قراءات نقدية

نزار حنا الديراني: الشاعر اللبناني وديع سعادة

بين اللامنتمي والمنتمي في مسيرته الشعرية

تعرفت عليه في مهرجان المربد في أواخر الثمانينات، في حينها أهدى لي مجموعته الشعرية (مقعد راكب غادر الباص   1987). من حينها عرفته مهاجرا ثائراً ينطبق عليه قول كولن ولسن (في كتابه اللامنتمي) بانه الانسان الذي أدرك ما تنهض عليه الحياة الانسانية من اساس واهٍ، فشعر بان الاضطراب والفوضى اللتان يسودان العالم هما أعمق تجذرا من النظام....

فمنذ مجموعته الاولى (ليس للمساء اخوة) تحسسته شاعراً يسير على حبل متدلٍ بين ضفتين - المنتمي واللامنتمي - الى الزمان والمكان، فالزمان لديه ينصهر في اللحظة التي فيها والمكان هو تلك البقعة الصغيرة الذي يقف او يجلس او يستريح فيها...

بدأ الشاعر اكتشاف ذاته من خلال اكتشافه للزمان والمكان الذي جعله يشعر بالانتماء، أنه المكان الحبلى بذكرياته الطفولية كي يختزل كينونته الانسانية الناتجة من تفاعلاتها مع الاخر الجمعية مكونة الـ (نحن).

تارة كانت محطات الباصات والقطارات مكانه والزمان لديه كان تلك اللحظة التي كانت الاعاصير تجرفه و ترميه الى تلك المحطة التي يستقر فيها... لذا كثيرا ما كان يكتب رغباته على الثلج وعلى رمل البحر محبّته...

لقد أحس الشاعر منذ خطوته الاولى أن اقتناص اللحظات الهاربة هي التي تمكنه من ايجاد معادلا نفسيا لحالات الارهاق النفسي من خلال بحثه لايجاد مكان لا يتعالى فيه الاحساس بالملل والرتابة.4260 وديع سعادة

كان يتقمص في مسيرته دور بطل هنري باربوس (الجحيم) وهو يفتش عن الوجود من خلال فتحة المفتاح في الباب او ثقب ابرة ولكنه لم يرى الا فوضى من الحشد يشتركون في هدف الوصول مسرعين الى مراكب بحار وأمواج  تسير بهم مسرعة، احدهم يريد أن يصل بركابه الى نقطة الوجود واخرى تجرفهم مع اوراق الشجر المتكدسة على سطح الماء الى الشاطئ الرملي لينصهر في اللاوجود. جميعهم يدورون في حلقة أرض اليباب (اليوت) لانهم لم يفكروا يوما ان يكونوا رموزا حسابية في معادلة الحرب التي دمرت لبنان والمنطقة، لذا فهم يرفضون تلك القيم التي حولت ربيع بلادهم الى خراب لذا كل منهم، ومن بينهم شاعرنا تأبط نعلاه ليمتشق عباب المغامرات ما دام كل شئ سينتهي الى النهاية..

كان يرى الحياة كما الحلم في مفترق الطرق فهي ليست الحقيقة، فلا طريق أمامنا الى الخارج ولا العودة الى الداخل، لذا بدأ يكتب رغباته على قالب الثلج ومحبته على البحر  حين تكسرت في يده زجاجة العالم (كما يقول في قصيدته 1VX  - ليس للمساء اخوة - 1974):

في هذه القرية

تُنسى أقحوانات المساء

مرتجفة وراء الأبواب

في هذه القرية التي تستيقظ

لتشرب المطر

انكسرت في يدي زجاجة العالم

أن عاطفته الإبداعية وتحسسه في الأثر الذي تركه اللاانتماء الى المكان، أكسبته نبضاً إبداعياً، جعلته يتحلق بها من إطارها الفوضوي الحسي اللا منتظم في حيز الطبيعة، إلى إطار فني جمالي منظم، عبر جمالية التخييل، وفضاء المتخيل الإبداعي الخلاق.

أيا ترى ما الذي جعل شاعرنا يتأرجح بين اللامنتمي و المنتمي إن  لم تكن نظرته الثاقبة الى الوجود كونه كان يرى اكثر مما تراه عيناه، فعاشت في مخيلته مئات الاسئلة جعلته يرى كل شئ وكأنه يعيش ما بعد الموت.. وكما يقول في مجموعته (المياه المياه 1983):

قطرةً قطرة

ينزل الموتى على بابي

ومركب يتوقف من أجلي تحت الشمس

وجالية فقيرة من الرعشات

تعود الى الرمل

هذا الانزياح الحياتي لم يكن الا تمردا وجوديا لا يخلو من رغبة في تأكيد الذات الخارجة عن النسق ببوصلة منكسرة تجعل صاحبها في حالة تيه وضياع.

من هنا تمظهرت ظاهرة اللامنتمي الى المكان في قصائد الشاعر وديع سعادة كشكل من أشكال التمرد على الواقع كونه كان يرى تلك النسمة التي تستحق المغامرة من أجلها، فبدأ شعره يتجه ليتقمط دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري، فجاءت قصائد المجموعة وهي منحازة إلى مايشبه الهاجس اليومي فاشتغل الشاعر على أسلوب السيرذاتية فأبدع فيه. وكما في قصيدته (حياة) من مجموعته (مقعد راكب غادر الباص   1987):

وأنا ولدُ أرعن راكب دراجة

يهرِّب زنزاناته في الليل

يمشي مخمورا

حاملاً رجلاً مجنوناً منذ الصباح على ذراعه

ذاهباً نحو مسحّ

محتفظاً من كل ماضيه بـ: أحشاء

ومفتاح

لا يجد له بيتا

الرحلة وضعته هنا

ان الانسان الذي تسوقه الهجرة يصادف في حياته الاوهام والرغبات فهو لا شئ سوى ذلك الحبل الذي تحول جسرا يفصل بين المنتمي واللامنتمي بين الوجود واللاوجود بين الحنين الى مهد طفولته او البقاء متدليا في وسط حبله... فتحسس الشاعر أهمية المكان كونه من أكثر العناصر أهمية في تشكيل جمالية نصه الشعري فارتبط به ارتباطًا وثيقًا منذ ولادته الأولى، مروراً بشبابه وحتى اللحظة، حيث أصبح المكان هاجسا لا يمكنه الانفصال عنه فبدأ يبحث عنه كي تتجسد على أرضهِ معالم شخصيته التي ارتسمتْ خطوط البدايات الأولى لتجربته الأدبية. 

ففي مجموعته (بسبب غيمة على الارجح   1992) بدأ الشاعر ينشطر بين حنينه وذكرياته  في بيته الدافئ مع عائلته وهو يقص لاطفاله الحكايات وبين مشقات الطريق، فتارة تقذفه الرياح وفي الاخرى تقذفه أعاصير البحار كما يقول في قصيدته الظلال من المجموعة نفسها حيث يتجسد خيال الشاعر في حركة قطرات الماء التي تنحدر من سفوح الجبال نحو ساقية تجرف معها آماله وطموحاته وأبتسامات الصغار فتبعثرت وتشتت فكيف له أن يجمع أوصالها ليبث فيها الحياة إن كان لا يجدها حتى من خلال  ثقب ابرة:

زحلوا حتى وصلوا

الى الماء منهكين

وفوقهم كانت الشمس تبحث عن إبرة

لتعيد وصلهم بالظلال

أن القيمة الجمالية لفضاء المتخيل الشعري تبدو في هذه الإسقاطات الجمالية على الشخصية والأحداث، والرؤى الشعرية، فلا تزال قصائده منحازة إلى مايشبه الهاجس اليومي ولا يزال يعيش ويزاوج بيته الريفي اينما ذهب يتخيله معه يسكنه ويلامسه إلا أنه هل يستطيع ذلك البيت أن يرمم جراحه ويعيد النصاب الى ما عليه؟؟؟.

بعد تجربته الشعرية هذه دخلت الصورة مرحلة أخرى، فما عادت إحساساً أو إدراكاً للمكان المشبع بذكريات الطفولة ومأساة الحرب وفقدانه لمن كانت سرته مرتبطة بسرتهم بل أصبحت تجسد الاشياء التي يصادفها في رحلته الطويلة في الوقت الذي لا يزال يعيش الفراق والزوال وخاصة حين فارقت امه الحياة:

نادوها من سطيحاتهم، نادوها من الحقول

لم يسمعوا صوتها

وحين جاؤوا

كانت نقطةُ ماءٍ لا تزال

ترشَحُ من يدها وتزحف

الى الحبقة

وبعدها عاش فراق والده:

لم يقل شيئاً قبل أن تحول

وجهه غابةً

فقط شجرات قليلة منها صارت بيضاء

حين الثلج على الجبل المقابل كان يرحل

وشجرات مدّت جذورها وطلع

دغلٌ صغير من ترابه

حاول الشاعر في محطته هذه تجسيد الحقائق النفسية والشعورية والذهنية التى يريد  أن يطرحها، من خلال تجربته الغنية ورؤيته المعمقة للزمان والمكان على نحو مغاير، حيث انتقل من المشهد الحسي للصورة إلى العلاقات التي يفرزها الواقع النفسى والشعورى للفراق فتشكلت الصورة الشعرية لديه من الخيال الممزوج بالحدس وقام  بشحنها بدلالات جديدة. فالخيال لديه هو الطريق الاقصر للكشف والفيض عن أناه وهو يتساءل ما الذي يبقيه العيش في هذا المكان لا شئ الا الرحيل:

لمس باب البيت وخرج

تاركا على القفل بعض أنفاسه

رآهما ينظران اليه:

القفلُ الذي كان يحبسُ وراءه عواء الليل

والباب الذي كان الصباح

يطلع من شقوقه

رآهما يتحلّلان ويعودان

يباساً على الطريق وكتلة صدئة

وراء الحيطان ترجع الى الجبال

أحجاراً وحيدةً وحزينة

وفي مجموعته (محاولة وصل ضفتين بصوت 1997) بدأ الشاعر ترتيب أوراق ذكرياته من جديد وهو يتأمل مسيرته مجتراً لكل ما شاهده وعاناه من ارهاصات وضعته أمام مجازات شعرية قابلة للتأويل والتشظي ولكل منها لها زمنها التوليدي في التخيل والتخييل،لمعرفة الذات  فاقتران" الرؤيا" بالصورة الشعرية يتم بالتخييل وهي أكمل حالات الانفعال الطبيعي لما للخيال عنصر جمالي بارز في تفعيل المنتجات الفنية عموماً. ففي قصيدته (غيوم):

الذين جرفتهم المياه الى الوادي

ارتفعوا غيوماً

لم يمطروا

إلا أن ذكرياتهم (قصيدته نزهة ذاك اليوم) لا تزال تلازم المكان المتجسد في مخيلته لذا تراه لا يزال يرى طبع أصابعه على قفل الباب وآثار أقدامه على الرصيف وفوق الاسفلت طبقة من جلده والمكان لا يزال مهجورا، ولا يزال الربيع في خبر كان... كل هذت دفعته لافراز متخيلات جمالية في قوالب فنية جذابة وآسرة جمالياً؛ إلا أنه لا يزال يحتفظ بأسرار الحياة التي تلقفها وهو في طريقه الى اللاعودة وكما يقول في قصيدته (الطريق):

سلمتنا المياه أسرارها أخيراً

لكننا كنا على حافة الشلال

فانحدرنا رذاذاً

مرسلين للنباتات نعومة سقوطنا

حركة الصورة بدأت لديه من تجربته الاولى ثم تسامت في الأعالي، وغاصت في أعماقه لتعبر من الثبات إلى الحركة، من اللامكان الى المكان ومن المحدود إلى اللا محدود.. فزاد من كثافتها وإيحاءاتها الشعرية للموقف والحدث الشعري وأصبح الماء الذي تزاوج مع أنفاس وذكريات من غرقوا فيه أو من جازفوا بالعبور من خلاله، المحور الذي تتركز حوله أو تلتف صوره الشعرية في أغلب قصائده، أصبح المرآة التي تعكس صورة الموت في ذهنه فتحولها مخيلته الى صور ناطقة... ولما لا يكون الماء المحور إن كان هو نسمة الحياة وهو البداية.

إن شعرية المتخيل لديه مكنته من رصد شبكات من العلاقات، بين المكان وذات الشاعر وكينونته فتجسدت اللامنتمية في شخصيته أكثر من خلال قصيدته الجميلة والتي أبدع الشاعر في صورها (استعادة شخص ذائب) وهو يرى كيف تحول الانسان الى قطرة ماء وذاب في البحر، فهذا يعني لا زمان له ولا مكان. في الوقت الذي يعي ان المكان هو الذي يمنح الانسان الإحساس بالانتماء والوجود ويوقظ شعور الحنين في نفسه كلما داخله شعور بالاغتراب والمفارقة.

هذه البحيرة ليست ماء. كانت شخصاً تحدثتُ اليه طويلاً ثم ذاب!

ولا أحاول الان النظر الى ماء بل استعادة شخص ذائب

كيف يصير الناس هكذا بحيرات، يعلوها ورق الشجر والطحلب؟!

قطرة قطرة ينزل الموتى على بابي

ومركب يتوقف من أجلي تحت الشمس

وجالية فقيرة من الرعشات تعود الى الرمل

لم أرتجف. لكني جننت. الماء بارد لكني لم أرتجف. فقط ارتعشت قليلاً. ثم جننت.

يُعد المكان الذي يشهد فيه الشاعر بدايات طفولته الأولى الأكثرَ حضورًا في قاموسه الشعري ؛ لكونه أحد أبرز المكونات اللاشعورية في عقل الشاعر، بوصفه المكان الأثير لدى النفس، ومن هنا نلمح التفاعل مع بنية هذا المكان (البحر) أكثر انفعالًا واستدعاءً من الأمكنة الأخرى في منجزه الشعري.

حاول الشاعر ومنذ مجموعته هذه إنتاج ذاكرة إبداعية مفارقة، ليس من خلال نفى الذاكرة السلفية، بل من خلال التعايش مع الحتمي... لذا تحولت الصورة لديه من نتاج المخيلة إلى المشهدية الناتجة من الانطباع المباشر تجاه الأشياء.

أن تدفق الصور والأفكار عبر نسغ قصيدته هذه تجسد لنا شاعريته والتي تكمن في تشكيلة من التكوينات البصرية والتي رسمها الموت في حياته لذا تكررت لديه عبارة (ينزل الموتى على بابي) هذه الصورة التي تتقاطع خطوطها مجسدة لنا صورة الغائب الذي لا يزال الشاعر يتشبث في لملمتها ورتق جراحها من خلال استرجاعات زمنية تمزج بين الصورة البصرية والصورة الشعرية.

أن قوى التخيل لديه مكنته من الاستجابة لقوة الحدث، وشدة تأثيره على وجدانه فأنتج صورا شعرية غير خاضعة لسلطة العقل بل للخيال فأسهمت  في تفجر قاع النفس المعتمة.

وفي قصيدته (في النفق... في العظمة) تتجسد النهاية أمام عينيه لتبدأ الحياة من جديد وكما قالها أليوت (في نهايتي تكمن بدايتي) هكذا أحسها الشاعر وديع سعادة حين رأى الرياح تقترب من الجدار والوقت قد تفتق وبقي معلقا بقطب واحد وهو ينتظر السقوط.

إلا أن الشاعر لم ييأس كونه يعرف مثلما لكل بداية نهاية سيكون لكل نهاية بداية:

(تبدأ الحياة في اليوم الأخير

الأيام كثيرة، لكن الحياة قليلة. تتأجل من يوم الى يوم.... وهكذا تبدأ الحياة فقط حين انتهائها)

الا أن الشاعر في مجموعته الشعرية (نص الغياب 1999) يقف من جديد في مفترق الطريق ولكن في هذه الحالة الطريق ما بين مزاولة الانتماء والوجود من خلال الكتابة أو من عدمها فيتساءل مع نفسه:

هل أقول الوداع للكتابة؟

أقول الوداع

حوار الكتابة حوار الصمت. زمن الكتابة زمن الغياب. مكان الكتابة عدم المكان

لا حياة بالكلمات

بعد هذه التجربة الغنية بالمغامرات والعطاء اخذ التشكيل النصي للقصيدة لدى الشاعر وديع هو ما يجعل من صوره ومتخيله الشعري أساساً لما يعايشه للغور تجاه مناطق الإيجاز والتكثيف والرؤى والإيحاء والانتقال من المتخيل الجمالي الى الشعري، لقد أفرزت مسيرته كم هائل من الصور المتتشظية والمتتناثرة على شكل مشاهدات من خلال ربطها ووضعها داخل إطار حسي ترتبط فيما بينها بخيط ذهني داخل اللوحة الواحدة لتتحول هذه الصور الجزئية إلى صورة فسيفسائية جميلة تامة ومتكاملة.

وفي مجموعته (رتق الهواء 2006) بدأ يقترب من الانتماء الى المنتمي (المكان)، ففي قصيدته (حين أراد القاعد أن يمشي) تيقن الشاعر عليه أن يحول حلمه الى حقيقة عليه أن يقتل حلمه ليستعيد المكان كي ينتمي اليه من جديد لذا عليه أن يزاوج المكان لينال من الزمان حصته فيقول:

يركض من مكان الى مكان صافقاً هنا وهناك

يقتل ذبابة فتنبت فراشة

يقتل فراشة فينبت طير

قذفه حلمه في الريح

كان جالساً فأراد مشيا

وضاع

حلم المسافات

الشاعر تقمط طفولته ليصنع من مكعباته عالما جديدا، إلا أنه يريد أن ينقل ماء البحيرة من خلال ملعقة كوبه الصغيرة فتقمط (فان كوخ) ليقول لنا أنا أدرك الكون بواسطة الشعور لا العقل.. فشعوره باللاإنتماء الى الزمكان أفرز لديه نوعا متخيلاً من الانتعاش من خلال تجمع الانطباعات الحسية في مخيلته فبقي قريبا من فطرته وأصبح ميالاً الى التحسس وازدادت الحياة لديه عمقا بحيث يستطيع أن يصنع أشياءً غير ملموسة من خلال التأمل والكفاح الذهني وأيمانه بأن الحياة يجب أن تستمر  والعودة الى الذات من جديد.

إلا انه في مجموعته (تركيب آخر لحياة وديع سعادة 2006) بدأ بترتيب نفسه ويكون قد اجتاز ضفة اللامنتمي وحل في ضفة المنتمي فأصبح يتحسس المكان فهذا يعني هناك زمان، لذا حين أعاد ترتيب اوراقه واعضاء جسمه وجد نفسه يشتغل على الفضاء الواسع كما الخيال، زاوج جسمه مع نسيم الفضاء ليكون قادرا على التكيف في المكان الجديد (المهجر) بعد أن تيقن ان العودة الى مهد الطفولة يكتنفه المستحيل فيقول في قصيدته (كائنات أخرى):

الفضاء الذي روض نفسه بالفراغ

خلق طيوره

والارض التي حدّقت طويلاً في يبابها حتى خلقت أشجارها

تؤوي طيور فضائه

ومن ثم يقول:

عابرون بلا شكل ولا ظل

وإن أرادوا إقامة

ففي نفسه ثقوب

تكفي

لسكناهم النحيلة

فلا تزال لديه طاقة إبداعية لها إمكانية الخلق، وإعادة صهر دلالة العلامات الفنية التي يراها والتي عليها أنْ تستمر، حتى يتبلور لديه نسقاً رمزياً لا تتوانى عن الانفجارِ في وجه الحقائق المألوفة.

لقد كان المتخيل الجمالي لديه بؤرة حراك للأحداث والمواقف والمشاهد التي صادفته في ترحاله مع المكان والاصدقاء فكان بؤرة حراك الأحداث وفواعلها الرؤيوية تتمثل في المشاهد التي كانت مخيلته ترسمها له.

ظن كل شئ بدا اليه في مكانه يسهل عليه ترتيبه إلا أنه بعد هذه الجولة الطويلة وهذا الصراع المرير من أجل الوصول الى ضفة المنتمي وجد نفسه في قصيدته (مثل الظنون):

ظنّ التراب غيما

سقط ويبس

محتفظاً من الفضاء بلهاث ناس كانوا يعبرون

في صحارى حارقة

ظن الشجر أيادي دفنت تحت التراب

في حروب قديمة

ظن وظن ولكن يبدوا ان الوقت كان قد فات فما عليه إلا أن:

قال سأزرع نباتاً جديدا

لا يحتاج الى تراب ولا الى ماء

دخل في خياله وزرع ظلاً

ومذ ذاك وهو ينام

في ظل خيال

بدت الصورة الشعرية لديه كتجل من تجليات طاقة الخيال. بالخـيال يستطيع إعاد ترتيب وخلق معاني ودلالات جديدة للمكان، وخياله يعانق عوالم جديدة لها علاقة موضوعية بالنشاط الوجداني فحاول القبض على خيوط بعض دوائر حقيقة هذا الوجود الذي أراد صنعه في مخيلته الغائرة وحيث لا يمكن البتة لعقله أن يتلمسها ويقبض عليها لان شدة الخيال لديه مكنه من السفر في تخوم اعتمد كل الاعتماد على البصيرة والحدس حتى يدنو من الحقيقة.

فجمال الألفاظ لديه لا يكمن في ذاتها بقدر ما تكمن في اتساقها وخلقها عوالم دلالية تخييلية لها القدرة على صوغ فضاءات تخييلية بين عناصر متقاربة،فاستطاع بممارسته النصية أن يشيد وجوداً جديدا للطيور والاشجار والتراب والغيوم...

وفي خطوة لاحقة حاول أن يعيد ترتيب جسمه في قصيدته (قال.. أيضا):

خلع يداً ووضع مكانها زهرة

خلع عينا ووضع مكانها ثمرة

خلع قدما ووضع مكانها شجرة

خلع فماً، أذناً، قلباً، رئة...

ومشى في حديقته الجديدة

يبحث عن نفسه

ولا يجدها

ما يحمله الشاعر من رؤية تخييلية متوهجة ؛ جعله يرتقى بمتخيلاته الشعرية آفاقاً من الحراك الرؤيوي الجمالي الذي يضمن عمق التأثير، وبلاغة الرؤيا، من خلال عوالم مبتكرة وظفها الشاعر

فما كان منه الا أن يقف في مفترق طريق العمر ليتذكر حياته وما عليه الا أن يعيد ذاكرته يوم تحول الى طير وترك في كل بقعة حل فيها ذكرى...

بعد هذه الجولة في فضاء الخيال الرحب أعاد تشغيل آليات البناء في الذهن من أجل انجاز صورة شعرية تدهش المتلقي وتؤثر فيه فجاءت الصورة الشعرية محاولة تكثيف عاطفي ووجداني للتجربة الوجودية بلغة إيحائية.

ففي مجموعته (من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب – 2011) حاول الشاعر تشغيل ذاكرته ليرى ذكرياته تمر من أمام عينيه على شكل فلم سينمائي كون العلاقة بين الشاعر والمكان علاقة تلازمية حميمية تخضع للتجربة الشعرية التي يمر بها الشاعر ؛ ليكون المكان فيها حاضرًا ومألوفًا لديه، وله خاصية مميزة، ونصيب وافر من الاهتمام يجعل حضوره طاغيا في المنجز الشعري للشاعر.

يحا ول الشاعر تجسيد الحدث من خلال ادراكه للعلاقات القائمة بينه وبين الصورة التي تفرزها له رؤيته لما تحتمله من معنى بشكل مباشر، وفقا لذاتية الشاعر كـرد فعـل معـادل لدواخله وبأثر تجربته الذاتية. كما ان التعبير عما هو ظاهر من قلق يكشف عن ما هو مضمر وبما يكشفه من انفعال وتوتر قائم على سطح الصورة يوازي علاقاته مع الحدث.

ففي قصيدته (بقليل من الحطب بقليل من الدخان):

بقليل من الحطب المتبقي في قلبي

أشعل سيجارة

وأرى في دخانها رفاقي

الذين ماتوا سكارى على الطرقات

وفي مكان اخر يقول:

أيضا رأيت شجرا تضربه الرياح ويسقط

شجراً في العروق

شجراً في الدم

رأيت أصابع تحاول أن تصير غصوناً

وتهوي

وعيونا تريد أن تصير ثماراً

للعابرين وللطيور

أن القيمة الجمالية للمتخيلات الشعرية في مجموعته الشعرية (من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب) ترتكز على قوة المثير الجمالي الذي عكسه الحدث في أناه الداخلية، فافرزت لديه كثافة الرؤية، والقيمة الحداثية لفضاء المتخيلات، ورؤاها المحركة لدلالاتها وتأويلاتها.

من خلال تجربته الشعرية هذه استطاع الشاعر أن يخلق من الخيال ومن نتاج تجربة عاشها ممزوجة بالمآسي بعد أن استفزه الواقع ليتقمط اللامنتمي الى المكان فرسم لنا خياله واقعاً مرّ به الشاعر لا يتلمسه الا من كان له خيالا فاعلا في رسم الصور المجازية.

هذا الخيال الواسعُ اللاملموس وبلا واقعٍ يقفُ عليه الشاعر ليعطي للمتخيل الجمالي قيمته المثلى في الكشف عن خصوبته الشعرية، للسير في طريقه لتشكيله النصي، ليثير تلك الحساسية الشعرية، القادرة على دغدغة (أنانا) وتحقق متغيرها التخييلي الجمالي الخلاق، الذي يتأسس على سعة الأفق، وعمق التأمل، وسحر الرؤيا الوهاجة.

وفي مجموعته (قل للعابر أن يعود نسي هنا ظله 2012).

فإن المتخيل الشعري يفتح مداليل الجملة الشعرية، لتخلق تصورها، وإبداعها بالتئامها بالنسق اللغوي التشكيلي المناسب. إذ أن الإدراك الجمالي للواقع يثمر معرفة جمالية بهذا الواقع. ومن هنا، تصير علاقة المتخيل بالواقع علاقة جمالية، وتصير وظيفة الفن أو الأدب هي الوصول إلى حالة من التناغم والانسجام.

الشاعر في تجربته هذه يحاول رؤية الأشياء رؤية صوفية للوصول لحالة من الكشف والرؤى المختلفة للأشياء التي جردها من شكلها المادي لتكون قادرة على القفز فوق الزمان والمكان بعد أن حولها الى أشكال قادرة للتكيف فى تناغمها أو تنافرها أو فوضاها ليرينا العالم كما هو فى حقيقته التى قد لا نراه نحن.

يتذكر اصدقائه الذين كانوا معه يقاسمونه الوجود واللاانتماء في قصيدته (المقعد):

هناك ايضا فوق من يمشي ولا مقعد له

ولكن من هم هؤلاء الذين طلعوا من ماء ويمشون فوق ؟ لا شك بينهم أنفاس غرقى

الأثرُ الجمالي لدى الشاعر وديع يتجسد كونه أثراً متخيلاً، فإنَّه يتركُ وجودَّه على صعيد الصور التي تفرزها وتجسدها مخيلته من خلال أفعاله الدلالية بطرائق تشكيلية. فانغمست صوره في الخيال القادر على تحريك مشاعر المتلقي من خلال الربط بين الدال والمدلول فصوره لا تتوقف عن توليد الدلالات داخل فضاء الصورة فأفرزت تجربته الشعرية زخماً عميقاً من الدالات. ومن هذا المنظور، فإن ما يعزز شعرية المتخيل بداعة النسق الوصفي، وحيازته التصويرية المراوغة من جهة، وارتياده فضاءات رؤيوية غير مدركة من جهة ثانية؛ مما يعني أن ثمة اشتغالاً إبداعياً على نسق التمفصل المثير، الذي يرفع وتيرة النسق حرارة وجمالاً نصياً. ولكنه لا يزال يراهم، يتحسسهم وكما يقول في قصيدته (العيون أيضا):

نظر ولم يرَ رحماً

نظر، ولم يرَ.

كأنه كان هو العابرين.

ومثلهم لم يعرف الى أين تذهب نظرته

انهم لم يموتوا لا يزالون أحياء (الذي غرق):

الذي غرق في الماء صار سحابة

ثم نزل قطرةً قطرة

والسابحون في البحر يسبحون فيه

 ولعل هذه الانفعالية الواضحة، حملت الشاعر على اختيار مفرداته القادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي، وبمعنى آخر تصدمه بما تحمله من شحنة توترية، يقوم اساسها على محورين: محور الذات الشاعرة، المتأثرة، ومحور الموضوع، والعلاقة القائمة بينهما، التي اما ان تكون علاقة تنافر وخصام، واما ان تكون علاقة توافق وانسجام.

وقد تعمد الشاعر الى اسلوب الانزياح؛ ليعمق من مسافة التوتر، واللامألوف بين مفردات اللغة، منتجا علاقات جديدة ذات طبيعة حزينة، تحمل معاناة الشاعر، واحزانه المتصاعدة. ففي قصيدته (الذي مات ولم ير الغزالة) يقول:

انتظر الغزالة ستين عاماً على النبع

أراد فقط أن يراها

هذه التي جالت طويلاً في خياله ورَعَت

عشب رأسه

وفي قصيدته (كان):

كان بودي أن أكتب أغنية

أن أجد كلمات

تقتل الضجر

ان روحه هائمة في أفق القصيدة يعرضها كما هي وان فضائه الشعري زمن مطلق تنساب اللغة فيه كالنهر، لغة تكوينية متدفقة كالموجات تنبثق الأفكار من خلالها، تتحول من لغة صوفية الى لغة مرئية تتشكل أحيانا كالحلم يحاول الشاعر ان يجسده بالكلمات فهو رهين لحظته الشعرية.

وفي مجموعته الاخيرة من المجموعة الكاملة (ريش في الريح  2014)  والتي أعتبرها محطة استراحة يعود ليحاور الأنا المتألمة ويعزيها في هذا الآخر ويرسل عبر صوره المتباينة آهات الشجون وغصص الرزايا فيقول للقارئ:

ايها الناظرون الى السماء

أنظروا جيدا تروها خاوية

وكذلك:

الغصون التي تهزها الريح لا تكون ترتجف

بل هي تلوح

للغصن الاخرى

وفي الختام:

في مجاميعه الشعرية هذه وعلى مدى أكثر من 30 سنة (1983-2014 ) أبدع الشاعر من خلالها في انتاج صور ورؤى تجسد المراحل التي اجتازها جعلنا نحسّه ساردا ليوميات عاشها بعد أن نفح فيها من روحه شعريتها، فقد انتقل من النص الوجداني المعبر عن تبرمه من الحاضر إلى نداء اعتمد تتابعا للأحداث، فتغيرت مستويات الأداء الشعري تبعا لمضامينها المتباينة لتبحث عن الأنا التائهة وتواسيها بأسلوب جميل وكلمات موحية يعلو وينخفض الإيقاع معها حسب الحاجة السيكولوجية المفسرة لقهر الذات وحجم العواطف.

الشاعر في رحلته الطويلة عبر ذاكرة احتفظت بالعديد من الصور الممزوجة بالحلم والناتجة بفعل الحدس والطاقة الكامنة في داخله، ولدت عنده قصيدة جامعة بين عروقها ما انصهر من المتناقضات التي صادفته في مزيج واحد الحسي والمجرد، ليُعبّر من خلالها عن قلق الذات الفردية، وذلك من خلال حركة الشاعر النفسية، ومدى تفاعله الداخلي مع صورة تترك لدى القارئ تخييلاً تصورياً تقوم مخيلتنا بإعادة تشكيلها من جديد.

تارة كان يتقمط الغنائية وفي الاخرى كان ساردا لحياته، تارة كان يتقمط النص الشعري وفي الاخرى كان النص المفتوح هو الذي يتقمطه.

ان شعرية القصيدة لدى الشاعر وديع كان اعتمادها على كثافة الحدث ورد فعله تجاهه، فكان لشعرية المتخيل الجمالي دوره في رسم الصورة، وإكسابها قيمة جمالية وسعة تخيلية.

لقد أبدع شاعرنا في اضفاء لمسته الإبداعية التخييلية على صوره الخاصة فاستطاع وبعد جولة من النتاجات ان يحرك الأشياء، ويخلقها من جديد، ليبعث فيها نبض الحياة؛ ممثلة بروح الفن وجوهره الأصيل. فجاءت قصائده مرايا عاكسةً لوقائع الماضي التالد، والحاضر الراهن، واستشراف الغد المستقبلي الآتي...

***

نزار حنا الديراني

في المثقف اليوم