قراءات نقدية
وليد جاسم الزبيدي: قراءة في رواية (بين بغداد وظلّي) للكاتبة: وفاء عبد الرزّاق
في بناءٍ هندسيّ – فكريّ، تسوحُ بنا رواية (بين بغداد وظلّي)، لأصنّفها ضمن الروايات السايكولوجية،لما فيها من تشظٍّ لا (ازدواجية) شخصية بل تناسل وتفريخ لشخصيات في شخصية واحدة، وارتباطات في شبكية معقدة من الروابط والعلاقات.
بين جذبٍ وطردٍ عاطفي، بين جنون وعقل، تنتصبُ نظريات (سيجموند فرويد) فلا تقوى على الوقوف والصمود أمام العاهات النفسية والظواهر الجمعية المشوشة حيناً والملغّزة داخل الرواية. في الرواية يكون لكل شخصية ظلال لا ظل واحد، تتشظى الذات البشرية بحكم الحروب وما أفرزته من قحط وفقر ولصوصية و(حواسم)، و(عشوائيات)، ورموز جديدة تطول وتتقزم ظلالها بين فترة وأخرى، لم يكن (الظّل) عند الشخصية صورة واضحة الملامح بل تكاد أن تكون زئبقية، فتكون طفلا أو كهلا...
الازدواجيات المتعددة في الرواية تبدأ:
الصورة الأولى للظل: من ذات الكاتبة، فمن تتبعي لكتاباتها، فللمرة الأولى تكون ظلاّ للذكورة (لرجل)، وتحمل نَفَساً طويلاً في لعب هذا الدور وتحس وتتحرك وتتنقل الألفاظ والعبارات بصيغ رجولية بعيداً عن خطابها الأنثوي الذي يتحرك في رواياتها السابقة وتكون هي منْ تحمل وتبني الحبكة وتصاعد الحدث .
الصورة الثانية: الظلال الأخرى التي تتصارع تارةً، وتضع الهدنة ما بينها تارةً أخرى في صورة البطل (الصحفي) حيث ينشطر الى ( قاسم/مناضل/ مناضل صالح/ المفقود)، بل أن ظلّهُ يتغير من صيغة الى أخرى وبأشكال كأنه أواني مستطرقة.
تقرأ الرواية للوهلة الأولى سهلةً، تستطيع أن تركبَ موجتَها، وتفكَّ مفاتيحَ شفراتها، لبساطة العبارة والانتقاء للمفردة الواضحة المفهومة للمتلقي، لكن بعد حين تصطدم بصورٍ تجعلك تعيد النظر والتقدير في المفاهيم وأسس بناء الرواية. هي ليست مقالاً صحفياً، للبطل (الصحفي)، وليست انعكاس لكتابة تقريرية تُعرضُ كأنها شريطا سينمائيا أو تلفازياً لصورة وطن.
حالات السرقة والنهب، والاختلاس، والأفعال المشينة للحصول على الكراسي، وشراء الذمم والأصوات، ونهب الثروات، والتدمير المتعمد للبناء الأخلاقي فالبنى التحتية، هل هي منْ سبّبت أمراضنا وعللنا، وهذا التشظي، أم أن التشظي هو الذي سبّب هذا الخراب؟؟
الصورة الثالثة للظل: الازدواجيات المتعددة، جاءت نتيجة لأزمات وحروب طاحنة، أدّت الى انهيار الذات، وتعدّد الصور في الواقع والخيال مما تؤدي الى فقدان وانعدام الاستقرار والخوف والقلق. وفي الصورة الثالثة نجد سبب انشطارها وغثيانها صورة الفقد، وهي صورة (الشاب الروسي سيفاكس). واضطرابه النفسي وانعزاله عن العالم وعن أهله( أمه).
الصورة الرابعة للظل: التشظي لظلال الموسيقى بين (العود) وآلة ( البالا لايكا) و(الغيتار) و(الساكسفون). عزفٌ على مقام (الصبا) تنشطر الأوتار فالنغمات لتولد بصيغٍ مختلفة في قنوات موسيقية هي الأخرى أصابتها أمراض نفسية، لأنها تخرج من النّفس، وهذه النّفس تُدخل في الآلة هذا الانشطار والخوف والقلق .
الصورة الخامسة: ظلال العائلة، العائلة التي كانت تُبنى بنظامٍ سليمٍ، وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمعات، كيف بناها (قاسم/ مناضل) من أناس مشردين (العجوز –مسعود، الأطفال- جواهر وهمام، الشابة- جميلة). ظلالٌ غير متناسقة وتحل كل ذات منها تاريخ من الألم والعاهة المستديمة في الفقد بكل أشكاله.
الصورة السادسة: ظلال الفن التشكيلي والنحت: امتدت في ثنايا الرواية صور توصف المقتنيات والنّصب في ساحات ومتاحف (بغداد) و(موسكو) و(باريس)، ظلالها تاريخ وقصة كبيرة فالمنحوت له ظلال، والفنانون (النحّاتون) لهم ظلالهم فيما تركوا من أثر وفكرة، في بغداد كان ( جواد سليم / محمد غني حكمت/ خالد الرّحال)، وظلال أعمالهم(نصب الشهيد/ الجندي المجهول/ نصب الحرية/ الفانوس السحري..)، وظلال الفنانين الروس (أندريه روبيلوف/ألكسندر ايفانوف/ فاسيلي سوريكوف).
الصورة السابعة: ظلال المكان: لبغداد ظلالها التي تلاحقها أيضا، فتكون فقيرةً تارةً، في أحياء شعبية، ومناطق لا تصمد بوجه الأمطار ولا تحمي ناسها من جمر الصيف، وظلال في قصور فارهة خدماتها (VIP) . بين صور قبحٍ وجمال، ونقاءٍ وزيف، .. بين عقول ونفوس تتوق لوطنٍ معافى، وعقول خاوية لا تعرف إلا الهدم طريقاً لبقائها. ذئاب تستحوذ على المدينة، تنهش كل شيء.
الصورة الثامنة: ظلال الملابس: للملابس حكايات في الرواية، ولكل ملبس حوار وظلال تلقي بفكرتها على الآخر، فالآخر أصبح آخرين , الملابس والعطور عند رجال الصدفة هل تخفي تشوّهاتهم الأخلاقية؟ -ص12، الظل يلبسُ (البيجامة)-ص 17، والظل في شراء ملابس لشخصين بنفس المقاس –ص42،
وصورٌ أخرى لظلالٍ تتشابك وتتحاور في ظلال الصفحات وبين السطور، لكنك حين تقرأها لا تتوه بل هي إشارتٌ تُدلّكَ على الطريق الذي يوصلك الى الدلالة .
الرواية عمودها الظلال، والمكان، وفقراتها الصحافة ودورها في كشف الحقيقة، وبناء مجتمعٍ جديد واعٍ لقضيته وبقضيته.
الخاتمة: رسالة الرواية، أننا نعيش زمن الظلال التي تحرّكنا، علاقات شبكية كأشباح، لكن هذا (الصحفي) ملتزم بقضيته، وتضعه الكاتبة هو بريق الأمل والمنقذ للآتي من الزمن، بقلمه وفكره، ونقله للوقائع، وأن يقف مع المظلومين، الصحافة سلاحٌ ماضٍ بوجه المتسلطين الذين أمسكوا به لتمرير أكاذيبهم وللتدليس وإخافة الناس وإضعافهم. تضعنا الروائية في مصحتها لغرض العلاج النفسي، لأن في كلّ متلقي ظلال عليه أن يستجمع ذاته ويوّحد قراره وخطابه ليرى الوطن صورةً أجمل.رواية تفتح نوافذ لمستقبلٍ آتٍ تُنبيء به الكاتبة بأن القادم أفضل.
***
د. وليد جاسم الزبيدي