قراءات نقدية
فاطمة عبد الله: قراءة في قصيدة «عشقٌ معذَّب» للشاعرة سرية العثمان

العشق بوصفه صلاة متألمة
تسعى هذه الدراسة إلى قراءة قصيدة "عشقٌ معذَّب: أنتَ المعبود وأنا الصلاة" للشاعرة سرية العثمان قراءة نقدية تستند إلى المنهج التحليلي الصوفي ضمن مقاربة لغوية رمزية تبرز تحولات الخطاب العشقي من التجربة البشرية إلى التجلي الروحي.
وتقوم هذه القراءة على تفعيل أدوات المنهج التحليلي الصوفي الذي يدرس النصوص بوصفها تمظهرات رمزية لتجربة الاتحاد متقاطعاً مع مقاربة تحليل الخطاب التي تشتغل على اللغة كنسق دلالي مولد للمعنى الروحي.
ينطلق النص من علاقة ثنائية بين المعبود/المتعبد، إلا أنه يتجاوز الثنائية ليؤسس خطاباً وحدوياً تتماهى فيه الذات بالمطلق عبر بنية لغوية متوترة مشحونة بعناصر الألم والفناء، حيث يتحول الوجع إلى شرط معرفي للاتحاد و يتداخل المقدس بالجسد ليصبح "العشق" نفسه ممارسة صلاتية وجودية.
تطرح هنا الفرضية الآتية:
إنّ قصيدة "عشقٌ معذَّب" تعيد إنتاج خطاب العشق الصوفي ضمن بنية شعرية حرة معاصرة تجعل الألم وسيلة لتجسيد مفهوم الفناء في المحبوب وتحيل اللغة إلى طقس عبادي يتحقق فيه حضور الإله عبر انكسار الذات.
القصيدة تبني "مذهب ألماني" للصلاة: فالألم ليس عائقاً عن اللقاء بل شرط لانسلاخ الذات والارتقاء إلى حالة اتحادية صوفية. النص يعيد تدوير صور التصوف التقليدية في إطار لسان معاصر حر يمزج الجسد بالدعاء لتقديم تجربة صوفية تقرب العشق من الطقوس اليومية (الدم، الملح، الدموع).
الإطار النظري
يستند التحليل إلى مفاهيم أساسية في التصوف الإسلامي أبرزها:
الفناء والبقاء كما عند ابن عربي و الحلاج: حيث يذوب العاشق في المحبوب حتى تمحي الأنا في الأنت.
وكما يذهب ابن عربي في الفتوحات المكية إلى أن الفناء هو اكتمال العشق حين تذوب الذات في الآخر المطلق، فإن هذا الذوبان يتحول في النص إلى فعل لغوي يعبر عن وحدة العابد و المعبود داخل تجربة الوجدان الشعري.
الجرح كرمز للمعرفة: الألم شرط الإدراك كما في قول الرومي: "إنّ الجرح هو الموضع الذي يدخل منه النور".
ويؤكد الرومي في المثنوي أنّ الجرح موضع النور والمعرفة، إذ يصبح الألم أداة كشف روحي تفتح الوعي على المطلق، وهو ما تجسده القصيدة حين تجعل الوجع وسيلة حضور للمعبود.
اللغة الطقسية: الدعاء والمناجاة والنداء بوصفها أشكالاً لغوية لإقامة الصلة مع الغيب. تتحول اللغة في التجربة الصوفية إلى معراج للروح وأداة للفناء في المعنى.
التحليل النصي:
العنوان والدلالة الميتافيزيقية
يؤسس العنوان "أنْتَ المَعْبود وأَنا الصَلاة" لمعادلة معرفية عميقة: فالمتكلم لا يصف ذاته بالمحب أو العابد فقط، بل يجعل من كيانه فعل عبادة خالص، حيث تغدو الصلاة ذاتها تجسداً وجودياً للعشق.
هذه الصيغة تكشف عن وعي صوفي يقارب الفكر الحلاجي مع فارق أن الشاعرة تحافظ على المسافة الشعورية بين الانمحاء والالتماس، أي بين الفناء والرغبة في البقاء بظل المحبوب.
الجسد بوصفه معبراً نحو المطلق
تعمل الشاعرة على تشكيل معجم روحي جسدي يمزج بين ماديات الألم ورموز الطهر ويتضح ذلك في قولها:
"يَذُوبُ حُبُّكَ مِلْحًا فِي دَمِي،
فَلَا أُمَيِّزُ بَيْنَ مِلْحِكَ وَمَائِي،
وَلَا بَيْنَ دَمِي وَدُرُوبِكَ."
في هذا المقطع تتجلى استعارة الانصهار الجسدي بين العاشق و المعبود، حيث يمتزج "الملح"(رمز الحفظ والوجع) بـ"الدم" (رمز الحياة) لتغدو الذات موضع تأله جسدي.
التحام الملح بالماء يحيل إلى جدلية التطهير والألم: الحب يطهر كما يجرح.
وهكذا تعيد القصيدة الاعتبار للجسد بوصفه موضعاً للتجلي، حيث يتحقق العشق عبر الحضور الجسدي لا عبر محوه في التقاء بين الحسي والمقدس يذكر بما ذهب إليه ابن عربي حين رأى في الجمال المخلوق أثراً من جمال الخالق.
وإذا كان الجسد في القصيدة بشكل معبراً نحو المطلق ومجالاً لتجلي التجربة العرفانية في بعدها الحسي، فإن القصيدة تنتقل بعد ذلك إلى مستوى أعمق من التجربة هو الطقس الداخلي الذي يتجلى في الألم المسبح والمعرفة المتولدة من الوجع.
الطقس الداخليّ والوجع المسبح
تقول الشاعرة:
"أُغْمِضُ قَلْبِي عَلَى طَعْنَةٍ تُسَبِّحُ بِاسْمِكَ،
كَأَنَّكَ الرَّحْمَةُ،
وَكَأَنَّنِي الصَّلَاةُ الَّتِي لَا تَكْتَمِلُ إِلَّا بِوَجَعِكَ."
يتجلى هنا منطق الألم العرفانيّ: فالصلاة بوصفها فعلاً من الانضباط الروحي لا تكتمل إلا بالوجع، أي إن الألم يتحول إلى ركن من أركان العبادة.
يتخذ الجرح وظيفة معرفية ولغوية في آن معاً، إذ إن الطعنة تسبح باسم المعبود فيصبح الألم ذاته لساناً للتقديس.
بهذا تعيد الشاعرة صياغة مفهوم "الابتلاء" القرآني بلغة وجدانية تماثل ما يسميه الرومي العشق الإلهي الذي يطهر القلب من ظلاله.
إنّ العلاقة بين الجرح والمعرفة في النصّ تحيل إلى ما تصفه آنماري شمل ( Annemarie Schimmel) بـ" نار التحول الصوفي"، حيث يصبح الألم وسيلة تطهير وارتقاء.
ولئن كانت الشاعرة تكتب جرحها بلغة مفعمة بالجسد، فإنها تلتقي هنا مع عبد الكبير الخطيبي الذي يرى أن "الكتابة لا تكون أصيلة إلا حين تكتب الجسد بجرحه"، إذ تتحول الكلمة إلى جسد متعبد في اللغة.
ومن منظور نقدي حديث، يمكن القول إن النص يجسد ما وصفه رولان بارت بـ"لذة النص"، أي تداخل اللذة والألم في التجربة اللغوية، حيث تتحد العبادة بالحب لتنتج صلاة جسدية تذوب في المطلق.
جدلية الهروب والسعي
تقول الشاعرة:
"لَمْ أَعُدْ أَهْرُبُ مِنْكَ،
بَلْ صِرْتُ أَسْعَى إِلَيْكَ
كَمَا يَسْعَى الظَّمْآنُ إِلَى النَّبْعِ،
عَارِفًا أَنَّهُ خُدْعَةٌ،
وَلَكِنَّهُ الخُدْعَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الخلودَ."
في هذا المقطع يبرز التحول من موقف الرفض إلى مقام التسليم.
الظمأ والخداع والخلود مفردات تنتمي إلى المعجم الصوفيّ للامتحان والمعرفة.
فالمحب "يعرف أنّها خدعة " لكنه يختارها لأنها تفضي إلى الخلود الرمزي، أي إلى الفناء في المطلق.
إنها خدعة العشق التي تحدث عنها النفري في قوله: "أوقفني في العشق وقال لي: هذا موت لا موت بعده ".
وإذا كان هذا المقطع يعبر عن حركة العاشق في بعدها الخارجي، أي انتقاله من الهروب إلى السعي، فإن القصيدة تنتقل بعد ذلك إلى البعد الداخلي لهذه الرحلة، حيث يصبح النداء والمناجاة شكلاً من أشكال السعي الروحي الذي يتجاوز الجسد ليبلغ مقام الرجاء الصوفي.
التوسل الندائي والرجاء الصوفي
ورد في النص:
"يَا سَاكِنًا فِي صَمْتِ أَوْرِدَتِي،
أَمَا آنَ لِجَلالِكَ أَنْ تَسْتَجِيبَ لِمُنَاجَاتِي؟"
يستعيد النص هنا لغة الدعاء القرآني في صيغتها الندائية لتتجلى العلاقة بين الداخل الجسدي ("أوردتي") والقداسة العليا ("جلالك").
الجمع بين "الصمت" و"الأوردة" ينتج مجازاً عميقاً للحضور الإلهي في الدم. الإله يسكن مجرى الحياة، لكن صمته يؤكد المسافة المستمرة بين العاشق والمحبوب.
هكذا تعيد الشاعرة رسم التجربة الصوفية في قالب لغوي مؤنث يجعل المناجاة امتداداً لنبض الجسد نفسه، حيث يتحول الخطاب من السعي إلى الاستغاثة ومن الحركة نحو الخارج إلى انفتاح الداخل على نداء الغيب.
وإذا كانت المناجاة في المقطع السابق تمثل ذروة الانفعال الصوفي حيث يتجلى النداء بوصفه وسيلة اتصال بين العاشق و المعبود، فإن النص لا يكتفي بهذا المقام، بل يتجاوزه إلى مرحلة أعمق هي مرحلة الفناء. فبعد أن يرهق النداء اللغة بجهد الرجاء تتجه الذات نحو الصمت المتعالي حيث لا يبقى للقول سوى أن يذوب في المحبوب. هنا تتحول التجربة من خطاب الدعاء إلى تجربة الذوبان ومن نداء الحضور إلى سؤال العدم الذي يؤسس لما يمكن تسميته "الفناء الاختياري ".
خاتمة النص: نحو فناء اختياري
ورد في النص:
"ذُبْتُ بِكَ...
فَهَلْ لِرُوحِي أَنْ تَفْنَى بِجَلاَلِكَ؟"
ينتهي الخطاب الشعري بسؤال مفتوح يعبر عن تعليق الفناء، أي رغبة غير مكتملة في الاتحاد.
إن فعل الذوبان ("ذُبتُ بك") يعلن الوصول إلى العتبة، بينما السؤال الختامي يعيد الذات إلى دائرة التوق.
بهذا تحافظ القصيدة على دينامية الصعود الصوفيّ المفتوح فلا تبلغ النهاية، بل تستبقي المسافة كشرط لاستمرار العشق.
وبالتالي نجد أن قصيدة "عشقٌ معذَّب" تكشف عن خطاب صوفي معاصر يتأسس على جدلية العبادة والألم، حيث تتحول اللغة إلى طقس تعبدي والجسد إلى فضاء لتجلي المعنى والوجع إلى وسيلة للمعرفة الروحية. ومن خلال هذا التداخل بين الجسد و المقدس تبلور الشاعرة رؤية صوفية حداثية تعيد صياغة مفهوم الصلاة بوصفها حالة عشق وجودي يتحد فيها الروحي بالمادي.
إنّ هذه القراءة تبرز أن سرية العثمان لا تكتب تصوفاً تقليدياً، بل تعيد إنتاج التجربة العرفانية في أفق أنثوي حديث يجعل الجسد وسيطاً بين الغيب واللغة، ويحول القصيدة إلى ممارسة لغوية للعبادة الجمالية، حيث يتحقق الفناء عبر الجمال لا عبر الزهد و يغدو الجرح موضع الجلال ومعبر الخلاص الشعري.
***
دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله
..........................
عشقٌ معذَّب: (أنْتَ المَعْبود وأَنا الصَلاة)
يَذُوبُ حُبُّكَ
مِلْحاً فِي دَمِي،
فَلَا أُمَيِّزُ بَيْنَ مِلْحِكَ وَمَائِي،
وَلَا بَيْنَ دَمِي وَدُرُوبِكَ.
*
أَفْتَحُ يَدَيَّ عَلَى شَوْقٍ لَا يُرَى،
وَأُغْمِضُ قَلْبِي عَلَى طَعْنَةٍ تُسَبِّحُ بِاسْمِكَ.
كَأَنَّكَ الرَّحْمَةُ،
وَكَأَنَّنِي الصَّلَاةُ الَّتِي لَا تَكْتَمِلُ
إِلَّا بِوَجَعِكَ.
*
مُنْذُ أَنْ نَادَى الجُرْحُ بِاسْمِكَ،
وَكُلُّ خَلَايَايَ تُلَبِّي.
لَمْ أَعُدْ أَهْرُبُ مِنْكَ،
بَلْ صِرْتُ أَسْعَى إِلَيْكَ
كَمَا يَسْعَى الظَّمْآنُ إِلَى النَّبْعِ،
عَارِفًا أَنَّهُ خُدْعَةٌ،
وَلَكِنَّهُ الخُدْعَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الخلودَ.
*
يَا سَاكِنًا..
فِي صَمْتِ أَوْرِدَتِي،
أَمَا آنَ لِجلالك أَنْ تَسْتَجِيبَ لِمُنَاجَاتِي؟
أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تُنقذ قَلْبي مِنْ لَحْنِه ؟
أمَا آنَ أنْ تَرْحَمَ صَحْوي وَجَفَائي؟
أمَا آنَ أنْ تَحْتَسِي صَفْوَ دُمُوعِي؟
فَأَذوبُ فيكَ!
فَكُلُّ لَيْلَةٍ أَنُوحُ،
وَكُلُّ فَجْرٍ أَنْكَفِئُ عَلَى جُرْحٍ
يُسَبِّحُ لَكَ.
*
لَيْسَ لِي دُعَاءٌ
إِلَّا أَنْ أَبْقَى بِكَ،
وَلَا نَجَاةَ
إِلَّا بِالتِّيهِ فِيكَ.
ذُبْتُ بِكَ...
فَهَلْ لِرُوحِي أَنْ تَفْنَى بِجَلاَلِكَ؟
***
سرية العثمان.
٢٠٢٥/١٠/١٦