قراءات نقدية

ميلود لقاح: سيرة الشوق والحنين.. قراءة في ديوان "نحـت فـوق السحـاب"

تقديـم: كلما حضرني اسم الشاعر عبد العزيز أبي شيار سعدت وحزنت في الوقت ذاته فالسعادة لأنني أحببت كلماته منذ أن اكتشفته شاعرا قبل أن أتعرف شخصه، أما الحزن فلأن الشاعر لم يحـظ بالاهتمام والمواكبة النقدية وهو يستحـق ذلك وهذا موضوع ذو شجون في وسطنا الثقافي والإبداعي.

والأستاذ الشاعر عبد العزيز أبو شيار ظهر في الساحة الشعرية حسب علمي ومتابعتي متأخرا، فقد نشر أول ديوان وهو أوتار النزيف سنة 2010 وهو يختلف عن عدد كبير من الشعراء الذين ظهروا في الساحة شبابا وطوروا تجاربهم شيئا فشيئا، في أنه قدم شعره ناضجا ومكتملا يخفي وراءه تجربة ثرية في الظل. وهذه الحالة نادره جدا ولم أقف عليها هنا في المغرب إلا مع شاعر مغربي واحد هو إدريس عيسى.

على مدى اثنتي عشرة سنة نشر الشاعر أبو شيار أربع مجموعات شعرية هي (أوتار النزيف 2010) و(فيض الأباريق 2014) و (معـارج الروح 2019) و(نحت فوق السحاب2022) الذي صدر قبل أشهر.

في ديوان (نحت فوق السحاب) نحت الشاعر ستا وثلاثين قصيدة، والنحت كما هو معروف فن من الفنون الجميلة قائم على نحت الخشب أو الصخر أو الحديد لتسوية وإبداعِ نموذج فني، لكن الشاعر عبد العزيز ينحت باللغة سيرة شعرية يملأها الشوق والحنين والحزن وعدم الرضا على ما آلت إليه الأحوال مع تشبث بالأمل فلفظة الشوق وردت في الديوان ثلاثين مرة:

لا الشِّعْرُ يُزْهرُ في كَفِّي فَأَنْثُرُهُ == إِلا حَنينــا بِقَلبٍ كــــادَ يَنْفَجِـــــر

إِنِّي هُنا قِبْلَةُ الأحْرارِ مِلْءَ دَمي == وَالشَّوْقُ وَحْدَهُ فيها جاءَ يَعْتَذِرُ

مِنْ أيْنَ نفرح والأحباب ما اقتربوا== منا ولا أصبحوا فينا فنزدهــر

لم يترك الشاعر عبد العزيز في هذه السيرة الشعرية صغيرة ولا كبيرة تتعلق به وبما حوله وبمن حوله وبماضيه وبالأماكن التي تربطه بها ذكريات إلا ذكرها بفيض من الحنين والشـوق. (اللقلاق الذي استأصلت الأشجار التي كان يقيم فيها عشه - وصاياه لابنه – الطحطاحة – رائحة الزيت الكحلاء – معشبة ابنِ الأخضر – أحياء الطفولة – الأحياء الأولى - المنازل المهجورة – الحي الغربي – سهول تريفة – تشريبة الأم – الحائك – القصبة – التشريبات – حكايا الغول وجحا – الجيلاني – الهجرة السرية وضحاياها.....)

الشاعر ملتاع بحنينه وتشوقه إلى الماضي الجميل وذكرياتِه التي تعجز قافيته عن إحصائها : (ص34)

إنَّ التَّشــوُّقَ للذِّكـــرى يُلَوِّعُنـي == ما مِثْلُهُ في الْتياعاتِ الْجَوى أَحَدُ

حرف اشتياقيَ ما أحصته قافية == ذراتُ قلبــــي لا عـــــدٌّ ولا عَــــــدَدٌ

ولا نَسَجْتُ قوافي الشَّوْقِ أُغْنِيَةً == إِلّا تَعانَقَ فيها الــرّوحُ والْجَسَـــدُ

إنه الماضي الجميل والمفقود الذي يُنيخ بكلكله على الشاعر؛ فلا يملك إلا أن يلهج بما يعتريه من شوق وحنين وحيـرةٍ وتساؤلٍ عن إمكانية إحضار الماضي، أو كما يقول (رد الحاضر للماضي)، هذا الماضي الذي: "كانت فيه الدنيا نسيما وعطـورا ومرايا وطريقا تصعد الأشجار فيه للسماء" وهو ليقاوم قسوة الحاضر يصله بماضيه. يقول

لا تَكْتَرِثْ لـمَلِمْ عَقاربَ ساعَةٍ == صِلْ ماضيا في عَيْشِ لَحْظَةِ حاضِرِ

وما هذا الحنين إلى الماضي إلا لبشاعة الحاضر كما يقول المفكر علي الوردي.

يقول الشاعر عبد العزيز أبو شيار:

احترتُ الآنَ فلم أفهمْ

هذا الزمن الأسودْ

فتشت كثيرا عن زمني

في هذا الزمن المنفي

لكني لا أعرفُ

كيف أرد الحاضر للماضي

وفؤادي يختزن الذكرى

عطرا ضَوَّعَ أجنحة الروح

آه مِنْ حاضرنا

زحف الإسمنت الزِّفتُ

الوقت الجبْتُ السُّحتُ

على الطَّحطاحَةِ يا أمي

وسأرحل عنك ومنك إليك

معي الذكـرى تحمل

ألف حنين وحنين.

وهـذا الحنين إلى الماضي لا يـرتبط بجانب واحـد من جوانب الحياة إنما بكل تفاصيلها، فقد ضم الديوان جملة من المواضيع المرتبطة بالجانب الاجتماعي والذاتي والتربـوي والديني يحضـر فيها الحنين والشـوق والحزن، صهر فيها الشاعر تجربته الثرة.

* حضـور الذات في الديـوان:

الذات هي المحور الرابط بين تفاصيل الديوان فلا قصيدة إلا وتحضر فيها ذات الشاعر المتأرجحة بين الشوق والحنين من جهة والأمل من جهة أخرى، حضورُ الذات متمثل في ضمير المتكلم المفرد (ياء المتكلم التاء المتحركة، والضمير المنفصل أنا) وينتقل الشاعر أحيانا من ضمير المتكلم المفرد إلى ضمير الجمع المتكلم وضمير الجمع الغائب؛ فالشاعر لا ينكفئ على ذاته وعيا منه أن الهم جماعي.

* النقـد الاجتماعـي في الديـوان:

يتطرق الشاعر إلى مواضيع اجتماعية مختلفة بعين الرفض فلا الواقع هو الواقع المنشود ولا المكان هـو المكان المعهود، فكل شيء جميلٍ وبريءٍ تحول إلى ضده بدءا باجتثاث الأشجار وتشريد الأطيار .

يا لقلق الشوق هل طافت بك النُّوب == حتى اعتزلت فـلا شـدو ولا طرب

إني عهدتك فــي الصفــاف تلثمــه == مــاذا دهـاك فكدت اليــوم تحتجب

إني أرى الأرض ناحت بعدما هوتِ الـ == أشجار هامدة والسرب ينتحـب ص(5)

الإنسان هو المسؤول عما آل إليه الوضع لذا يوجه الشاعر اللوم إليه محملا إياه المسؤولية بكل أسى؛ لكنه يبث في حنايا بعض القصائد بصيص الأمل على عادة الشعراء المتفائلين الذين يرسمون الغد المنشود.

* الجانب التربوي في الديوان:

يتمثل في الوصية التربوية التي يحلم كل أب أن يلتزم بها أبناؤه، فالآباء كما هو معلوم يسعدهم رؤية أبنائهم في حال أفضل من حالهم، ولا يسرهم أن يكونوا نسخا لهم وعيا منهم أن كل جيل خلق لعصره، ووعيا منهم أن الأبناء في مراحل معين في حاجة إلى وصايا تبصرهم بأمور عدة تفيدهم في حيواتهم. لذا يضمن الشاعر قصيدةَ (لا تكن شبيهي) مجموعةً من الوصايا التي يمررها من خلال ابنه إلى كل الأبناء.

احذر أن تشبهني يا ابني فتكون مجرد نسخهْ

ها أنت الآن تعيش الوقت الأول من عمرك

كن مختلفا عني

وتيقن أن حياتك ليست أرجوحه

الشوط الصاعد فيها: فرح

والشوط النازل فيها حزن

ما يفرحك اليومَ

يكون غدا كفراشة صيف

ترتاد جفافا فـوق هشيم أبله. (ص12)

* الجانب الديني:

حضور الجانب الديني متمثـل في قصيدة واحدة هي قصيدة (المعذب بالرحيل) يستهلها الشاعر بذكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكنه لا يسترسل في المديح النبوي إنما يعرج على نقد النفس الإنسانية وبيان أهوائها وهو موضوع لا يحيد عنه الشعراء في قصائدهم الدينية ومدائحهم يقول:

والنَّفْسُ كالطِّفْلِ الْمُدلل دأبُها == طلبُ المزيدِ مِنَ الرَّغائِبِ والمُثولْ

لا يملك الشاعر، بعد الاعتراف بهوى النفس، إلا أن يتضرع إلى الله خاشعا ونادما ومتحسرا في نهاية القصيدة على عادة الشعراء الذين يتناولون موضوع المديح النبوي أو التأمل في النفس الإنسانية :

رَبِّي عَرَفْتَ الضَّعْفَ فِيَّ خلَقْتني == للإبتــــلاءِ أنا جَــزوعٌ أو عجــولْ

يارَبِّ جِئْتُكَ خاشِعــا مُتَضَـــرِّعا == أَرْجو السَّلامَةَ في جِوارِكَ وَالْقَبولْ

فاضَتْ دُموعي بِالنَّدامَــةِ حَسرَة == كالغيث يكتنف المدامع بالهطــــول

* كوفيديات:

أنهى الشاعر أبو شيار ديوانه بقسم سماه (كوفيديات) وفي ذلك تمييز لقصائده عن باقي القصائد لأنها تتحدث هذا عن الوباء المستجد كوفيد، وهـو مظهر من مظاهر البشاعة الذي ابتليت به البشرية مؤخرا وأثار شهية المبدعين فحولوه موضوعا إبداعيا بالرغم من أنه بعيد عن حقل الأدب.

والحديث عن الأوبئة في الأدب تناولته كتابات عالمية وعربية مشهـورة مثل رواية (الطاعون) لألبير كامو، ورواية (الحب في زمن الكوليـرا) لغارسيا ماركيز، وهناك رواية (إيبولا) للروائي السوداني أمير تاج السـر.... وللقاص المبدع السي أحمد بلقاسم له أيضا مجموعة قصصية مخطوطة عنونها ب(برقية مستعجلة في زمن كورونا) لكن في حدود علمي ليس هناك شاعر خصص ديوانا أو قصائد لهذا الجائحة إلا الشاعر عبد العزيز أبو شيار، وهذا سبق يحسب له.

تناول الشاعر عبد العزيز في حديثه عن كوفيد التفاصيلَ اليومية المختلفة التي عاشها أفراد المجتمع في ظل الجائحة بلغة شعرية إيحائية: (الشك، الخوف من الإصابة بالوباء- حظر التجول - المعاناة من حظر التجـول- الاحتفال بالعيـد تحت الحظـر - تضارب الأخبار والشائعات – الحلم بالتجول – الخصاص في الأوكسجين – التعقيم اليومي – الغسل بالصابون – إجبارية ارتداء الكمامة – الفيروس – التلقيح – العادات الاحترازية....إلخ). ويكون الشاعر بذلك قـد قـدم شهادة إبداعية تؤرخ لفترة عصيبة عاشتها البشرية بكل هلـع وجزع.

* الجانب الشكلي:

اشتمل الديوان على ست وثلاثين قصيدة؛ عشرون منها عمودية وستَّ عشرة تفعيلية، اعتمـد فيها الشاعر عددا من البحور (البسيـط – الخبب (في اثنتي عشـرة قصيدة تفعيلية) الكامل –الرمل - الرمل المجـزوء – الوافر ..) وهذا يعكس مراسا إيقاعيا لا يشعر فيه القارئ أن العروض يشكل عقبة لـدى الشاعر فلا تكلف ولا وزحافاتٍ أو عللا مستقبحة، وليس ذلك بغريب على شاعر يستحضر براعة القدماء في عمودِيِّه وحداثة الشعراء الرواد في تفعيليِّـه.

أما اللغة فأنيقة ومعتنى بها عناية فائقةً، ينحتها شاعر تشرب صفاء اللغة العربية وأصالتها وطوعها ليعبر بصوته المتميز عن قضايا الإنسان.

أخيرا يمكن عد ديوان نحت فوق السحاب إضافة مهمة في تجربة الشاعر عبد العزيز أبي شيار بخاصة، وفي المشهد الشعري المغربي.

***

ميلود لقاح

 

في المثقف اليوم