قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية لقصيدة "لو تقطفيني الآنَ قلبي أثقلَ الشجرةْ"

للشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة.. قراءة أسلوبية، نفسية، رمزية، هيرمينوطيقية

تنبثق قصيدة "لو تقطفيني الآنَ" من رحم التوتر الوجودي، وتكتب ذاتها في مفترق الحواس والفكر، حيث تمتزج الإيروسية بالميتافيزيقا، والرمز بالجسد، واللغة بالصرخة. إنها قصيدة لا تُقرأ بعين واحدة، بل تحتاج إلى منظار تأويلي متعدّد، يدمج الأسلوبي بالنفسي، والرمزي بالهيرمينوطيقي، لأنّ النص يشتبك مع قارئه كما يشتبك العاشق بجسده – دهشةً، ورغبةً، وتمزقاً.

- في مجال التحليل الأسلوبي – وبنية الصوت والصورة: نقرأ افتتاحية صادمة ومدهشة، حيث يقول الشاعر خلدون رحمة:

"لو تقطفيني الآنَ

قلبي أثقلَ الشجرةْ ."

يفتتح الشاعر قصيدته بجملة شرطية تفجيرية "لو تقطفيني الآنَ"، جملةً معلقةً لا تتم، معلقة في الزمن، ومشدودة إلى احتمالية لا تتحقق. هذه التقنية تعكس هشاشة الذات ورغبتها المتقدة في نزع جذورها. أما الجملة الثانية "قلبي أثقلَ الشجرة" فتأتي بمفارقة مدهشة، حيث ينعكس الثقل على القلب الذي يُفترض أن يكون رقيقاً، منساباً ومتدفقاً، في حين تتجسد "الشجرة" كمجاز للأنثى، أو للحياة ذاتها، التي لا تقدر على حمل هذا الثقل العاطفي. من هنا نلحظ التواشج بين الجسد والرمز حين يقول:

"مررتِ بعطرك الشبقيّ في غيبوبتي

ألهبتِ رمزاً خافتاً في معبد الجسد الحزين"

لغة مشبعة بالحسية المكثفة، حيث يتحول "العطر الشبقي" إلى كائن فاعل يخترق الغيبوبة. ليس حضور الأنثى هو المثير، بل طيفها، عطرها، والذي يعيد إحياء الرمز الكامن في جسد الشاعر. الجسد هنا معبد – أي أنه مقدس/مدنس في آن، وتلك هي ثنائية الأسلوب الأساسية في القصيدة: الجسد كمجال للتأويل الوجودي والشعري.

- في مجال التحليل النفسي – الأيروسية والهروب من النقص: نجد طفولة الجسد واشتهاء العدم، يقول:

"دلقتِ حليبكِ الناريّ في إبريق صمتي

فامتلأتُ طفولةً"

إنه انفجار دلالي جسدي/نفسي. يوظف الشاعر خلدون رحمة ثنائية الحليب والنار، لتجسيد التناقض بين العطاء والإحراق. لكن هذا الفيض يؤدي إلى "الامتلاء بالطفولة"، أي العودة إلى أصل الذات، إلى المرحلة النرجسية الأولى التي يسودها الاندماج بين الذات والآخر. ففي هذا المقطع يقول:

"ورأيتُ زهرة شهوةٍ تمشي ببطﺀ نحو أرض العفّةِ المتصحّرةْ"

هنا يظهر اللاشعور الجنسي بصورته المتردّدة، بين رغبة محمومة وعفة مواربة. يمشي النص على حافة التوتر بين الدافع الإيروسي والمحرم الاجتماعي/الديني، فيشبه فرويد حين يتحدث عن الصراع بين "الهو" و"الأنا الأعلى".

- أما في سياق التحليل الرمزي وطبيعة الجسد بوصفه استعارة كونية: نجد المعنى قد عري من خلال تجلي الرمزية الإيروسية، حين يقول:

"هبيني عريكِ السريّ كي ألجَ المعاني من أنوثتها".

العري هنا ليس جسديّاً فقط، بل هو كشف للحقيقة، للحكمة، للمعنى المغيّب. الأنوثة تحولت إلى بوابة المعرفة، كما في بعض الأساطير الغنوصية حيث يتجسّد الكمال المعرفي في الاتحاد بالآخر/الأنثى. والعبارة:

"ألج المعاني من أنوثتها" . ترسخ هذا الارتباط بين الرغبة والمعرفة.

- أما في سياق الحبّ/الموت كحقيقة واحدة فإنه يقول:

"زوّجيني الحبّ حدّ الموتِ

إنّ الموتَ يخجلُ من سؤال المقبرةْ !"

في هذه المفارقة الرهيفة، يقترح الشاعر خلدون عماد رحمة أن الحب المطلق يقود إلى الموت، أو أن الموت هو التجلي الأقصى للحب. لكن الموت هنا لا يرعب، بل يخجل، إذ فقد هيبته أمام عمق العشق. هذا تجريد رمزي يقرّب القصيدة من تخوم التصوف، حيث الفناء هو وسيلة الاتصال بالمطلق.

- في مجال قراءة هيرمينوطيقية – وفي تأويل المعنى المراوغ:

نجد الذات الشاعرة كمشروع تأويلي ، يقول بصراحةِ تامة:

"سأفيقُ حين ينامُ حلم الله في عينيكِ"

الجملة مدهشة في دلالتها اللاهوتية والشعرية. "حلم الله" يشير إلى ذروة الوجود، فحين تنام هذه الذروة في "عينيكِ"، يستيقظ الشاعر. إنه انقلاب في منطق الزمن والمعرفة، وتكثيف لتجربة العشق بوصفه وحياً. وفقًا للهيرمينوطيقا، النص هنا ينقلنا إلى دائرة تأويل مفتوحة، تتجاوز ظاهر اللغة إلى ميتافيزيقا المعنى.

- كذلك الحرب كفعل فكري/شعري، يقول:

"أشعلُ حربَ أفكاري على نهديكِ

أحرقُ وردة الرؤيا وأصرخُ:

كيف تندلعُ القصيدة دون جمرةْ ؟".

هذا المقطع من أكثر الأجزاء غنى وتأويلاً. فـ"نهديكِ" يتحولان إلى ساحة معركة فكرية لا شهوانية، والحرب ليست إلّا صراع المفاهيم والتأويلات داخل الوعي. و"وردة الرؤيا" حين تُحرق، فذلك يعني أن الإلهام نفسه يتعرض للاحتراق كي يولد الشعر. إذاً، القصيدة لا تندلع إلا بعد احتراق داخلي – جمرة داخل الذات.

-  أما في مجال البنية الإيقاعية والصور الشعرية: فإنّحالة الإنزياح والتكثيف تبرز أنّ القصيدة تتحرك بإيقاع داخلي متوتر، يتشكّل من الصور المكثفة والانزياحات اللغوية، حيث يقول:

"دلقتِ حليبكِ الناريّ" – صورة مزدوجة في المعنى والحس.

"زهرة شهوةٍ تمشي" – أنسنة الشهوة وتحويلها إلى كائن.

"الخطيئة قشرة الثمرة" – استعارة لاذعة عن الجذب المحرّم.

هنا نلحظ التكرار الدلالي والدينامية الشعورية عندما يؤكد بقوله:

"اقطفيني... اقطعيني... واغرسيني..."

التكرار هنا ليس زخرفاً بل تصعيدٌ للحالة النفسية. إنه تصعيد شعوري يتوسل التدمير من أجل التكوين. يريد الشاعر أن يُقتلع ليُعاد غرسه. وهذا جوهر كلّ ولادة جديدة.

في الختام:

قصيدة "لو تقطفيني الآنَ قلبي أثقلَ الشجرةْ" للشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة ليست مجرد نصّ غزلي أو شهواني، بل هي صرخة وجودية مغلفة بوشاح الإيروس والرؤية، تُعلن الحرب على ثنائية الجسد/الروح، وتكسر الحواجز بين المعنى والحس، بين الأنثى والفكرة.

إنها قصيدة تتسلل إلى وعي القارئ عبر اللغة، وتجرّه إلى حدود التأويل والجنون والدهشة. فكلّ بيت فيها هو مقامٌ شعريّ ومعرفيّ، وكل صورةٍ مفتاحٌ لبوابة تأويل لا تنغلق.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

لو تقطفيني الآنَ

قلبي أثقلَ الشجرةْ .

مررتِ بعطرك الشبقيّ في غيبوبتي

ألهبتِ رمزاً خافتاً في معبد الجسد الحزين

عطِشتُ من هولِ الغرابةِ

واختفى جسدي

دلقتِ حليبكِ الناريّ في إبريق صمتي

فامتلأتُ طفولةً

ورأيتُ زهرة شهوةٍ تمشي ببطﺀ نحو أرض العفّةِ المتصحّرةْ

هل أنتِ ميّتةٌ ؟

هبيني عريكِ السريّ كي ألجَ المعاني من أنوثتها

اقتليني

زوّجيني الحبّ حدّ الموتِ

إنّ الموتَ يخجلُ من سؤال المقبرةْ !

سأفيقُ حين ينامُ حلم الله في عينيكِ

أشعلُ حربَ أفكاري على نهديكِ

أحرقُ وردة الرؤيا وأصرخُ:

كيف تندلعُ القصيدة دون جمرةْ ؟

لا تعودي للبدايةِ

حامض طعم الحكايةِ

والخطيئةُ قشرة الثمرةْ .

اقطفيني الآن من جذري

اقطعيني

واغرسيني في حديقة قلبكِ الزرقاﺀَ

كي تتحرّر الفكرةْ .

 

في المثقف اليوم