قراءات نقدية

عبد النبي بزاز: واقعية القص وجمالية التعبير في قصص "ستار الحلم"

تتميز قصص "ستار الحلم" للقاصة المغربية غزلان شرفي بنزعة واقعية سواء على مستوى البناء القصصي المستوفي للعناصر الأساسية للقصة القصيرة من حدث، وحبكة، وحوار، واسترجاع... أو على مستوى الوقائع الوقائع المستمدة، في غالبها من غمرة الواقع، وما يعج به من مفارقات، وصُدَف يتجاذبها فيض من ضروب المعاناة، وأنماط المآسي.

فالحدث الذي طغى على نصوص المجموعة ارتبط بحالات الطلاق بمختلف خلفياتها، وتبعاتها، فضلا عن سمة ظروف العيش المتدني، وما يشوبه من عوز وفاقة تتمرغ في حمأته فئات عريضة من مجتمع تنخره العديد من الآفات ، وتمزقه الكثير من الأزمات، مع حضور تيمات ذات أبعاد واقعية، ووجودية، كما اخترقت نصوص المجموعة انفلاتات وانزياحات أثثتها انبعاثات الصدفة، وجمالية العبارة، وأمام انسداد الآفاق في وجه الكثير من أفراد الطبقات المعوزة يتم التفكير في سلك طرائق ومسلكيات تنقذهم من براثن العطالة كالهجرة التي خاضوا غمارها كمخلص من ربقة الضياع واليأس، ومنقذ من وضع متردي مأزوم.

فقبل الوقوف على الأحداث التي تميزت بالتنوع والغزارة سنذكر ببعض عناصر القص التي وردت في قصص المجموعة كالحوار في قصة " حلم مشروع ": " ـ لم لا تعودين لمقاعد الدراسة يا فاطمة ؟... ـ ليت الأمر بيدي يا أستاذة. " ص 61، أو في قصة " حِمْل مرغوب ": " ـ هل أرهقك الحمل ؟... ـ إنما أرهقني الحلم." ص 88، والاسترجاع في نص " القرار الأخير": " عادت بذاكرتها كثيرا إلى الخلف. " ص38، بينما تضفي الأحداث، بوفرتها وتعددها، على المتن القصصي زخما بحمولات وجودية وحسية ترتهن لراهنية معطوبة لا تفتأ، رغم ما يكتنفها أحيانا من بؤس، تتطلع لاستشراف آفاق تستجيب لكتلة أحلام وأماني ظلت بعيدة ومستعصية عبر هجرة نحو المجهول وإن كان الطريق نحوها محفوفا بالمخاطر والصعوبات.

ويخترق موضوع الطلاق، باعتبار هيمنته على قصص المجموعة، العديد من الأحداث ابتداء من أول نص " جحود ": تلك السعادة التي اختزلتها في صغيرها. الذي هتك ستر وحدتها بقدومه إلى دنياها التي منحتها لقب (مطلقة) وهي في ريعان شبابها. " ص7، وفي قصة " خسارة مزدوجة "، حيث عاشت نفس الحالة، حالة الطلاق، سلمى التي انفصلت عن زوج أنجبت منه ابن وطفلة: " اضطرت سلمى للسماح لطليقها برؤية ابنيه. وقضاء يوم الأحد برمته معهما. " ص12، وفي " القرار الأخير " حيث يتكرر موضوع الطلاق بين مديرة مؤسسة نجحت بفضل كدها واجتهادها على تسلق سلم الترقي إلا أنها فشلت في حياتها الزوجية مع زوج اكتشفت خيانته لها، مما ساهم في توتر علاقتهما، والتي قررت إنهاءها بعد حصول ابنيها التوأم، وبعدهما ابنتها على شهادة الباكلوريا وانتقالهما لدراسة الهندسة المعمارية بالخارج، حيث كلفت المحامي بإتمام إجراءات الطلاق والتحاقها بأبنائها في الخارج. وحضر الطلاق أيضا في قصة " غصة عالقة "، و" أطياف الماضي " كتجسيد لحالة اجتماعية تفرز تداعيات وتبعات تتبخر معها آمال وأحلام أمهات وأبناء بتغيير مجرى حياتهم عبر ما يتخذونه من خطوات ومسارات هي وليدة ظرفية طارئة تفتح أمامهم آفاقا لم يفكروا فيها، ولم يخططوا لها من قبل. ويبرز موضوع الهجرة كذلك ضمن ثنايا نصوص الأضمومة، حيث تتم الإشارة إليه في اول نص (جحود) كاختيار أمام الزوجة المطلقة لبناء حياة جديدة تسعفها على تجاوز نكسة الطلاق إلا أنها رفضت ذلك مؤثرة البقاء رفقة صغيرها بدل الهجرة التي اقترحها عليها أخوها الذي آثر الحياة في الضفة الأخرى، بينما كانت الحالة مختلفة بالنسبة لابن التاجر الحاج عبد الله في قصة " التجارة المربحة " الذي هاجر للدراسة بأمريكا وحاز على أعلى الدرجات العلمية في الاقتصاد والتسيير، إلا أنه اختار البقاء للاشتغال بإحدى الشركات هناك مخيبا رغبة والده المضمرة في عودته إلى أحضان بلده للإشراف على تجارة أبيه. وهجرة الأب إلى بلاد الخليج في قصة " طفولة متشظية " كمهندس في شركة نفط لتوفير ما يكفي من مال يضمن له حياة كريمة ببلاده التي ينوي العودة إليها. وهجرة عبر قوارب الموت في قصة " وحيد " الذي هلك وسط مياه البحر وأمواجه وفي حلقه غصة إنقاذ مستقبله و تعويض والدته عن سنوات البؤس والشقاء، وفي قصة " أجنحة الحلم " حيث اختفى سعيد مخلفا رسالة يخبر فيها والدته بعبارات: " وجدت لي جناحين وطرت بهما إلى بلاد الكفار. الجهاد فيهم سبيلي إلى حياة أفضل بعيدا عن دنيا العذاب التي لم تمنحني من السعادة إلا اسمي فقط. " ص 120، وقد تضمنت المجموعة مظاهر اختلالات داخل مجتمع يعاني من تفاوت طبقي يكشف مدى معاناة وحرمان فئات عريضة من أبناء المجتمع من نيل ما يستحقون من فرص بفضل مستواهم المعرفي والتعليمي المتميز كما يتجسد ذلك في قصة " أحلام... قيد الاعتقال " التي حرمت من ولوج كلية طب الأسنان: " كلية طب الأسنان مكلفة... بينما معهدان آخران يتطلب الالتحاق بهما الانتقال للسكن في مدن أخرى. وما لذلك من تبعات مادية ما حسبت لها حسابا في غمرة فرحتها بنجاحها، وانتشائها بتفوقها. " ص 84، وضع يعكس إحباطا مريرا، وخيبة عارمة اختزلها الأب في قوله: " إذا أحبت إتمام مشوارها الدراسي، فلتنتسب للجامعة، مثلها مثل قريناتها، من أبناء العائلة والجيران، ولتترك المعاهد والكليات لمن أنشأت لأجلهم... فأبناء الشعب البسطاء يجب أن يكون سقف أحلامهم قريبا من هامة رؤوسهم. " ص 84، واقع يتكرر في نص " المباراة النهائية "، والتي لم تشفع شهادة "الماستر" لحاملها من العثور على شغل يدرأ عنه معاناة البطالة: " ها هي شهادة " الماستر " التي كابد للحصول عليها تتوارى عن الأعين في درج مظلم من أدراج مكتبه الخشبي المهترىء... لا أمل في ولوج مسالك الوظيفة العمومية في غياب واسطة (معتبرة) ولا مستقبل مع القطاع الخاص في ظل الركود الاقتصادي الذي سببته جائحة كورونا. " 114، وإلى جانب هذه الموضوعات تضمنت المجموعة عناصر، ساهمت في إثراء حمولاتها الدلالية وتوسيع دائرتها التعبيرية، كالمقارنة في نص " جحود " لتوضيح الفرق بين حالة الطليقة في ماض زاخر بالحيوية، ممتلئ بالأنوثة: " ليطالعها شبح امرأة كانت في الماضي البعيد تنفجر حيوية وأنوثة. " ص 7، وما آلت إليه من خيبة آمال مس كيانها، وأخمد شعلته التي كانت ساطعة متوهجة: " واليوم لم يتبق منها إلا حطام لملمت بعض أجزائه ووضعتها بكيس مغلق وأوصدت عليه خافقها. " ص 7، عبر مونولوغ حميمي ذات خلوة مفعمة بمزيج من مشاعر تنضح هما وغما. ومقارنة الابن بين وضع والدته المعيشي المتواضع، وحالة والده الراقية والميسورة: " وَوُضِع في مقارنة بين حياته مع والدته في حجرتها الخانقة وبين عيشه في كنف والده حيث الرحابة والسعة والحرية. " ص 8، وفي وضع صورة بين أسرة معوزة ورب البيت المأجور حيث يتجلى البون الشاسع، بشكل ملحوظ وملموس: " لقد بدا له صاحب البيت في تلك اللحظة. وحشا آدميا استطال حتى بلغ عنان السماء. وحجب عنه نور الشمس. بينما كانت أمه وإخوته كالأقزام أمامه طولا وشأنا. " ص 69. وعنصر المفارقة في قصة " التجارة المربحة "، وطرفاها التاجر الحاج عبد الله المتشبع بمبادئ الدين الإسلامي في حثه على البر والإحسان: " اعتاد أن يتصدق بواحد من تجهيزات محله الكهربائية... إلى إحدى العائلات المحتاجة في نهاية كل شهر. " ص 9، ابنه المتخرج من أرقى جامعات أمريكا في تخصص الاقتصاد والتسيير الذي عارض فكرة تبرع والده بالتجهيزات الكهربائية للأسر المحتاجة: " فأنكر الاقتصادي اللامع على والده تصرفه. مبينا له بمنطق الربح والخسارة الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي، المبالغ الطائلة التي ضيعها سدى طوال هذه السنوات. " ص 10، بل حذره من إفلاس مشروعه التجاري إن استمر في توزيع الهبات: " حذره من الإفلاس الوشيك إن استمر الوضع على ماهو عليه. " ص 11، وكان رد الأب انطلاقا من قناعة دينية راسخة على البر والإحسان بتقديم الدعم والمساعدة لكل معوز ومحتاج: " إنك فعلا قد حصلت على أعلى الدرجات العلمية في الاقتصاد. وإنك فعلا بارع في العمليات الحسابية ودراسة الجدوى من كل مشروع. لكني أفوقك علما وخبرة وفهما لأن مرجعي كتاب ربي وسنة نبيي... " ص 11، كما انضافت الصدفة إلى باقي العناصر مسهمة في إغناء نسيج السرد، وتوسيع دائرة معانيه ودلالاته، شاءت الصدفة في قصة " حياة جديدة " أن يُحاكَم ابن الزوج، المدلل، من الزوجة الثانية، والذي اقترف جريرة قتل بسيارة والده التي كان يقودها تحت تأثير جرعة مخدر من طرف ابنته من طليقته، والتي صارت، أي الابنة، قاضية كُلِّفت بمحاكمة أخيها من زوجة أبيها الثانية الشيء الذي أذهل الأب، وزج به في دوامة ذهول وحيرة. وكان للصدفة حضور إثر تزامن حدث اعتقال الطالب من طرف الشرطة، ضمن المتهمين بشغب الملاعب، ورسالة الإشعار بقبوله في ولوج المعهد الملكي للشرطة، مما أقحمه وعائلته في قعر أزمة تعالقت بأسئلة عويصة ومعقدة حول الحكم الذي سيصدر في حقه والذي قد يحرمه من حلم الوظيفة الذي ظلت تربطه به خيوط من أمل رفيع، أم أن الحكم سيؤول إلى تبرئته لعدم توفره على سوابق، ومراعاة قبوله في وظيفة ستنقذ مستقبله بالقطع مع معاناة مرحلة العطالة التي أثرت على حياته النفسية والذهنية والعمرية. احتمالات وتوقعات مقلقة ومحيرة، وما تخلقه وتخلفه من آثار في نفسية الطالب الجامعي العاطل وأفراد أسرته. وموضوع الموت الذي ورد بأشكال مختلفة في قصص المجموعة مثل ما ورد في قصة " وحيد " الذي اختطفه الموت، وهو على متن قارب، في اتجاه الضفة الأخرى، رحلة لم تكلل بالنجاح أجهضت معها أحلام إنقاذ حياة وحيد وأسرته وبالخصوص والدته التي غمره إحساس فظيع، وهو يلفظ آخر أنفاسه بخذلانها، وقصة "بائع الشاي " الذي لم يمهله الموت على تدبير مصاريف أدوات ابنته المدرسية، فقضى نحبه، من فرط الجهد والعياء، وهو منشغل ببيع الشاي بأحد الأسواق لتحيق حلم ابنته ورغبتها في الحصول على الأدوات المدرسية.

ورغم سيطرة النزعة الواقعية على أسلوب قصص مجموعة " ستار الحلم "، وأحداثها فإنها لم تخل من تعابير ذات طابع جمالي بمجازية أضفت عليها مسحة جمالية ودلالية درأت عنها مغبة السقوط في إسار النمطية والتقريرية، ويتجلى ذلك في قصة " خسارة مزدوجة " حيث نقرأ: " رفرفت فراشات الحب على العش الجميل، وظللته أجنحة السعادة. " ص 13، في تصوير رومانسي نهل من مكونات محيط طبيعي يطفح نضارة وبهاء (فراشات، العش، ظللته، أجنحة)، وفي نص " حب لا مشروط " نقرأ أيضا: " فهو كان كل عالمها. وهي كانت شمسه وقمره. " ص 32، بذكر الشمس والقمر في سياق مجازي تشبيهي يفتح أفاقا رحبة غنية بأبعادها الرمزية والدلالية. وقصة " بقي فقط ثلاثة أيام " الذي تخلع فيه الكاتبة على بيت، متواضع بسيط، أوصافا نابعة من عشق متجذر في وجدانها وذاكرتها تمنحه دفقا من روعة وجمال: " ودفء بيتها الذي تعشق كل ركن فيه رغم بساطته، ووضاعة أثاثه، بينما يخلع عليه الزمن رداء الشر، ويصبح عروسا حسناء تتمايل بغنج ودلال... " ص66، وصف دال ومعبر للبيت بالعروس الحسناء الغنوج الدلول. وكلها تعابير تكسر نمطية السرد ورتابته، وتمنحه بالتالي إضافات يغدو معها أكثر غنى وتنوعا.

نخلص في الأخير إلى أن قصص " ستار الحلم " منجز قصصي يندرج ضمن جنس القصة القصيرة زاوج بين الطابع الواقعي على مستوى استقاء الحدث، وتشكيله عبر شخصيات تنتمي لشرائح اجتماعية قطباها الفقر والغنى ارتهنت لخلفيات وآفاق واقع في رسم مناحي حياة لم تسلم من هزات وتقلبات أثثتها عوامل كالصدفة والحلم المفارقة.

***

عبد النبي بزاز ـ المغرب

.............................

ــ ستار الحلم (قصص قصيرة) لغزلان شرفي.

ــ مطبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ مصر 2022.

 

في المثقف اليوم