعت أن توظف هذه الحوارات ليس لتنمية الحدث في الرواية فحسب، وإنما لتكشف عن الملامح الذاتيّة أيضاً لشخوص روايتها، النفسيّة والفكريّة والأخلاقيّة، لقد أفصحت الرواية عن نماذج إنسانيّة متعددة، تمنح عالم كل أنموذج منها خصوبة وحيويّة متجددين. أما الكيفيّة التي تمت بها عملية السرد من قبل الروائية فهي:
الرؤية من الخلف:
ففي هذه الحالة يكون السارد أكثر معرفة بالشخصيّة الروائيّة، أي هو يعرف ماذا يجري في أعماق البطل وفي ذهنه أو ما يشعر به نفسه، فليس لشخصياته أسرار، إنه سارد عالم بكل شيء وفي كل شيء. وهو أيضاً الذي يعرف كل أحداث القصة وشخصياتها، ما خفي منها، وما ظهر، وهو يتنقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة، ويدخل عقول شخصياته ليكشف عن أسرارها وخباياها. وعلى هذا الأساس كانت بطلة القصة وهي الراوية، على دراية كاملة بنفسيّة أطفالها وسلوكياتهم عبر مراحل تحولاتهم العمريّة، وكذلك زوجها وكل الشخصيات الثانويّة في الرواية كشخصيّة حماتها أو أمها أو والدها.. الخ.
الشخصيات في الرواية:
إن الحدث يظل فعلاً هلاميّاً ما لم تشكله الشخصيات بحسب حركتها وعلاقاتها ودرجة وعيها، وبالتالي مساراتها التي يشكلها الكاتب أو الروائي. وشخصيات رواية "وحوش في منزلي" التوأم الثلاثي، هم شخصيات نامية ممتلئة بالحياة والحرارة، تركزت فيهم اهتمامات الروائيّة، وبالتالي كانت مقنعة فنيّاً للمتلقي تماماً كونها تعبر عن شخصيات حقيقيّة ملموسة في مواقفها وتفكيرها وسلوكياتها..
أما الشخصيات الثانويّة أو الهامشيّة في الرواية كالزوج والحماة وافراد أسرة الزوجة والدكاترة وغيرهم من شخصيات، فهي في عمومها شخصيات لم تتوقف عندها الروائيّة كثيراً بحكم دورها الهامشي. لذلك كانت أقرب إلى الجمود والثبات والسطحيّة. فهذه الشخصيات تظهر قليلاً لتودي دوراً معيناً وتختفي.
المكان والزمان في الرواية:
المكان في الرواية:
يعتبر المكان والزمان من العوامل المؤثرة في الرواية، حيث يمكن أن يكونا خلفية للأحداث أو أن يكونا عنصرًا مهمًا في تطور القصة وسياقها. فالمكان في الرواية كان حقيقيّاً، إن كان من حيث شموليته، وهو مصر الكنانة، أو من حيث خصوصيته، منزل في مدينة القاهرة، أو من حيث طبيعته وسماته وخصائصه، حيث تركز معظم بنية السرد والأحداث في محيط مغلق وهو المنزل، وفي هذا المحيط كانت يجري عبث (الوحوش) وشقاوتهم ومعاركهم الطاحنة مع كل ما يقع تحت أيديهم، مثلما كان يغطى على كل أسرار نتائج هذه الشقاوة. هذا دون أن يعدم المكان في الرواية فسحات أخرى مفتوحة، ولكنها ظلت هامشيّة في العالم الحكائي للرواية.
أما الزمان:
إن زمن في الرواية جاء زمناً خطيّاً، ترتبت فيه الأحداث ترتيباً متتالياً، جاءت الواحدة منها بعد الأخرى. فالنص الروائي في عمومه شكل بؤرة زمنيّة، ومن يتابع سرد تفاصيل أحداث الرواية وحركتها يقف عند ترتيب الزمن، فهو شَكّلَ من جهة عاملاً أساسياً في تقنية الرواية، ومن جهة أخرى شكل هاجساً متوتراً عند بطلة الرواية التي كانت تحسب الزمن في اليوم من خلال متابعتها لحالات التطور والتبدل التي تحل بأطفالها، ورغبتها أن تسرع هذه الزمن كي يصبح هؤلاء العفاريت قادرين على الوعي بذاتهم، وهذا يخفف من حملها الثقيل في العناية بهم.
اللغة في الرواية:
امتازت لغة الرواية بالبساطة والسهولة والوضوح والحيويّة وخاصة عندما يتم السرد باللغة العربية الفصحى، بيد أن هناك مشكلة واجهها الأسلوب اللغوي في الرواية وهي ازدواجيه اللغة، لقد كان السرد باللغة العربية الفصحى، في حين كانت اللغة العاميّة (اللهجة المصريّة) هي الناقلة للحوار في هذه الرواية. وهذا التعدد فرضته طبيعة الشخصيات، وتنوع ثقافتها وبساطة الأحداث في الرواية، كونها أحداث يومية مباشرة خارج نطاق تعقيدات الحياة ومستوياتها السياسيّة والفكريّة والاقتصاديّة وغير ذلك.
المنظور أو المنهج للرواية:
لا شيء في الحياة ومنه الفن أن يأتي من فراغ، وليس هناك أي عمل بلا غاية أو وظيفة ومنه الفن والأدب. وقد أثرت الوظيفة على الفن ماهية وأداة منذ البداية، ويحرص الكثير من نقاد الأدب على ربط الفن بالوظيفة التي جاءت هذه الأعمال الفنيّة تلبية لحاجات فكريّة وجمالية، بل حاول بعضهم الربط بين البنية العامة للعمل التكويني والبنية العامة للمجتمع.
لقد صيغت رواية " الوحوش" الذين منحتهم أمهم بعد سنتين صفة" الملائكة" في سرد يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة، وحافل بمفردات من الصور والمواقف والحوارات المشبعة بقيم إنسانيّة يكافح أبطالها من أجل استمراريّة الحياة وتحقيق أهداف يرغبون بتحقيقها... سرد توالى في إيقاعات منضبطة ورصينة، وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال، وبين العقل والعاطفة، وبين حكي العامة وحكي الفصحى... وبين دوائر تتسع لهموم وأفراح الكبار والصغار في هذه الحياة، كل وفق وعيه وثقافته ومن زوايا تتناسب ومصالحه وهمومه وعواطفه.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث وناقد من سوريا