قراءات نقدية
مسلم الطعان: جماليّات دراما الإحتجاج في مسرح القصيدة
قراءة نقدية مسافاتيّة في النص الشعري الموسوم (ثلاث قطرات من ندى فرات السماوة) للشاعر يحيى السماوي.
***
- مسافة النص:
(ثـلاث قـطـرات من نـدى فرات السماوة)
(1)
مـا حـاجـتـي لِـ " بـسـاط الـريـح "؟
خـذوا " الـريـحَ " لـكـم
واتـركـوا " الـبـسـاطَ " لـي ولـحـبـيـبـتـي ..
*
(2)
لا أتـمـنـى أنْ يـكـونَ لـي جـنـاحـان قـويـان
فـحـبـيـبـتـي تـقـيـمُ فـوق الأرض ...
لـذا أتـمـنـى امتلاك:
قـدمـيـن قـويّـتـيـن
تـقـطـعـان الـطـريـقَ الـمـمـتـدّ مـن أحـداقـي
الـى وجـهِـهـا!
*
(3)
قـالـت لـيَ الـحـديـقـةُ:
الـريـاحُ أفـضـلُ سـاعـي بـريـد
بـيـن الـمـيـاسـم والـتـويـجـات!)
- مسافة إستهلالية:
إنَّ الكتابة الإبداعية بصورة عامة، والشعرية منها على وجه الخصوص هي عبارة عن ممارسات لفعل إحتجاجيّ لا يعرف التوقف أو المهادنة بأي شكل من الأشكال، وثمّة مسافات متعددة لذلك الإحتجاج: احتجاج ضد الواقع المظلم، إحتجاج ضد الوسط النخبوي الراكد ولا يتقبل أن تلقى في مائه حجارة جمالية تحرّك دوائر الوعي لديه، واحتجاج ضد الذات أيضاً ليس بجلدها سايكولوجياً فحسب، وإنما لحّثها على ممارسة الإحتجاج الجماليّ لكي يضمن ديمومة وسلامة حركيّة الإبداع في كوامنه ذات الأغوار السحيقة، وهنا يحضرنا قول مهم للكاتبة الأسبانية آنا ماريا ماتوته حيث تقول:
(الكتابة إحتجاج متواصل، حتى لو كانت عن الذات).
ثمَّة دراما إحتجاجية تشي بالتوتر المستمر Constant Tension الذي يعيشه الشاعر-المؤلف-الممثل-المُخرج-المُنتج لخطابه الإبداعيّ شعراً إيقاعيَّاً أم نثراً فنيَّاً يركب بساط الشِعريَّة المدهشة. إنَّ الفعل الدراميّ بثيمته أو بنبرته الإحتجاجية يغري القارئ- المتلقّي على ملاحقة خيوطهِ، حتى لو لبس لبوس تقنية الرسائل المُضمَرة Mechanism of Implied Messages
كما نراه ونشعر به جماليَّاً في قصائد وومضات الشاعر المبدع يحيى السماوي الذي يغوينا سحر مراياه الشعرية Poetic Mirrors على قطع تذاكر الدخول لمسرح قصيدته لنرى ما نرى هناك من نفائس وكنوز ودرر شعريَّة تُعرضُ لنا فوق خشبةِ مسرحٍ جماليٍّ بامتياز.
في مسرح القصيدة ثمَّة مرآة جمالية تعكس ما يحدث في بؤرة النص، أي المسافة الجمالية Aesthetic Distance، وتلك المرآة تتحول إلى مرايا أخرى عاكسة لمفهوم المسافة وما بعدها، وهنا تحدث عملية تشّظي مسافاتيّ تعكسه مرايا النص، حيث تتحوّل المرآة الواحدة إلى مرايا مسافاتية تعكس للمتلقي تفاصيل ما يدور خلف الكواليس الدرامية من أحداث درامية ذات إيقاع مسرحي يوقظ وعي القارئ-المتلّقي، ويلقي في بؤرة وعيه الراكد أحجاراً جماليّةً تجعله يعي ويطلق العنان لمخيلته أن تتصوّر ما يجري هناك، وتحثه على أن يفتح ستائر مسرحه المُتخيَّل، ويكون في تلك اللحظة الجماليَّة شريكاً وفاعلاً فعّالاً بما يُعرَض من أفكار ودلالات وإشارات تُجسَّدُ دراميّاً فوق خشبة مسرح القصيدة.
- مسافاتيَّة العنوان:
(ثلاث قطرات من ندى فرات السماوة)
وفقَ ما نرمي إليه في نظرية المسافاتية، نرى أنَّ عنوان الخطاب الشعري، قصيراً كان أم طويلاً، يشكّل البؤرة الجمالية أو المسافة الجماليّة التي يتركها مبدع النص للقارئ الجماليّ Aesthetic Reader لكي يلجَ في طبقات النص المسافاتيَّة، أو يغور بعيداً وعميقاً في غابة النص ذات المتاهات المتشابكة كأغصان أشجار تلك الغابة المُتَخَيَّلة، ليكتشفَ الأسرار الجماليّة الغائرة هناك، وهذا الأمر قد يلتبس على القارئ العادي Normal Reader الذي عادةً ما يمرّ بالنص مرور الكرام، ولا يَبذلُ جهداً بالكشفِ عن خفاياه، وإذا ما حملنا عدّةَ القارئ الأول: القارئ الجماليّ، الذي تهمُّهُ عملية مغامرة الغوص بعيداً في مياه النص، ليشاركَ مُبدعَهُ لذّة إكتشاف البنية الدرامية العميقة للنص، نجدُ بأنَّ الشاعر الفذ يحيى السماوي قد أسّسَ لمسرح قصيدته إنطلاقاً من العنوان: (ثلاث قطرات من ندى فرات السماوة)، حيث نرى، وفق منظورنا المسافاتيّ، بأنَّ القطرات الثلاث سيشكلّنَ مسافاتٍ دراميّة ثلاثا، بمعنى أنَّ كل قطرة تمّثل مشهداً مسافاتيّاً متحرّكاً، بل كل قطرة تصبح شخصيةً مسافاتيّةً مطلوبا منها أن تؤدّي دورها الدرامي فوق خشبة مسرح القصيدة، ويمكن للقارئ الجماليّ أن يتخيَّلَ بأنَّ القطرات الثلاث: بنات ثلاث ولدن من رحم الأم-الندى وأبيهنّ الفرات، وبيتُهُنَّ الجماليّ Aesthetic Home هو مدينة السماوة، ولا غرابةَ في الأمر، إذا ما أخذنا المخيالُ بعيداً في تصوّر ذلك البيت- المسرح، حيث يقول الفيلسوف والمفكر الجماليّ الفرنسي غاستون باشلار:
(يجسّد البيت إحدى القوى الكبرى التي تمزج بين الأفكار والذكريات، وكذا الأحلام الإنسانية، فيمثل حلم اليقظة مبدأها الرابط).
وهنا يكون كل مقطع من مقاطع النص عبارة عن مسافة جماليّة حُلُميَّة تضمر في طيَّاتها الكثير من الأسرار التي تُعرَض كأحداث مسافاتيّة دراميّة من على خشبة مسرح القصيدة.
- المسافة الأولى:
مـا حـاجـتـي لِـ " بـسـاط الـريـح"؟
خـذوا " الـريـحَ " لـكـم
واتـركـوا " الـبـسـاطَ " لـي ولـحـبـيـبـتـي ..
يدخل الشاعر هنا (أو صوت الشاعر المسرحي) مخاطباً جمهور القرّاء في مسرح قصيدته، أو ربما جوقة أخرى مُتخيَّلة تقدّم له بعض الإغراءات لكي يمتطي صهوة (بساط الريح)، ويرحل بعيداً عن سمائه أو أرضه الأولى، وإذا ما كانت صورة (بساط الريح) تأخذنا أو تحلّق بنا في سماء التراث حتى لو كنا نطير بأجنحة الخيال، كما يرى الفيلسوف إفلاطون بأنَّ (الشاعر كائن خفيف الأجنحة)، والشاعر هنا يحتّج متسائلاً: (ما حاجتي لـ "بساط الريح"/ خذوا "الريحَ" لكم/وأتركوا "البساطَ" لي ولحبيبتي...).
إنَّ إحتجاج الشاعر الدرامي يؤسس لما يمكن أن نسمّيه بـ (درامية الإحتجاج Dramatisation of Protest) والتي يترجمها جماليَّاً من فوق خشبة مسرح قصيدته، إذْ يكون إحتجاجهُ إحتجاجاً مسافاتيَّاً، أي يمكن الرجوع إلى قراءة محمولاته ودلالاته من خلال التزوّد بزاد المسافة الجمالية Aesthetic Distance، فهي المستودع الجماليّ الذي نأخذ منه ما يكفينا من مؤن الخيال التي تغذّي أفكارنا وتمدُّنا بالطاقة الجماليّة التي نحتاجها لإتمام طقوس تلك الرحلة في مسرح القصيدة. وعندما نتحدّث عن شخصيات Characters المسافة الأولى أو المشهد الأول التي يقدّمها الشاعر من على خشبة مسرحه الدراميّ، نجدها كما يلي:
(أنا الشاعر وهي مسافاتية بإمتياز: أنا الشاعر-أنا الراوي-أنا الممثل-أنا المخرج-أنا المنتج)، وكل (أنا) تمّثل مسافة بحد ذاتها، أما شخصية "بساط الريح"، تلك الشخصية المركّبة، تتحوّل فيما بعد إلى شخصيّتين بارزتين في مسرح القصيدة هما: البساط، والريح التي تتكرّر ضمنيّاً في المشهد الثاني، وتعود لتطّل علينا بصوتها الجماعي الإحتجاجيّ في المشهد الأخير، وكذلك تظهر لنا شخصية محوريّة يتكرّر حضورها الدرامي في المشهد الثاني والثالث على حدّ سواء، ألا وهي شخصية الحبيبة.
- ثيمة الإحتجاج في المشهد الأول:
تتجسّد صرخة الشاعر الإحتجاجية في المشهد الدرامي الأول عبر عبارة: (ما حاجتي لـ "بساط الريح"؟)، إذْ يطلب منهم أن يفصلوا ما بين الشخصيّتين الدراميّتين المحوريتين: البساط، والريح، وللبساط دلالة فلكلورية ورمزية تراثية ووطنية، فهو لا يريد لبساط الريح، وإنْ كان نتاج مخيَّلة ميثولوجية Mythological Imagination، أن يبعده عن حبيبته الأولى: السماوة، الأم، الأرض، الوطن، العراق وهو ينعم ببرودة ندى الفرات الذي يراقب من خلف الكواليس ما يدور من أحداث فوق خشبةِ مسرح القصيدة.
- المسافة الثانية:
يقول الشاعر-الراوي-الممثل-المخرج-المنتج للنص الدرامي:
(لا أتـمـنـى أنْ يـكـونَ لـي جـنـاحـان قـويـان
فـحـبـيـبـتـي تـقـيـمُ فـوق الأرض ...
لـذا أتـمـنـى امتلاك:
قـدمـيـن قـويّـتـيـن
تـقـطـعـان الـطـريـقَ الـمـمـتـدّ من أحداقي
الـى وجـهِـهـا!)
وقبل الوصول إلى مسافة البنية الجمالية للمشهد الدرامي، ربما تستوقفنا مسافة من نوع آخر، ألا وهي المسافة التأملّية للشخوص التي ستؤدي دورها المسرحي من فوق خشبة مسرح القصيدة بمواجهة جمهور القراء الذين يطّلعون على النص، أو أولئك الذين يجلسون في المقاعد الأمامية من مسرح خيال الشاعر وهي تبدو لنا بالشكل التالي حسب ظهورها على الخشبة الإفتراضية:
- أمنية الشاعر التي يجسدها الفعل المسبوق بـ (لا الناهية: لا أتمنى) وتلك تقودنا إلى ثيمة النفي والإثبات فهو لا يتمنى أن يكون له جناحان قويان، وهنا نلتقي بالشخصية الثانية:
- جناحان قويان: علامة الطيران والبقاء بعيداً عن الوطن.
- حبيبة الشاعر التي تقيم في الأرض.
وهنا ثمَّةَ صرخة إحتجاجية مُضمرة تجسدها عبارة: (حبيبتي تقيم في الأرض...)، وأيَّة أرض؟ أيَّة مسافات لنا أن نتخيّلها في تلك النقاط الثلاث(...) والتي تلعب أيضاً دورها السيميائيّ في مسرح القصيدة؟! إنَّ النقطة هنا علامة دراميّة مُتخيَّلة تخرق مخيّلة القارئ-المتلّقي، أو ما يمكن بتسميته بجمهور مسرح القصيدة، وتهّز الإسترخاء الذهني لديه، وتجعله متوّثباً على الدوام لأي دور جماليّ يتحتم عليه تأديته هو الآخر، أي تجعله يتفاعل مع دراما النص، ويكون على أتمّ الجهوزية والاستعداد لملء الفراغ المسافاتي، بما يريد أن يدخله من أفكار أو كلمات تحلّ محل مسافات النقاط المذكورة، حيث كل نقطة تكون مسافة، وثمَّةَ مسافة ما بينها وبين المسافة الأخرى.
-الطريق، هنا، شخصيّة مسافاتيّة تلعب دورها الدرامي الخاص بجماليَّات المكان.
-الأحداق: بمظهرها الجمعي لا تكون خاصة بحبيبة الشاعر كصورة إنسانية، وإذا كانت كذلك لجعلَ الطريقَ يمتّد من حدقتي عينيه، لكن ثمّةَ تحوّلات درامية تصنعها كلمات ذلك المشهد المسافاتيّ بإمتياز، فكلّ الأحداق التي يمتلكها الشاعر: حدقتي عينيه، وحدقات عيونه الإبداعية، بوصفه شاعراً ودراميَّاً وممثلاً مسرحيَّاً ومخرجاً ومنتجاً، وبغضّ النظر عن وجود تلك المسميَّات من عدمها في سيرته الشخصية، نحن هنا نتحدث عن فاعليَّته الجماليَّة في مسرح قصيدته لأنَّ حدقات تلك الشخصيّات مجتمعةً ستتجّه صوبَ وجه الحبيبة-الأرض-السماوة-الأم-رفيقة درب العمر الطويل.
- المسافة الثالثة:
يقول الشاعر-الراوي مخاطباً جمهور مسرح قصيدته:
(قالت ليَ الحديقة:
الرياحُ أفضل ساعي بريد
بـيـن الـمـيـاسـم والـتـويـجـات!)
ولو سلّطنا الضوء على شخصيّات المشهد المسافاتيّ الأخير، نرى من الممكن أن نقرأها على النحو التالي:
- شخصية الشاعر-الراوي من خلال عبارة (قالت ليَ).
الحديقة: شخصية دراميَّة جديدة تظهر على خشبة مسرح القصيدة لأول مرة. والحديقة هنا رغم حضورها الجماليّ في مسرح الحياة الواقعي، وفي مسرح المخيّلة أيضا، يترجم وجودها في المشهد الدرامي الأخير فعلاً إحتجاجيّاّ وإن جاء ضمنيّا هذه المرّة، فهي تهمس بإذن الشاعر-الراوي وتخفّف بعض الشيء من حدّة التوتر الدراميDramatic Tension لديه، وإن كان المشهد يتطلب تلك الحدّة من التوتر، وبهذا الفعل الإحتجاجي الهادئ تغيّر شخصية (الحديقة) من نظرة الشاعر-الراوي (للريح) التي تحدث تغيّراً مسافاتياً لتحوّلها من دورها الفردي إلى دورها الجماعي، حيث كانت في المشهد الأول شخصية منفردة بعد فصل جسدها عن جسد (البساط) لتكون هنا شخصية جماعية اسمها:
- الرياح: شخصية إيكولوجية Ecological Character محوريَّة سبق لنا، كجمهور مسرح القصيدة، أن التقينا بها في مسافة المشهد الدرامي الأول وهي ترتدي بدلة الميثولوجيا الشعبية Popular Mythology ممثلةً بـ (بساط الريح)، وفصلها الشاعر عن (البساط) لتعود شخصية إيكولوجية فردية، أي أصبحت شخصية تؤدّي دورها البيئي حسب مقتضيات الفعل الدرامي المطلوب تأديته من فوق خشبةِ مسرح القصيدة، بيدَ أنَّ دورها الإيكولوجي الجماعي يتحوَّل، حسب نظرية التحوّل المسافاتيّ: أي نظرية تحوّل المسافة إلى مسافةٍ أخرى مختلفة عن بنيتها الدراميّة الأولىDramatic Structure، إلى دور شخصية أخرى، بمعنى إنَّ شخصية (الرياح) البيئية Ecological تتحوّل أمام أنظار جمهور مسرح القصيدة إلى شخصية إنسانية يكون إسمها الدرامي في هذا المشهد المسافاتيّ الأخير:
- ساعي البريد: إنَّ شخصية (ساعي البريد) رغم حضورها المجازي Metaphorical Presence هنا، إذا ما قرأناها بلغتها الشعرية قبل تحوّلها إلى لغة درامية مسرحية، تلعب دوراً جماليّاً مزدوجاً Double Aesthetic Role في مسرح مخيلتنا الإفتراضي، فهي شخصية إنسانية لعبت وتلعب دوراً مهماً في مسرح حياتنا الاجتماعية بشكل عام والعاطفية على وجه الخصوص، إذْ كانت توصل رسائل قلوبنا لمن نحب ونعشق، وتأتي الينا برسائل القلوب التي تحبنا وتعشقنا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إنَّ (ساعي البريد)، هنا، كما يريد له الشاعر- الراوي- الممثل-المخرج- المنتج يحيى السماوي، يضطلع بمهمة إيصال الرسائل الجماليَّة التي تنتج لنا حياةً عطريَّة أو ثمريَّة، تجعلنا نشعر بالجمال ونتوّجه بالشكر والعرفان للرحمن العظيم الذي خلق كلَّ هذا الجمال بكلِّ تجليَّاتهِ المسافاتيّة، فـ (ساعي البريد) هنا يضطلع بدور مسافاتي جمعي، إذ تكون شخصيته فرديّة، لكن فعلها جمعي يتمثل بـ (الرياح)، والفعل الجمالي هنا هو فعل خالق ومنتج لحياة جديدة، فالدور التلقيحي للرياح وهي تجمع بين (المياسم) و(التويجات) وهي شخصيات تشارك لأول مرة في المشهد الأخير من مشاهد مسرح القصيدة:
- المياسم: شخصية إيكولوجية تنتمي لعالم الورد.
-التويجات: شخصية إيكولوجية تنتمي لعالم الورد أيضاً.
إنَّ الفعل الجماليّ لعملية التلقيح تشارك أو تشترك به الشخصيات الثلاث: (الرياح، المياسم، والتويجات)، والشاعر هنا يشتغل بوعي كبير على البنية النحوية للمفردات، حيث جعل منها شخصيات جماعية(الجمع) وليست فردية(المفرد)، لأن (الحديقة) وإن كانت شخصية فردية لكن تكوينها وبنيتها جماعية، بمعنى إن (الحديقة) منتج مسافاتي، أي تتكوّن أو تتشكّل بنيتها الجماليَّة من عدة مسافات، ولهذا يمكننا، وحسب نظريتنا المسافاتيَّة، أن نعتبر (الحديقة) كائناً جمعيَّاً مسافاتيّاً، حيث إنّ فعل التلقيح أنتجته شخصيات جماعية: (الرياح، المياسم، التويجات)، وبالنتيجة أنتج لنا (الحديقة) التي لا تتشكّل بزهرة أو وردة واحدة، بل بفعلٍ جماعيّ لزهرات أو وردات عديدة.
- مسافة الخاتمة:
من هنا، وتأسيساً على كل ما تقدم، نرى بأنَّ الشاعر الكبير يحيى السماوي يريدنا، من خلال البنية الدراميّة والجماليّة لمسرح قصيدته، أن ندركَ بإنَّ الفعل الجماعيّ الذي تشترك به شخصيات إيكولوجية وإنسانية سينتج لنا حديقة، والحديقة هي: الحبيبة (حبيبة الشاعر التي تعطى حياته عطراً عاطفيّاً بحضورها الورديّ في حلّهِ وترحاله)، وهي المدينة-الأم (السماوة التي يريد لها أن تكون حديقة غنّاء على الدوام)، وهي الوطن الحبيب(العراق: حديقة وجوده الإنسانيّ والشعريّ الذي شكّل هويته الطبيعية والإحتجاجيّة بوصفه إنساناً وشاعراً).
إنَّ الشاعر هنا، ينبّه جمهور مسرح قصيدته لأهمية الدور الإيكولوجي الذي تلعبه تلك الشخصيات وإسقاطاته الجماليَّة على الواقع الإنسانيّ، فهي شخصيّات مهمّة تؤدّي أدوارها الدراميّة والجماليّة، بفعل طبيعيّ أو إحتجاجيّ، ليس فوق خشبة مسرح النص الشعري السماويّ (نسبة للشاعر يحيى السماوي) فحسب، بل فوق خشبة مسرح الحياة.
***
بقلم: د. مسلم الطعان