قضايا
مراد غريبي: من الفساد إلى النهضة.. نحو صناعة مستقبل عربي نزيه
انهيار عربي وأفق مفتوح
في التاسع من ديسمبر من كل عام، يتوقف العالم ليتأمل آفة تنخر في عظام المجتمعات وتسرق أحلام الشعوب: الفساد. هذه الظاهرة ليست مجرد رقم في تقرير دولي أو إحصائية باردة، بل هي قصص أطفال حُرموا من التعليم لأن ميزانية المدارس نُهبت، ومرضى فقدوا أرواحهم لأن أموال المستشفيات تبخرت في جيوب الفاسدين، وشباب هاجروا بحثاً عن العدالة المفقودة في أوطانهم. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّن أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 188)، في إشارة واضحة إلى تحريم الفساد واستغلال النفوذ.
لدينا كعرب، يحمل هذا اليوم معنى أعمق وألماً أشد. الفساد عندنا ليس مجرد خلل إداري، بل سرقة منظمة للمستقبل، وسلب ممنهج للكرامة.
وكما نظم الشاعر أحمد شوقي: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، وما الفساد إلا انهيار أخلاقي يهدد بقاء الأمم ذاتها. شعار هذا العام يحمل بارقة أمل: الحوكمة الرقمية كدرب نحو الشفافية، لكن السؤال يبقى: هل يكفي تغيير الأدوات دون تنوير العقول وإصلاح القلوب؟
الفساد ليس مجرد "مشكلة إدارية"، بل جريمة أخلاقية وخيانة للعقد الاجتماعي. يروح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي" (رواه الترمذي)، فالرشوة باب من أبواب الفساد الذي يهدم العدالة ويقوض الثقة. عندما يسرق مسؤول المال العام، فهو لا يسرق أرقاماً، بل يسرق لقمة الفقير ودواء المريض وكتاب الطالب. وكما يعبر المفكر المصري رفاعة الطهطاوي: "إن الأمة التي لا تحاسب حكامها، تستحق أن تعيش في العبودية"، فالفيلسوف جان جاك روسو رأى أن العقد الاجتماعي يقوم على تنازل الأفراد عن جزء من حريتهم مقابل العدالة والحماية. فماذا يبقى من هذا العقد حين تتحول السلطة إلى أداة للنهب؟ ولقد صدق المفكر التونسي الطاهر الحداد حين كتب: "لا يمكن لأمة أن تنهض وهي محملة بأثقال الفساد والظلم". في وطننا العربي، يتخذ الفساد أشكالاً متعددة: من الرشوة الصغيرة إلى صفقات المليارات، من المحسوبية إلى الاستيلاء على الأراضي العامة، كما لا ننسى أن الفساد ليس وليد اليوم، جذوره تضرب في تربة ثقافية واجتماعية. صدق الله تعالى في قوله : ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، فالتغيير يبدأ من الداخل. عندما نقبل بالواسطة ونبرر الغش ونصمت عن الظلم، نساهم في استمرار المنظومة الفاسدة.
وهناك كلمة للمفكر التقدمي اللبناني كمال جنبلاط يقول فيها: "الفساد ليس مرضاً في الدولة فحسب، بل هو مرض في الضمير الجمعي". والفيلسوف إيمانويل كانط ركز على أن الأخلاق تقوم على الواجب المطلق، لا على المنفعة. فالمسؤول عندما يرفض الرشوة يجب أن يفعل ذلك لأنه الصواب بذاته. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حسم الأمر في قوله: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (متفق عليه)، فالمسؤولية ليست وظيفة، بل أمانة. وأذكر كلمة لمفكرنا الجزائري مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة": "إن مشكلتنا ليست في نقص الموارد، بل في فساد الإنسان الذي يُدير هذه الموارد".
معركة النزاهة في مضمار التربية والقيم
لا يمكن بناء مجتمع نزيه دون تعليم يغرس القيم. يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 9)، فالعلم أساس الوعي بالحقوق والواجبات. والتعليم هو السلاح الأقوى ضد الفساد. والشاعر المصري حافظ إبراهيم حدد المعادلة في نظمه: "الأم مدرسة إذا أعددتها... أعددت شعباً طيب الأعراق".
التربية على النزاهة تبدأ من البيت والمدرسة، ثم إن الاستثمار في التربية والتعليم يعني إعداد أجيال تؤمن بالاستحقاق لا بالواسطة، تطالب بحقوقها وتعرف واجباتها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" (رواه ابن ماجه)، والعلم هنا يشمل العلم بالحقوق والواجبات المدنية.
من الغنيمة إلى الرسالة
أكيد أن التعليم وحده لا يكفي، نحتاج إلى إصلاح الإدارة العامة: موظفون مدربون، رواتب عادلة، بيئة عمل تحترم الكفاءة.
وإصلاح الإدارة العامة ليس ترفاً، بل ضرورة استراتيجية. إدارة كفؤة ونزيهة تعني خدمات أفضل، وبيئة أعمال أكثر جاذبية، وثقة أعلى بين المواطن والدولة. نحتاج إلى تبسيط الإجراءات البيروقراطية المعقدة التي تفتح الباب للفساد. نحتاج إلى قيادات إدارية تؤمن بأن الخدمة العامة شرف ومسؤولية، لا غنيمة ومغنم.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لَوْ أَنَّ بَغْلَةً عَثَرَتْ بِشَطِّ الْفُرَاتِ لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللهُ عَنْهَا: لِمَ لَمْ تُمَهِّدْ لَهَا الطَّرِيقَ؟"، في تصوير بليغ للمسؤولية. عندما يشعر المواطن أن دولته تعمل لصالحه، لا ضده، فإنه يصبح شريكاً في التنمية، لا عقبة أمامها.
الحوكمة الرقمية: وسيلة وليست غاية إشهارية
التكنولوجيا الرقمية تقدم حلولاً عملية لمشكلات عويصة. عندما تتم المعاملات إلكترونياً، يصعب على الموظف طلب رشوة. عندما تُنشر البيانات الحكومية بشفافية، يستطيع المواطن مراقبة كيف تُنفق أمواله. عندما تُرقمن المشتريات الحكومية، تنحسر فرص الفساد في العقود والصفقات. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ (النساء: 135)، والشفافية هي شهادة بالحق ضد الفساد.
لكن لنكن حذرين: التكنولوجيا سلاح ذو حدين. يمكن أن تُستخدم لتعزيز الشفافية، ويمكن أن تُستخدم لتعميق السيطرة والمراقبة. ويمكن أن تُسهل حياة المواطنين، ويمكن أن تُستخدم لخلق أشكال جديدة من الإقصاء الرقمي. لذلك، الاستثمار في البنية التحتية الرقمية يجب أن يترافق مع ضمانات حقوقية وأخلاقية صارمة. وهنا تحضرني عبارة للمفكر السوري برهان غليون يقول فيها : "التقنية وحدها لا تصنع التقدم، بل القيم التي تحكم استخدامها" هي التي تصنع ذلك.
الخطاب التنويري ضد الفساد
هنا يبرز الدور المحوري للخطاب الديني والثقافي، حيث الإسلام يزخر بنصوص تحرّم الفساد بكل أشكاله، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾ (النساء: 58)، والمال العام أمانة، لكن الخطاب الديني اليوم يحتاج إلى تجديد، يجب أن ينتقل من الوعظ النظري إلى التطبيق العملي في حياة الناس، من التنظير إلى الواقعية، يجب أن يربط بين النزاهة والإيمان، بين الشفافية والتقوى.
و الشهيد المفكر السوداني محمود محمد طه كان من بين الأوائل الذين دعوا إلى "فهم عصري للإسلام يواجه تحديات الواقع"، والفساد من أخطر هذه التحديات، الخطاب التنويري يجب أن يكون واقعياً، يتحدث عن الفساد في تفاصيل الحياة اليومية: الرشوة عند استخراج رخصة، المحسوبية في التوظيف، التلاعب في المناقصات. يجب أن يقدم بدائل عملية، لا مجرد شعارات أو مونولوج استعراضي. لأن الإصلاح كما يعبر المفكر التونسي محمد الطالبي: "الإصلاح الحقيقي يبدأ من تغيير الوعي، لا من تغيير القوانين فقط".
والخطاب الثقافي أيضاً مسؤول. الأدباء والمثقفون يجب أن يكونوا صوت الحق، كلنا يذكر نجيب محفوظ كتب في رواياته عن الفساد والظلم الاجتماعي، وكذلك فعل الطيب صالح وإبراهيم الكوني. والمفكر المصري طه حسين قال: "التعليم كالماء والهواء، حق لكل إنسان"، ومكافحة الفساد تبدأ بتعليم ينور العقول ويبني الضمائر. الشعر العربي أيضاً كان دائماً منبراً للحق.
عندما تنتفض الشعوب ضد الفساد
هناك نماذج حية وملهمة في مكافحة الفساد بكل أشكاله نذكر منها:
- سنغافورة كانت في الستينيات دولة فقيرة غارقة في الفساد. بقيادة لي كوان يو، أطلقت حملة صارمة أسست "مكتب التحقيق في ممارسات الفساد" بصلاحيات واسعة، ورفعت رواتب الموظفين لتنافس القطاع الخاص، وطبقت مبدأ "صفر تسامح" مع الفساد. اليوم، سنغافورة من أنظف دول العالم. هونغ كونغ سارت على نفس الدرب بإنشاء هيئة مكافحة الفساد المستقلة.
- الدنمارك والنرويج والسويد وفنلندا تتصدر دائماً مؤشرات النزاهة. السر ليس في قوانين معقدة، بل في ثقافة الشفافية المتجذرة، والثقة العالية في المؤسسات، والرقابة الشعبية الفاعلة. هذه الدول دمجت مبادئ النزاهة في السياسات العامة. التعليم النوعي والمساواة الاجتماعية يلعبان دوراً محورياً.
- كوريا الجنوبية عانت لعقود من فساد مستشر، لكن الحركات الشعبية والإصلاحات الجريئة غيرت المشهد. أنشأت "لجنة مكافحة الفساد وحقوق المواطنين"، وأقرت قوانين صارمة تحظر الهدايا للموظفين العموميين. الشعب الكوري أسقط الرئيسة بارك غون هيه بسبب الفساد في 2017، في رسالة واضحة: لا حصانة للفاسدين.
- اليابان تعتمد على نظام الجدارة في التوظيف، وثقافة الانضباط، وآليات رقابية صارمة. النظام البيروقراطي الياباني يقوم على التدوير بين الأقسام وصنع القرار التشاركي، مما يقلل فرص الفساد. الإصلاحات الإدارية في التسعينيات كسرت احتكار البيروقراطية وعززت الشفافية.
- الرئيس شي جين بينغ أطلق حملة واسعة لمكافحة الفساد منذ 2012، حوسب فيها أكثر من 2.3 مليون مسؤول، بينهم كبار القادة. الحملة أعادت ثقة الشعب في الحزب، واستردت أموالاً طائلة للخزينة. رغم الانتقادات حول استخدامها سياسياً، إلا أنها أظهرت أن الإرادة السياسية قادرة على تحقيق نتائج ملموسة.
- في البرازيل، عملية "لافا جاتو" (غسيل السيارات) كشفت شبكة فساد ضخمة في شركة بتروبراس النفطية، أدت لسجن رؤساء وسياسيين كبار. رغم التحديات، أظهرت العملية أن استقلالية القضاء والإعلام الحر قادران على محاسبة الأقوياء.
- كندا وألمانيا وهولندا هذه الدول تعتمد على أنظمة رقابة متعددة المستويات، وشفافية في تمويل الأحزاب، وحماية للمبلغين. الإعلام الحر والمجتمع المدني القوي يلعبان دور الرقيب. هولندا تطبق معايير صارمة في المشتريات الحكومية، وألمانيا تفرض قواعد صارمة على تضارب المصالح.
- أيرلندا أطلقت إصلاحات شاملة شملت الشفافية المالية والمساءلة البرلمانية بعد أزمتها المالية.
- رواندا، بعد الإبادة الجماعية 1994، بنت نظاماً قائماً على الأداء والمحاسبة، وحققت قفزات في مؤشرات الحوكمة.
أختم بتوصية للقارئ الكريم أنه لفهم ظاهرة الفساد بعمق، هناك مراجع أساسية:
- Why Nations Fail : : The Origins of Power, Prosperity, and Poverty دارون آسموغلو وجيمس روبنسون: يشرح كيف تؤدي المؤسسات الفاسدة إلى فشل الدول
- "شروط النهضة " لمالك بن نبي: يؤكد أن النهضة تبدأ بإصلاح الإنسان أخلاقياً وفكرياً
- - "Corruption and Government" لسوزان روز أكرمان: مرجع أكاديمي شامل عن الفساد
- "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري: سلسلة تحلل العقبات الفكرية أمام النهضة
- "العرب وجهة نظر عربية" للكاتب الياباني نوبوأكي نوتوهارا
سيظل الفساد عدو التنمية المستدامة. لا اقتصاد قوي في بيئة فاسدة، ولا عدالة اجتماعية، ولا ديمقراطية حقيقية. يقول الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ (الأنعام: 152)، والعدل في الموازين يشمل العدل في توزيع الثروات والفرص. المفكر الهندي أمارتيا سِن الحائز على نوبل قال: "التنمية هي الحرية"، وحرية الإنسان تبدأ بتحرره من الفساد.
كل الأدوات لن تجدي دون إرادة سياسية حقيقية. كما نظم أبو الأسود الدؤلي : "لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ، وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا"، فالقيادة الحكيمة النزيهة أساس الإصلاح.
المجتمع المدني والإعلام الحر ركيزتان أساسيتان. يقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (آل عمران: 104)، والأمر بالمعروف يشمل فضح الفساد ومحاسبة الفاسدين.
من اليوم الدولي إلى مشروع نهضة شاملة
في هذا اليوم، يقف الوطن العربي أمام مفترق طرق. يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، ومستقبل أجيالنا يستحق أن نخوض معركة النزاهة بكل قوة. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: 120)، والإحسان في العمل العام أعظم الجهاد.
مكافحة الفساد مسؤولية الجميع. كل مرة نرفض فيها الرشوة، كل مرة نحاسب مسؤولاً، كل مرة نربي أطفالنا على الصدق، نبني مجتمعاً أفضل. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ" (رواه مسلم)، والفساد من أعظم المنكرات.
الطريق طويل، لكن البديل هو الانهيار. الحوكمة الرقمية توفر الأدوات، والتربية تبني القيم، والخطاب الديني والثقافي يغذي الضمير، والإرادة السياسية تقود التغيير. تجارب العالم تؤكد: الانتصار على الفساد ممكن.
وكما يقول المتنبي: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، فهل العرب والمسلمون أهل عزم؟
***
بقلم: مراد غريبي






