قراءات نقدية

علاء حمد: الجمالية والكشف الذاتي في قصيدة النثر

تكون الذات عادة أسيرة العالم الذي يعوم حول الباث، وهي منفتحة بدرجات كبيرة ومساحة واسعة، فالباث المالك لهذه الذات لايشعر بأنّه ملكه، بل هي مسخّرة للتعبير والسفر خارج حدودها؛ فالشعرية وتقنيتها ليست محصورة بشكلها الأناي، وإنما هي انعكاس فعال بين الذات المالكة والجماعة التي حولها أو الطقوس المؤلمة والأوجاع المنتشرة في العالم. فجمالية الذات تظهر بين تكوينات التموضع النصّي للنصّ الشعري؛ وتسخير الذات خارج الأنا المخصخصة للذاتية الشخصية، فهنا تصبح الذات ذات تمليك خاص ولكنها لاتميل إلى الشاعر بقدر ميلها إلى الآخر من جهة وإلى عكس الوقائع والارتباطات الموضوعية مع الآخرين من جهة أخرى. لذلك فمهمة الذات التوظيف الآني بقدر كبير وليس الماضوي، وإن بحثت في الماضي فهي تبحث الآن بكلّ تأكيد. فعندما يكون النصّ الشعري خارج التفكّر، وهو في مناطق الـ فلاش باكية، تظهر الحالات الماضوية بشكلها الآني، لأنّ الذات تبحث عن الآن، وهي آنية قبل كل شيء، ولكن بترتيب زمني، ترتيب ذا علاقة مع الأفعال وتفاعلها، وعندما يزور الشاعر بعض الشرود الذهني، يعكس لنا حالته الشعرية بتواصلٍ خلاق، فيقودنا من الماضي إلى الحاضر.

لاتبحث الذات عن المعاني العادية بل تسافر إلى أبعاد أخرى؛ أبعاد ليست قريبة ومطروحة بالشكل اليومي المعتاد، بل المعاني غير المعروفة، والكلمات الغريبة غير المستهلكة؛ وقد عمل السرياليون بهذا الاتجاه، وها هو رامبو مثلا: " ليس الشعر إذن، في نظر رامبو، ولا في نظر تلامذته السرياليين، طريقة معرفة بالمعنى العادي للمعرفة. بل هو الطريق التي بقيت لنا كي نتعرف إلى الأساطير الإنسانية بوجوهها التي لاتحصى. وما دامت الأساطير شيئا غير معروف فإنّ الكلمات التي تحملها لايمكن أن تعرف كذلك (1)".

عند انتقال الذات العادية إلى ذات شاعرة من الطبيعي أن تنتقل معها الحسية الجمالية، أو توجد منافذ فعّالة تؤدي إلى العنصر الجمالي، فالذات الشاعرة تحمل من منظومة الدهشة بما لايقارن مع غيرها، ومنظومة الدهشة هي الجمالية بذاتها، إذن يصبح لدينا بالإضافة إلى البعد الذاتي الجمالي، البعد الجمالي الذاتي؛ من خلال تموضع الذات الجديدة والتي دائما يتمّ البحث عنها، وهنا تبدأ العلاقات مابين المتخيل " الذاتي " والذات الشاعرة (أو العاملة) الجديدة.

إنّ السعي إلى الإيمان الذاتي والبحث عن المعاني من خلالها ليس إلا بداية للحسية الجديدة التي تعلّقَ الباث بها وراح مع التنقيب عن مفهومية الآخر والتقرّب من الموضوعاتية المطروحة على مستوى الوعي اللغوي في النصّ الشعري، ومستوى الوعي الذاتي في التأسيس الجديد. فهناك المستوى الداخلي للذات والمستوى الخارجي؛ ففي المستوى الداخلي هناك الاستقلالية في اتخاذ قرار الـ " أنا " حيث تميل هذه الاستقلالية إلى معرفة الآخر من خلالها والولوج إلى تمثله من خلال الكلمة والعبارة في النصّ الشعري، وهذا مايحدث كثيرا حيث ترتد الـ " أنا " من المستوى الداخلي إلى المستوى الداخلي عند التفكير بالآخر واتخاذه كمصدر مهم في تمثيل أوجاعه أو محيطه أينما كان، فهو متآخ مع دواخل الشاعر، وهناك الكثير من المشاهد الشعرية الواضحة تبين هذا التحليق في النصّ الشعري. وأما المستوى الثاني فهو المستوى الخارجي، فهنا يتمّ نقل الحدث الخارجي بواسطة التصوير العيني " البصرية " والتي تشتغل من خلال الأنا المنفصلة عن الآخرين، وترسم مساحة جميلة بين المساحة الداخلية والمساحة الخارجية.

المشهد الشعري، لاشعوري تصويري، وعبارة عن ديناميكية خلاقة، حيث نذهب إلى اللامألوف بواسطة الجنون الخلاق، الذي يدفعنا أكثر وأكثر نحو الحرية وحرية اللاشعور. فأسبقية التركيب الرمزي هو كل حالة تركيبية رمزية على أساس تفكيري، وعلى حسية متجددة، مما تدعونا إلى حالة من تأصيل خيالي، وهناك دعوة تموضعية ضمن المنظور الرمزي؛ وهذه الدعوة تدفعنا أكثر ونحن في غرفة الخيال نحو التأسيس والخلق الشعري. ومن هنا ندخل الى طبيعة المرء السيكولوجية، والمحتاجة الى نقاط من الانطلاق نحو الذات العاملة من جهة (حيث تشكل لدينا طبيعة شعرية ضمن حسيّة جديدة) والمنظور الخارجي من جهة أخرى، والذي تديره العين ضمن التفكر الجديد. وهذا الدوران جعلنا ذو تبنّي لمواقف جديدة، فالرؤية تلتقط الجديد ولا حاجة لها بالأشياء المُلتقطة، فربما هي مترسبة في الذهنية، ويتم تحريكها من خلال رؤية خيالية داخلية جديدة، فتدفعنا إلى خيال جديد. " الصورة عند الرمزيين إفراز خيالي متوتر يجمع بين الانكشاف والتحجب، وبين الكيف الحسي للصور والدلالة الكلية المجردة، بين النسق المثالي الذي يحدده الخيال، والأساس المادي للتجربة وهو الذي تبدأ منه الصور(2)". وهذا مايقودنا إلى الغور البعيد نحو اللاشعور، والاعتناء بالمنطقتين الداخلية: البعد الحدسي، والخارجية مع البعد الخيالي؛ فالمنطقة الداخلية الذاتية تعتني بالاثر العميق، والمنطقة الخارجية تقودنا إلى رؤى خارجية لالتقاط الممكن منها ضمن المنظومة الخيالية.

نذهب وعلاقة الحالة الذاتية مع الحالتين النفسية والفكرية، وهي مكونات لصيرورة غير منتهية في الشعر الحديث، وقد ذهب السرياليون بقوة أكبر نحو الأشياء، فالعالم يعوم من حولنا يعوم ونحن ننظر إليه نظرات غارقة، ومن خلال هذه النظرات الغارقة ننزل إلى قاع البحر (ماهية الأشياء وما حولها) فكلّ شيء من حولنا، قد تكون هذه الاشياء تحمل معاني تافهة، وهي ليست تمثيلية قصوى، ولكنّها مهمة، فلا ينظر إليها كلّ مدقق، فالمسافر الذي يبحث عن غربة، قد يراه بعضنا موضوعا تافها، ولكنّه مهما، فقد ازداد العالم من حولنا معاناة جديدة لرجل من طراز جديد؛ أقول من طراز جديد لأنّه بحث في ذاته، واستجابت تلك الذات إلى رغبة المعاناة ورحلته الجديدة. " الشعر هو موقف ووجهة نظر نرنو من خلالها إلى الأشياء، الشعر هو في الأشياء وفي موقفنا من الأشياء. إنّه حالة نفسية وفكرية، أسلوب ما، في التعاطي مع العالم والحكم عليه وفهمه وتمثله. إلا أنّ هذه الحالة تكون مطمورة تحت ركام الحسّ ونفايات المنطق ولابدّ من تدريب الإنسان كي يستعيد تلك الحالة من جديد (3) ".

لاتقلّ ميزة المشهد الشعري عن قيمته الجمالية في التعبير اللاشعوري، فعند إحالة الذات من الداخل إلى الآخر، يكون قد تبرع بموقف كما يتبرع بزمرة دمه للآخر دون معرفة مسبقة؛ فجلّ ماتملكه المخيلة تاجها الجمالي، ليكون السلطان الأول لها وهي ترسم المعاني بشكل لغوي امتدادي لكي تطرب باب المتلقي، علما ما نزفته لايمثلها تماما، تذهب إلى بعد اقترابي في الزمنية النازفة.

في هذا الزمن الإشاري لاتحتاج الذات إلى معينات، فهي وحدة إشارية، أشارت إلى الآخر بواسطة المنظور النظري، مما استدعى استبدال الكلمات بكلمات أكثر إثارة لكي يضمن الباث براءة المشار إليه بواسطة الذات الكاشفة.

الخروج من الحسية الداخلية وإلى الحسية الخارجية، يعني أنّ هناك توظيفات جديدة مع كلّ مائدة خيالية يتم التعلق خلفها، وما تحوي تلك المائدة من ملذّات تبعث على الأريحية، وكذلك المشهد الشعري فإنّه يبعث على أريحية فكرية خارج التفكر، بل يقودنا إلى مزاج حيوي ويدفعنا إلى الشيئية خارج الأشياء. فالشاعر تزداد ألوان متعته من خلال الشيئية، لذلك لايقترب من الأشياء؛ فاللذة الجمالية، هي القيمة الذاتية والتي تدفع الشاعر إلى التمعن أكثر فأكثر والإبحار في الأشياء؛ فاللذة الانفرداية تنظر إلى الجسد بشكله الانفرادي، بينما اللذة الجماعية فهي من اللذات المشتبكة وعديدة التفردات ولايمكننا السيطرة عليها، فتتعدد من خلالها الذوات، وكلّ ذات تتعلق بلذة؛ ونبقى مع لذة التفرّد فهي الأقرب إلى الذات الشاعرة والتي تبحث عن القيمة الجمالية بين مشاهد النصوص، وتعلقها في الذائقة الشعرية.

يمثل اللاشعور قيمة، قيمة ديناميكية عند الوعي الكتابي؛ وقد ذهب فرويد مع هذه القيمة (في العلاج الإكلينيكي)؛ فالمحتويات المكبوتة تخرج وتصبح حالة من الوعي، وهنا تمثل قيمة من اللاشعور، فتظهر لدينا حالة من المقاومة الكتابية؛ وخصوصا أننا في الشعرية؛ وهذا يعني أن تشكل قيمة من الشعرية الفائضة أيضا عند التفكر اللاشعوري في حالة المقاومة الواعية من جهة وحالة النتاجات النفسية التي تمنحنا حبّ المقاومة والديمومة الكتابية بأحضان القصائدية من جهة أخرى. فاللاشعور عند الكتابة يتمظهر عند الشعور، وهو حالة من حالات النسيان في تصويب الزمكانية، فالنتاج الثقافي والأحلام كلها ملتويات إفرازية تخرج عند اللاشعور الكتابي.

إن التقديرات الجمالية من الأعمال الخلاقة؛ فالفنان عندما يجمع أعماله وأدواته وابتكاراته ويوظفها كعمل جمالي، فهذا العمل نعتبره ذا فكرة خلاقة، فقد رأى " هيغل " بأن الأعمال الجمالية يجب أن تكون أعمالا محسوسة، كالتمثال والأشياء في الطبيعة الحرة وغير ذلك، ولكن يرى غيره مايخالف ذلك، فالعمل الجميل عندما يغزو التوظيفات الشعرية عن طريق المسلك القصائدي وحالة الجنون الخلاقة التي تؤدي وتنفذ إلى النصوص الجمالية فهو لايعتمد المحسوسات المباشرة؛ بالعكس فإن الشاعر قد يبحث عن حسية جديدة، حسية تميل إلى الجمالية قبل كلّ شيء واتقانها بشكلها الجديد لكي تنبت المؤثرات الجمالية وتبرق كحالة لامثيل لها.

الأعمال التي تثير الحواس من جديد هي تلك الأعمال التي تتكئ على الحالة الجمالية بأفعال تفاعلية تحرّك النصّ الشعري وتجعل منه ايقونة فعالة؛ فإنّ كلّ عضو من أعضاء الإدراك الحسّي من الممكن أن يكون مادة للعمل الجمالي.

تتحمّل اللقطة البصرية البعد الجمالي الذي نقلته بوسيلة البصر، بينما تتحمل اللقطة الحسية البعد الجمالي الذي رُسم بوسيلة الحس؛ وفي اللقطتين يتباعد المنظور الجمالي، فكلما ابتعد المنظور قلـت الأخطاء المنظورة، وكذلك من الناحية الحسية كلما تعمقت الحسية في المنظور الشعري قلت الأخطاء المنظورة وانشغلت المشاهد بحركات الأفعال والجمل ومجاوراتها التي تقودنا إلى البعد الجمالي في النصّ الشعري؛ وهكذا يمتزج الجمال بواسطة الأشياء والألفاظ لإنتاج حالة من حالات ومسالك فريدة النوع في النصّ الشعري الحديث.

***

كتابة: علاء حمد

...........................

1- ص 64، عصر السريالية، والاس فاولي، ترجمة: خالدة سعيد، دار التكوين، سورية

2- ص 267، الخيال مفهوماته ووظائفه، د. عاطف جوده نصر

3-ص 234، الرمزية والسريالية في الشعر الغربي والعربي، إيليا الحاوي، دار الثقافة، بيروت

في المثقف اليوم