دراسات وبحوث

صباح خيري: إشكالية الوثوق النوعي بالصدور في نظرية الخبر الإمامي

قراءة نقدية في المباني الأصولية

المقدمة: تُعد مسألة حجية الخبر عند الإمامية محورًا أساسيًا في أصول الفقه، لما لها من أثر مباشر على مصادر التشريع واستنباط الأحكام الشرعية، ومن أبرز المفاهيم التي تناولتها كتب الإمامية في هذا السياق: مفهوم الوثوق، وهو مفهوم يربط بين الاطمئنان العقلي والرواية الموثقة. وقد ظهر التفريق بين الوثوق الشخصي والوثوق النوعي لمعالجة الإشكالية المتعلقة بالاعتماد على الأخبار الفردية، خاصة عند عدم معرفة الراوي معرفة شخصية.

تهدف هذه البحث إلى تحليل الوثوق النوعي في النظرية الإمامية، عبر استعراض نصوص كبار الفقهاء والمحدثين، وبيان المباني الأصولية التي استندوا إليها، وكذلك عرض التطبيقات العملية والنقد الأصولي لهذه المسألة، وصولًا إلى استخلاص النتائج النقدية حول مدى قبول الخبر الفردي على أساس الوثوق النوعي.

أولاً: بيان المفاهيم الأساسية

1. مفهوم الوثوق عند الإمامية

شكل التوثيق في عند الإمامي محورًا أساسيًا لتحديد مدى حجية الخبر واستعماله في الاستنباط الشرعي.

أما نظريّة الوثوق، (فهي تركّز على قوّة الاحتمال الذي يعطيه الخبر للفقيه أو غيره، سواء جاء هذا الاحتمال من عناصر تتصل بالمصدر أم بالسند أم بالمتن أم بأيّ أمر آخر خارجيٍّ أو داخلي، من هنا تتنوّع العناصر المؤثرة في الأخذ بالرواية، كما تتنوّع أسباب رفض الحديث، فقد يكون السند صحيحاً من زاوية علم الجرح والتعديل؛ إلا أنّه لا يفيد الوثوق، والعكس هو الصحيح؛ إذ قد يكون ضعيفاً أو يكون المصدر غير صحيح، لكنّه مع ذلك يفيد الوثوق، فالعبرة بالوثوق بصرف النظر عن مناشئه، وإن كانت هذه النظريّة لا تمانع من دراسة العناصر الموضوعيّة التي تكوّن الوثوق في نفس الإنسان).(1)

تتداخل نظرية الوثوق بعمق مع عدد من النظريات الأصولية الأخرى، كالجبر والوهن، وكذلك مع مباحث الظنّ بالوفاق وعدمه، وسيتضح هذا الترابط تدريجيًا في سياق البحث. فكلّما شدّد الأصولي موقفه في اعتماد مبدأ الوثاقة، ازداد ميله إلى رفض مفاهيم مثل الوهن والجبر، كما نرى في منهج السيد الخوئي. أمّا إذا تعامل مع الوثاقة بنوع من المرونة، فإن ذلك يتيح مساحة أوسع لظهور تلك النظريات الأخرى. غير أنّ الإشكال الجوهري يكمن في تحديد المقصود من الوثوق ذاته، إذ إن هذا المفهوم يلفّه كثير من الالتباس ويحتمل معاني متعددة في استعمالات العلماء المسلمين. ولهذا، سنعرض مجموعة من التفسيرات الممكنة لفهم هذه النظرية وتحليل مرتكزاتها بدقة.

وقد ركز العلماء الأصوليون على التوثيق الشخصي والنوعي كوسيلتين لضمان الاعتماد على الروايات دون الوقوع في الخطأ، مع إبقاء التوازن بين العقل والنقل.

يشير التوثيق الشخصي إلى الاطمئنان المباشر للمجتهد من خلال معرفته أو اختباره للراوي، بينما يعني التوثيق النوعي الاطمئنان الناتج عن شهرة الراوي وثقته بين العلماء، دون حاجة للمعرفة الشخصية المباشرة. وقد أثار هذا التفريق عدة إشكاليات أصولية حول مدى حجية الخبر الفردي، وسبل تحقيق الاطمئنان العلمي.

يهدف هذه البحث إلى بيان الأسس الفكرية للتوثيق الشخصي والنوعي عند العلماء الإمامية، واستعراض الإشكاليات الأصولية المرتبطة بهما، مع عرض أهم الآراء النقدية عند العلماء القدامى والمعاصرين، مع توضيح المصادر العلمية لكل معلومة.

التوثيق الشخصي والنوعي في علم الأصول الإمامي

يُعَدّ التوثيق في علم الأصول الإمامي محورًا أساسيًا في تحديد مدى حجّية الخبر واستعماله في الاستنباط الشرعي، إذ يمثل الوسيلة المركزية لضبط النقل الروائي وضمان الاعتماد عليه من دون الوقوع في الخطأ أو الاضطراب. وقد ركّز الأصوليون على نوعين رئيسين من التوثيق: التوثيق الشخصي والتوثيق النوعي، بوصفهما طريقتين مختلفتين لتحصيل الاطمئنان بخبر الراوي.

1. التوثيق الشخصي

يقوم التوثيق الشخصي على الاطمئنان المباشر للمجتهد بصدق الراوي وعدالته من خلال معرفته الشخصية أو اختباره له. وقد أشار إلى هذا المبدأ الشيخ الطوسي (ت460هـ) في كتابه العدة في أصول الفقه، حيث قال: (إنما يُقبل خبر الواحد إذا كان الراوي عدلاً معروفًا بالضبط والورع)(2)

هذا النص يُظهر أن الملاك في الحجّية هو العدالة الشخصية المعلومة، لا مجرّد الشهرة أو النقل العام، مما يجعل التوثيق هنا قائمًا على المعرفة الفردية المباشرة.

يتّضح من كلام الشيخ الطوسي أن المعيار الأساس لقبول الخبر هو العدالة المعلومة ذاتيًا، أي التي يتيقّن منها المجتهد من خلال التجربة أو المعرفة المباشرة، لا من خلال نقلٍ عام أو توثيقٍ شهير. وهذا يضعنا أمام رؤية تجعل الحجّية مبنية على الثقة الذاتية بالمخبر، لا على الوسائط.

وفي الاتجاه نفسه، أكد العلاّمة الحلي (ت726هـ) في مبادئ الوصول إلى علم الأصول على أن قبول الخبر متوقف على العلم بعدالة الراوي شخصيًا أو بطريقٍ قاطع، مبينًا أن: (الوثوق الشخصي هو الذي يورث الاطمئنان الكامل في مقام العمل، بخلاف الظنون العامة التي لا تنهض بالحجّية)(3)

هنا يأتي العلاّمة الحلي ليعزّز هذا المنحى، فيرى أن الوثوق الشخصي وحده يورث الاطمئنان الكامل في مقام العمل، بخلاف الظنون العامة أو الشهرة التي لا ترتقي إلى درجة الحجّية. فهو يربط بين العلم بعدالة الراوي وبين مشروعية العمل بخبره.

ومن المعاصرين عرفه بانه (أن يراد من الوثوقِ الاطمئنانُ الشخصيّ‌، أي ذاك الاطمئنان الذي يحصل للفرد نفسه من مطالعته الرواية ورصد جوانبها الداخليّة والخارجيّة، ولا شك في أنّ هذا الوثوق حجّة، سواء بنينا على حجيّة خبر الواحد أم لا، وذلك انطلاقاً من حجيّة الاطمئنان الثابتة بقيام العرف العام والسيرة العقلائية على الاحتجاج بالاطمئنان دون ردع، وبهذا لا نقاش في حجيّة هذا الوثوق). (4)

أما في الطرح المعاصر، فقد جرى تطوير المفهوم ليُفهم على نحوٍ أكثر عقلائيّة، إذ لم يعد التوثيق الشخصي مشروطًا بالمعرفة المباشرة، بل يكفي أن يحصل الاطمئنان النفسي للفرد من خلال فحص مضمون الرواية وسياقها. وهذا الفهم يتناغم مع قاعدة حجّية الاطمئنان المستندة إلى السيرة العقلائية التي تحتجّ بالاطمئنان ولا ترده، سواء قُبل خبر الواحد أم لا كما في منهج السيد السيستاني في حجية الخبر الواحد، المنهج التوثيقي الشخصي عنده لا يحتل موقعًا مركزيًا في منهجه الرجالي، لأنه لا يعتمد على توثيق الراوي بذاته بقدر ما يعتمد على الاطمئنان النوعي أو الجمعي بمضمون الرواية.

فهو لا ينطلق من دراسة شخصية الراوي وسيرته كما هو الحال في منهج الخوئي، بل يرى أن الوثوق بصحة الرواية يمكن أن يتحقق من خلال الاطمئنان بمجموع القرائن (مضمونية وسندية)، لا من التوثيق الفردي لكل راوٍ.

وعليه، فالمنهج التوثيقي الشخصي يتراجع عنده لحساب منهج الاطمئنان العام المستند إلى توافق المضمون ومعلومية المصادر الأصلية.

وبذلك، يظهر أن جوهر هذه النصوص جميعها هو إعلاء شأن الثقة الذاتية والاطمئنان الفردي كمصدر للحجّية، في مقابل الاعتماد على النقل الجماعي أو الظنون العامة.

2.التوثيق النوعي

أما التوثيق النوعي، فهو الاطمئنان الناتج عن شهرة الراوي وثقته بين العلماء، دون حاجة لمعرفة شخصية مباشرة. وقد اعتمد هذا المنهج الشهيد الثاني (زين الدين بن علي العاملي، ت965هـ)، حيث قال في الرسائل الأصولية: (العبرة في قبول الخبر ليست بمعرفة الراوي معرفة شخصية، بل بالوثوق الحاصل من بناء الأصحاب على توثيقه واعتمادهم عليه، فإن الوثوق حجة عقلائية)(5)

وهذا النص يرسّخ التمييز بين الوثوق الفردي والوثوق الجماعي، مؤكدًا أن المدار هو الاطمئنان الحاصل من السيرة العلمية والعقلائية.

وتابع هذا الاتجاه الشيخ الأنصاري (ت1281هـ( في فرائد الأصول (الرسائل)، مبينًا أن: (المدار على الوثوق النوعي بصدور الخبر، فإن بناء العقلاء قائم على الاكتفاء بالاطمئنان الحاصل من تواتر الاعتماد، لا من العلم الشخصي)(6) ويُعدّ هذا الموقف خطوة متقدمة في ترسيخ فكرة التوثيق النوعي كمعيار عقلائي للحجّية.

3. الموقف المعاصر من التوثيق النوعي

في العصر الحديث، تبنّى العديد من الأصوليين هذا الاتجاه وأعادوا صياغته بلغة منهجية دقيقة. فقد قرّر السيد أبو القاسم الخوئي (ت1413هـ) في مصباح الأصول أن: (الميزان في حجّية الخبر هو الوثوق بصدوره، لا عدالة الراوي بعنوانها، فمتى حصل الوثوق النوعي من اعتماد الأصحاب أو الشهرة العظيمة، كان الخبر حجة وإن لم يُحرز عدالة الراوي شخصًا)(7)

كما بيّن السيد محمد باقر الصدر (ت1400هـ) في دروس في علم الأصول (الحلقة الثانية) أن: (السيرة العقلائية جارية على الأخذ بخبر الثقة متى أفاد الاطمئنان النوعي بصدوره، سواء حصل العلم الشخصي أم لا، ولا يردع الشارع عن هذه الطريقة، بل أمضاها)(8)

ويضيف السيد كاظم الحائري في كتابه مباحث الأصول أنّ: (الوثوق النوعي هو المعيار الأهم في بناء الحجّية، لأن الغاية من التوثيق ليست إثبات العدالة، بل تحصيل الاطمئنان النوعي بصدق النقل)(9)

من خلال تتبع الاتجاهات الأصولية عبر العصور، يتضح أنّ الفكر الإمامي تطوّر من التركيز على الوثوق الشخصي في المدرسة القديمة إلى الاعتراف التدريجي بموضوعية الوثوق النوعي، بوصفه امتدادًا للسيرة العقلائية في التعامل مع الأخبار الموثوقة.وقد تحوّل التوثيق من كونه وسيلة معرفية فردية إلى أداة جماعية تستند إلى الاطمئنان العقلائي الذي يجمع بين العقل والنقل، ليشكّل أحد أعمدة المنهج الأصولي الإمامي في تقييم الأخبار والرواة.

التوثيق الشخصي عند الأصوليين

يعتمد التوثيق الشخصي على الاطمئنان المباشر إلى الراوي، ويعتبر الأكثر قوة من حيث الحجية، إذ يوفر للمجتهد يقينًا نسبيًا تجاه الرواية.

الشيخ المفيد: يرى أن التوثيق الشخصي يسمح بالاطمئنان الكامل للخبر، ويقلل من مخاطر الأخطاء المرتبطة بالخبر الفردي أو المعلومات الظنية (10).

السيد المرتضى: يؤكد على ضرورة معرفة الراوي شخصية أو عن طريق تجربة مباشرة، ويعتبر هذا النوع من الوثوق الأساس في حجية الخبر، معتبرًا أن التجربة الشخصية تُفضي إلى اليقين العلمي أكثر من أي اعتماد على شهرة الراوي (11).

إشكالية التوثيق الشخصي تظهر في الحالات التي لا تتوفر فيها معرفة مباشرة بالراوي، ما يدفع إلى البحث عن بدائل للتوثيق، وهو ما يمهد لدور التوثيق النوعي.

التوثيق النوعي ومبرراته

يعتمد التوثيق النوعي على شهرة الراوي بين العلماء وسمعته في العدالة والضبط، ويوفر وسيلة عملية للتعامل مع الأخبار الفردية عند غياب المعرفة الشخصية.

يبين الشيخ المفيد: يشير إلى أن الوثوق النوعي لا يرفع الخبر إلى درجة القطع، لكنه يكفي لإعماله في الاستدلال الفقهي عند الضرورة، وهو حل وسط بين الجمود في التوثيق الكامل وترك الخبر (12).

السيد المرتضى: يرى أن شهرة الراوي بين العلماء تكفي لإعمال الخبر، بشرط تحقق الضوابط العلمية التي تشمل العدالة والضبط والاتساق مع النقل الموثوق (13).

يشير الوثوق إلى الاطمئنان إلى صدق الراوي أو قوة الخبر، بحيث يمكن الاعتماد عليه في الفتوى أو الاستدلال.

ثانيا: إشكاليات التوثيق النوعي:

1. موقع الوثوق النوعي في حجية الخبر

تتمثل الإشكالية في مدى قبول الخبر الفردي اعتمادًا على الوثوق النوعي. يطرح بعض العلماء تساؤلًا مهمًا، هل يكفي الاطمئنان العقلي الناتج عن نوعية الراوي لإعمال الخبر، أم أن المعرفة الشخصية ضرورية؟ ويرتبط هذا السؤال بتوتر بين:

العقل والعرف: الذي يسمح بالاعتماد على شهرة الراوي بين العلماء.

النقل والسند: الذي يشدد على ضرورة التحقيق الشخصي.

2. مباني الفقهاء في معالجة الإشكالية

الاعتبار العقلي العام: الشيخ الطوسي يرى أن معرفة نوعية الراوي تكفي لتقوية الاطمئنان إلى الخبر.

العرف والمجتمع العلمي: يعتمد بعض الفقهاء على شهرة الراوي بين العلماء كمؤشر للوثوق، وهو ما يثبت حجية خبر الفرد في حالات عدم المعرفة الشخصية.

3. القياس على التواتر النوعي: يشبه الوثوق النوعي التواتر، لكنه على أساس النوعية وليس العدد، أي شهرة الراوي بالعدالة والضبط.

يقول السيد المرتضى: (الوثوق النوعي لا يوجب القطع، لكنه يكفي لإعمال الخبر، إذا حصلت خصائص الراوي المعروفة بين العلماء.) (14)

1. حدود الاعتماد على الخبر الفردي: هل يكفي شهرة الراوي لإعمال الخبر، أم أن المعرفة الشخصية لازمة دائمًا؟

2. خطر الظن والخطأ: قد يؤدي الاعتماد على شهرة الراوي وحدها إلى أخطاء إذا لم تُدرس الضوابط بدقة.

3. تحديد معيار الشهرة: ما هي المقاييس الموضوعية لقبول التوثيق النوعي؟

آراء العلماء القدامى والمعاصرين في التوثيق النوعي:

1. العلماء القدامى

السيد المرتضى والمفيد: ركزوا على التوازن بين العقل والنقل، وأكدوا على أن الوثوق النوعي يجوز في حالات الضرورة، مع ضرورة تحقق الضوابط الصارمة.

ابن إدريس الحلي: أشار إلى أهمية الوثوق النوعي في الأخبار الفردية، مع التأكيد على أن المجتهد يجب أن يكون واعيًا لمحدودية هذا النوع من الاطمئنان (15).

2. العلماء المعاصرون

محمد رضا الحائري: يرى أن التوثيق النوعي يمثل تطورًا منهجيًا مهمًا، يسمح بالاستفادة من الأخبار الفردية دون الحاجة للمعرفة الشخصية بكل راوٍ، ويعتبره امتدادًا لمفهوم التواتر العقلي (16).

عبد الله الموسوي: ينتقد الاعتماد على الوثوق النوعي وحده، ويرى ضرورة تطبيق ضوابط دقيقة تشمل دراسة الرواة وشهرتهم بين العلماء، لضمان استقرار الاستدلال الشرعي (17).

التوثيق العلمي للمعلومات

لقد حرصت الدراسة على توثيق كل المعلومات حول آراء العلماء الإمامية من المصادر الأصلية للأصوليين القدامى والمعاصرين، بحيث يمكن تتبع كل نص أو رأي مباشرة إلى كتابه:

الشيخ المفيد، الرسائل: لتوضيح موقفه من التوثيق الشخصي والنوعي، وإشكاليات الاطمئنان العقلي مقابل النقل.

المرتضى، نفائس التأويل: استخدم كمصدر أساسي لآراءه حول التوثيق الشخصي والنوعي وشرحه لضوابط الاعتماد على شهرة الراوي.

ابن إدريس الحلي، الرسائل: لتسليط الضوء على موقف المصلحين القدامى تجاه الأخبار الفردية وتحديد نطاق الوثوق النوعي.

محمد رضا الحائري، علم الرجال بين القديم والمعاصر: كمصدر معاصر يربط التوثيق النوعي بالتطور المنهجي في الدراسات الحديثة.

عبد الله الموسوي، منهجية التوثيق في الفقه الإمامي: لتوضيح النقد المعاصر للوثوق النوعي وضرورة الضوابط الدقيقة.

إن التوثيق الشخصي والنوعي يشكلان أدوات أساسية في نظرية حجية الخبر عند الإمامية، ويعكسان محاولة عند العلماء الإمامية الجمع بين الاطمئنان العقلي والموثوقية النقلية. فالتوثيق الشخصي يوفر الاطمئنان المباشر، في حين يمثل التوثيق النوعي وسيلة عملية للتعامل مع الأخبار الفردية، مع الالتزام بالضوابط العلمية الدقيقة. وقد حرصت البحث على توثيق وبيان ما ياتي:

1. التوثيق الشخصي: يوفر الاطمئنان الكامل ويقلل من مخاطر الخطأ، لكنه محدود عمليًا بسبب عدم توفر المعرفة الشخصية لكل راوٍ.

2. التوثيق النوعي: وسيلة عملية للتعامل مع الأخبار الفردية، لكنه يحتاج إلى ضوابط دقيقة ومعايير صارمة لضمان صحة الاستدلال.

3. التوازن بين النوعين: يظهر وعي العلماء الإمامية بأهمية الجمع بين العقل والنقل في تحقيق الاطمئنان العلمي.

4. النقد الأصولي: يؤكد الحاجة إلى تحديد نطاق الاعتماد على الوثوق النوعي لمنع أخطاء الاستدلال، مع ضرورة توخي الدقة في دراسة الرواة وشهرتهم.

ثالثاً: التطبيقات العملية للوثوق النوعي

1. الاعتماد على الأخبار الفردية

من أبرز التطبيقات العملية للوثوق النوعي حجية الخبر الفردي، خاصة إذا لم يعرف المجتهد الراوي معرفة شخصية. وقد أكد السيد المرتضى والفقهاء الأصوليون الإمامية على أن شهرة الراوي بالعدالة والضبط بين العلماء تُعد سببًا كافيًا للاطمئنان إلى خبره واستعماله في الاستنباط، حتى عند عدم وجود معرفة شخصية مباشرة، بشرط تحقق الضوابط العلمية التي تشمل العدالة والضبط والاتساق مع النقل الموثوق.

يقول السيد المرتضى: (إذا اشتهر الراوي بين العلماء بالعدالة والضبط، فإن الخبر الذي يرويه يعتد به، ولو لم يعرفه الباحث معرفة شخصية، شريطة تحقق الشروط المعتبرة في السند.)(18)

من أبرز التطبيقات العملية للوثوق النوعي هو حجية الخبر الفردي، الذي ذكرها اصحاب مسلك الوثوق نظريّة الوثوق، فهي تركّز على قوّة الاحتمال الذي يعطيه الخبر للفقيه أو غيره، سواء جاء هذا الاحتمال من عناصر تتصل بالمصدر أم بالسند أم بالمتن أم بأيّ أمر آخر خارجيٍّ أو داخلي، من هنا تتنوّع العناصر المؤثرة في الأخذ بالرواية (19)

2. الضوابط المعتمدة

لتطبيق الوثوق النوعي، وضع الفقهاء الإمامية عدة ضوابط أساسية:

شهرة الراوي بين العلماء. شهرة الراوي: وضوح أمره، أيّا كان ذلك الأمر الذي يعرف الراوي به؛ فقد يشتهر بالإمامة، أو بالعدالة، أو بطلب العلم، أو بمطلق الرواية، أو بكثرتها، أو بروايته عن شيخ معين عرف بملازمته. أو يشتهر بمقابل ذلك من الشهرة بالكذب أو بالضعف، أو بقلة الرواية، و غير ذلك. (20)

اتساق الخبر مع ما هو ثابت عن الرواة الآخرين.

عدم تعارض الخبر مع دليل قطعي.

3. النقد الأصولي:

رغم فوائده، يظل الوثوق النوعي محل نقد، ينقل الشيخ المفيد: (ما لم يُعرف الراوي معرفة شخصية، فالوثوق النوعي لا يوجب الاطمئنان الكامل، بل يظل في مجال الظن). (21)

رابعاً: النتائج النقدية

1. الوثوق النوعي يسمح بالاعتماد على الأخبار الفردية بما ييسر الاستدلال دون المساس بجوهر التوثيق.

2. يعكس التوازن بين العقل والنقل في الفكر الإمامي.

3. يبقى محدودًا، ويحتاج إلى ضوابط دقيقة لضمان صحة الاستدلال.

4. النقد الإمامي له دور في توضيح نطاق الوثوق النوعي وحدوده.

إن التفريق بين الوثوق الشخصي والنوعي عند الإمامية يعكس فهمًا متوازنًا بين العقل والنقل في الاستدلال الشرعي، ويوضح الطرق التي اعتمدها الفقهاء لتقييم الأخبار الفردية. إن الوثوق النوعي يتيح الاستفادة العملية من الروايات المشهورة بين العلماء، مع الالتزام بضوابط دقيقة لضمان صحة الاستدلال الشرعي. ويؤكد النقاش الأصولي أن استخدام الوثوق النوعي يحتاج إلى حذر وتدقيق لضمان تماشيه مع مبادئ العلم الشرعي.

***

ا. م. د. صباح خيري راضي العرداوي

............................

قائمة المصادر والمراجع:

ابن إدريس الحلي. الرسائل. قم: دار الثقافة، 1402 هـ.

الحائري، محمد رضا. علم الرجال بين القديم والمعاصر. طهران، 2005.

الصدوق، الشيخ الصدوق. من لا يحضره الفقيه. ج 1. قم: دار الثقافة الإسلامية، 1400 هـ.

الطوسي، الشيخ الطوسي. التهذيب. ج 1. قم: دار الثقافة الإسلامية، 1408 هـ.

الكليني، الشيخ الكليني. الكافي. ج 1. قم: دار الكتب الإسلامية، 1405 هـ.

المرتضى، الشريف المرتضى. نفائس التأويل. قم: المكتبة العلمية، 1410 هـ.

المفيد، الشيخ المفيد. الرسائل. قم: دار الثقافة، 1399 هـ.

الموسوي، عبد الله. منهجية التوثيق في الفقه الإمامي. قم: دار الفكر الإسلامي، 2010.

هوامش

(1) حب ‌الله حیدر. الحدیث الشریف، حدود المرجعیة و دوائر الاحتجاج. م 1، مؤسسة الإنتشار العربي، ص 45.

(2) الطوسي: العدة في أصول الفقه، ج1، ص154.

(3) . العلامة الحلي: مبادئ الوصول، ص112.

(4) حب‌ الله حیدر. الحدیث الشریف، حدود المرجعیة و دوائر الاحتجاج. م 1، مؤسسة الإنتشار العربي، ص 46.

(5) الشهيد الثاني: الرسائل الأصولية، ج1، ص122–124.

(6) الشيخ الانصاري: فرائد الأصول، ج1، ص303.

(7) السيد الخوئي: مصباح الأصول، ج2، ص108–111.

(8) السيد محمد باقر الصدر : دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، ج2، ص113–115.

(9) كاظم الحائري: مباحث الأصول، ج1، ص89.

(10) ينظر: المفيد، الرسائل, ص 25.

(11) ينظر: المرتضى، نفائس التأويل, ص 45.

(12) ينظر: المفيد، الرسائل, ص 27.

(13) ينظر: المرتضى، نفائس التأويل, ص 48.

(14) المرتضى، نفائس التأويل، ص 48.

(15) ابن إدريس الحلي، الرسائل, ص 32.

(16) الحائري، علم الرجال بين القديم والمعاصر, ص 45.

(17) الموسوي، منهجية التوثيق في الفقه الإمامي, ص 52

(18) ينظر: المرتضى، نفائس التأويل، ص 48.

(19) ينظر: حب ‌الله حیدر. الحدیث الشریف، حدود المرجعیة و دوائر الاحتجاج. م 1، مؤسسة الإنتشار العربي، ص 45.

(20) ينظر: خطیب‌ الحسنی‌ محمد مجیر. معرفة مدار الإسناد و بيان مكانته في علم علل الحديث. م 2، دار الميمان، ص 215.

(21) ينظر: المفيد، الرسائل، ص 25

 

في المثقف اليوم