قراءات نقدية

فاطمة عبد الله: التأجيل والمعنى المؤجل

قراءة في انزياحات اللغة وقلق الهوية في نص "حينَ تُصْبِح الخَيبة وجهاً آخر للفجر" للأديب ثامر الخفاجي.

تنتمي هذه القراءة إلى أفق نقدي يرى النص الأدبي بوصفه كياناً مفتوحاً لا يقاس بمنطقه الداخلي فقط بل بقدرته على توليد المعنى وخلخلته في آن. وكما يقول رولان بارت:

"النص هو نسيج من اقتباسات من ألف مصدر ومصدر... هو فضاء متعدد الأصوات، لا ينتج المعنى بل يطلقه."

انطلاقاً من هذا التصور، نتعامل مع النص المدروس لا بوصفه حاملاً لمعنى ثابت بل كفعل لغوي يتشظى عبر الذات والزمان والدلالة ويعيد إنتاج علاقات الإنسان بالخيبة والانكسار والضياع من داخل اللغة نفسها.

العنوان:

"حين تصبح الخيبة وجهاً آخر للفجر"

العنوان يلعب دوراً تأسيسياً في بناء المعنى، فهو يُقارب بين زمن النهوض (الفجر) وحالة الانكسار (الخيبة) في مفارقة تولد التوتر الدلالي الذي يشحن النص لاحقاً. هذه الازدواجية تعكس رؤية حداثية للعالم حيث التناقضات تتعايش وتنتج وعياً شقياً لا يؤمن بالثنائيات المطلقة.

البنية النصية والدلالية:

النص يتخذ شكل مونولوج داخلي تأملي تحكمه بنية تشظ لغوي وسردي في آن، تتقاطع فيه الذات مع الزمان والمكان لتخلق فضاءً تعبيرياً مركباً. لا يعنى النص بسرد خطي أو حبكة واضحة بل يؤسس لمعنى متحول يتكون عبر التكرار والاستبطان والانزياحات المجازية الكثيفة.

تقول الذات: "لم أعُد أفرّق بين وجوه الأمس وأقنعة الغد، كأنَّ الزمان قد اختلط في شراييني"

هذا التصور الذاتي للزمن، الممزق والمندغم يتجاوز البعد الكرونولوجي ويقترب من ما يعرف بالـtemps psychologique حيث التجربة الذاتية تفرض إيقاعها الخاص وهو ما يعيد تشكيل الخيبة كحالة مستمرة لا ترتبط بزمن خارجي محدد..

الذات المتكلمة مأزومة ومشروخة تمارس نقداً داخلياً صارماً. هي ذات ما بعد حداثية بامتياز تتشكك في المسلمات وتشتبك مع الواقع عبر اللغة لا عبر الفعل.

الحضور القوي لفكرة التكرار (الخيبة، التيه، النافذة، الانكسار) يوظف لا كأداة بلاغية فقط، بل كآلية وجودية تفضح عقم التكرار نفسه وتستحضر أثر "الدوائر المغلقة" التي تلتهم الحلم واليقين معاً..

اللغة والانزياح الأسلوبي:

تقوم اللغة في هذا النص بدور يتجاوز النقل أو التصوير فهي تمارس تفكيكاً معرفياً وجمالياً للواقع عبر ما يمكن تسميته بـالانزياح الأسلوبي والانحراف عن المألوف التعبيري. وهذا ما يجعل النص أقرب إلى لغة الشعر الحر الحديثة منه إلى النثر التقليدي.

تمتلئ التراكيب بتوتر دلالي وتشظ لغوي في المعنى كما في قول الكاتب:

"الزمان قد اختلط في شراييني" و"بما لم يقل، وبما قيل خطأً، وبما تم السكوت عنه"، وهي أمثلة تبرز ميلاً نحو "اللغة التي تُخفي أكثر مما تُفصح"، حيث يصبح المعنى إمكاناً مفتوحاً لا حقيقة مغلقة وهو من سمات الكتابة الحداثية.

كثافة المجاز تساهم في زعزعة العلاقات الثابتة بين الدال والمدلول. الأشياء تفقد هويتها الثابتة وتعاد صياغتها دلالياً وهو ما يلتقي مع مفهوم "تفجير اللغة" عند رولان بارت وبول ريكور حيث اللغة لا تشير إلى العالم بل تصنعه.

وفي هذا السياق، نواجه مشهداً لغوياً بالغ الدقة في قوله:

"أحاول أن أُمسك بخيط النور المترنّح بين جفون الصباح، لكن يدي مُثقلةٌ بما لم يُقال"،

هنا، تتحول صورة الأمل (النور) إلى خيط هش لا يمسك والذات المثقلة بالصمت والعجز تعجزها اللغة عن الإمساك بالنجاة.

إننا أمام لغة تعبر بالغياب لا بالحضور تمارس التورية والتأجيل مما يجسد ما أشار إليه بارت حول "تفكيك المعنى داخل النص"، حيث القول لا يكشف بل يعقد والمعنى ليس جاهزاً بل مؤجلاّ على الدوام.

البُعد الفلسفي والوجودي:

يحمل النص بعداً وجودياً عميقاً يتجلى في تشظي الذات وانهيار المعنى والتماهي بين الضياع واليقين.

العبارة الختامية:

"ليس كل من تاه ضاع، فبعض الضياع هو الطريق"

وهي عبارة تمثل نواة فلسفية تعيد تأويل المفاهيم من داخلها. هذا الانقلاب في المعنى هو ممارسة حداثية بامتياز تزعزع الثنائية السائدة (ضياع/هداية)، وتعلي من تجربة الذات في مواجهة الوجود الغامض القلق كما في نصوص كامو أو سارتر.

التناص والمرجعيات الثقافية:

يتكئ النص على شبكة تناصية متعددة المستويات تضمر خلفها مرجعيات روحية وفكرية وحداثية تسهم في إنتاج المعنى لا عبر الكشف بل عبر التداخل والاختلاف انسجاماً مع تصور جوليا كريستيفا للتناص بوصفه "تشابك نصوص لا يقرأ أي نص بمعزل عنها".

التناص الصوفي

يحضر التناص الصوفي ضمنياً من خلال استعارة "الضياع كطريق"، وهو نمط من التفكير الروحي الذي يرى في التيه سبيلاً للمعرفة والانكشاف لا للسقوط. هذه الدلالة تظهر جلياً في عبارة:

"ليس كل من تاه ضاع، فبعض الضياع هو الطريق"

وهو تصور قريب من فكر ابن عربي والنفري حيث الضياع لا يناقض الهداية بل يفضي إلى نوع من التجلي الداخلي.

المرجعية الوجودية

يتناص النص مع الفكر الوجودي الحديث، لا سيما في تمثلاته للقلق وعبثية الزمن وانهيار المعنى. يظهر هذا في مساءلة الذات وانكشاف هشاشتها الداخلية، كما في تساؤل الكاتب:

"من قال إن الانكسار لا يُرى إلا حين ننظر في أعيننا دون أن نرمش؟"

وهي عبارة تمثل لحظة وعي وجودي حاد، تلامس جوهر الذات في لحظات التخلي والتأمل حيث يصبح الانكسار غير مرئي إلا للذات التي تجرؤ على مواجهة نفسها دون مراوغة. هنا، تلتقي اللغة مع قلق الوجود في أقصى درجات الصدق والتجريد وتستدعى فلسفة سارتر وكيركغارد ونيتشه، ممن نظروا إلى الذات بوصفها كينونة متفككة واللغة بوصفها أداة قاصرة عن الإمساك بجوهر العالم أو النجاة منه..

جمالية العبث

أما من حيث الشكل والبنية الزمنية، فثمة تقاطعات مع جمالية العبث عند ألبير كامو وصامويل بيكيت خصوصاً في دوران الزمن حول الخسارة وتكرار الانتظار وضياع اليقين. فالنص لا يتطور نحو حل بل يدور في حلقة من اللااكتمال والتأجيل الوجودي حيث "المرآة لا تعكس الذات، والصلاة تضيع"، وهي صور تناظر حالة العبث في نصوص "في انتظار غودو" و"أسطورة سيزيف".

التوظيف العام للتناص

هذه التناصات لا تستدعى كزينة معرفية بل تدمج عضوياً في بناء المعنى وتسهم في خلق نص هجين تتداخل فيه مرجعيات الهوية والشك والانخطاف الروحي، ما يجسد حداثة النص لا عبر "حداثة الشكل" فقط بل عبر تفكيك المرجع وتحويره داخل بنيته.

بالتالي يمكن تصنيف النص ضمن الكتابة الحداثية الواعية بذاتها، حيث لا ينتج المعنى بوصفه حصيلة نهائية بل يفعل قلقاً معرفياً وشعورياً يهدف إلى تفكيك الطمأنينة واستبدالها بـ"اللايقين المنتج".

تتأسس بنيته على شروخ الذات وارتباك اللغة فيتجاوز دور التعبير إلى فعل تأويلي يسائل الأنا والعالم في آن.

النص ينجح في تفكيك البنية المغلقة للمعنى عبر لغة تتأرجح بين الشاعرية المجازية العالية والتأمل الفلسفي المجرد مما يمنحه كثافة رمزية ويفتحه على قراءات تأويلية متعددة وفق منظور القارئ وسياق التلقي.

بذلك يندرج النص ضمن الكتابة الحداثية التي لا تسعى إلى تثبيت المعنى أو إنتاجه كحصيلة نهائية بل تفتحه بوصفه فعلاً تأويلياً دائم الحركة، يتشكل في كل قراءة ويظل عصياً على الاختزال...

***

***

قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

..........................

حينَ تُصْبِح الخَيبة وجهًا آخر للفجر"

لن أُخَبِّئَ هَفَواتي في دَهالِيزِ ظُلْمَةٍ، قد تَتَغَيَّرُ سِحْنَتُها عِندَما يَحينُ بُزوغُ الفَجْر، وهو يَحْمِلُ صَحائِفَ خَيْبَتِنا لِيَوْمٍ جَديدٍ تَأَسَّرَتْ فيه أَحْلامُنا العَصِيَّةُ، الَّتي لَم نَبْرَحْ نُغازِلُها كُلَّ يَومٍ بِبَقايا دُعاءٍ نَسِيَهُ أَحَدُهُم عِندَ صَلاةِ الفَجْر.

لَم أَكُنْ على اطِّلاعٍ بِتَفاصيلِ حِكايةِ يَومٍ أَلْعَنُ فيهِ خَفايا ما تُضْمِرُهُ لَنا السّاعاتُ، وأحاديثُ قَومٍ يَنُوءُونَ بِأَحْمالِ أَوْزارِ ماضٍ كَبَّلَهُم بِتُرَّهاتِ أَمْجادٍ مَصْلُوبَةِ الهُوِيَّةِ، الَّتي لَم تَصْلُحْ سِوى لِعُبُورِ نِقاطِ التَّفْتيشِ الوَهْمِيَّةِ في حاضِرٍ يُحاوِلُ فَكَّ أَسْرِ أَوْهامٍ لَم نُحْسِنِ الظَّنَّ بِها.

وأنا، في غمرة هذا التيه المُقيم، لم أعُد أفرّق بين وجوه الأمس وأقنعة الغد، كأنَّ الزمان قد اختلط في شراييني، أو كأنَّ لحظاته تُعيد نسج ذات الخيبة بألوانٍ باهتةٍ تختلف في شكلها، لكنها تَصْدُقُ في مرارتها.

كثيرًا ما كنتُ أبحث عن نافذة، لا تُطلّ على الخراب. نافذة لا تمرّ بها رياح الذكريات، ولا تنعكس على زجاجها ملامح من نسيناهم عمدًا، ثم فوجئنا بهم يعودون، يسكنون زوايا الكلام، وحنجرة الصمت.

أحاول أن أُمسك بخيط النور المترنّح بين جفون الصباح، لكن يدي مُثقلةٌ بما لم يُقال، وبما قِيل خطأً، وبما تمّ السكوت عنه حين كان الكلام ضرورةً لا ترفًا.

من علّمني أن أُجمّل السقوط بالكلمات؟

من قال إن الانكسار لا يُرى إلا حين ننظر في أعيننا دون أن نرمش؟

"ليس كل من تاهَ ضاع، فبعض الضياع هو الطريق."

في المثقف اليوم