قراءات نقدية

محمد تقي جون: التلحين العروضي للأناشيد الوطنية العربية

مقدمة: الاناشيد الوطنية أشعار فصيحة ملحَّنة تنشد مع فرقة موسيقية في المناسبات الرسمية وغير الرسمية. وهي شراكة بين الملحن والشاعر فهما أبوا النشيد. وغالبا ما يكون الملحن أهم من الشاعر فيه، وبعض الاناشيد بلا كلمات كالنشيد الاسباني. وتظهر الدراسة ان الاناشيد الوطنية لم يكتبها شاعر كبير لقيامها على الموسيقى اكثر من الكلمات، ولا كتبها شعراء غنائيون معروفون، لانها شكل شعري غنائي يتميز بالبساطة والشعبية. وكذلك لم يلحن الاناشيد الوطنية ملحن كبير ضرورة، فاشهر الاناشيد لحنها ملحنون غير كبار أو مشهورين، فالاناشيد بسمتها البسيطة والشعبية تحتاج شعراء وملحنين خاصين ممكن تسميتهم (شعراء وملحني أناشيد).

وتحتاج الاناشيد عدا الشاعر والملحن الى مقوم ثالث هو: التلحين والآلات الموسيقية، التي يكون الطبل والبوق أساسا مهما فيها، لحاجة الأناشيد الى الصوت القوي الثاقب، وكان لإيقاع الطبول هيمنة على العقل والجسم معا. وكانت (فرق الطبلجية) تصاحب الجيوش في أغلب الحروب القديمة، فقد استعملها السومريون والبابليون في حروبهم. وعرفت حضارة امريكا اللاتينية الطبول والدفوف ومارستهما في الحرب. ومن هنا جاء مصطلح (طبول الحرب). واجاز الاسلام استعمال الطبل والدف للحرب، واستقبل الرسول الكريم بالدفوف في المدينة مع شعر مشهور (طلع البدر علينا) لتأثيره في تجميع الناس. ويستعمل الطبل في السلام والانس ايضا لتأثيره في الحماس والفرح، ومن هنا جاء المثل العراقي (على حس الطبل خفن يرجليه). أما البوق فلصوته الشجي العميق المعبر عن المشاعر العاطفية صار ضروريا في الاناشيد الوطنية، ولأن أدوات النفخ ولاسيما الأبواق، لا تعزف الا على الماجور والمينور وهما من مقام العجم، صار هذا المقام أنسب قالب موسيقي للأناشيد. ويذكر أن نشيد (بلادي بلادي) وضعه الموسيقار سيد درويش على مقام الرست اولا ثم اضطر الى تحويله الى مقام العجم لتمكين الابواق من ادائه.

عرفت الاناشيد الوطنية ظاهرة حديثة، متلازمة مع العَلَم؛ فالعلم يرفع مرفرفا بسمو الدولة، والنشيد يغنى مدويا بهيبة الدولة. ويعد النشيد الوطني البولندي (بوغورودزيكا) أقدم نشيد، فقد ظهر بين القرنين العاشر والثالث عشر. ويأتي بعده نشيد هولندا (فلهلموس)، كُتِب شعره بين عامي 1568م و1572م، أثناء الثورة الهولنديّة، ولحن قبيل عام 1626م. واعتمد نشيدا رسمياً لهولندا عام 1932م. وأقدم شعر تحوّل إلى نشيد وطني شعر النشيد الوطني الياباني (كيميغايو) كُتب بين عامي 794 و1185م، ولكنه لم يُلحّن إلا في العام 1880م. وكان نشيد فرنسا (المَرْسِيّيز) في العام 1792م أغنية حربيّة ثوريّة، واعتُمِد نشيدا رسمياً عام 1795م، وظهر نشيد صربيا ام 1804م. ونشيد بريطانيا ( God Save the Queen= الله يحمي الملكة ) اعتمد عام 1745م. أما أمريكا فقد كتب نشيدها عام 1814م وأقر رسميا عام 1931م. ونشيد روسيا القيصرية اعتمد عام 1833م، وابدل عام 1917 بمجيء الاتحاد السوفيتي، ثم أبدل بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي عام 2000، وهكذا كانت أوربا سباقة في صناعة ظاهرة النشيد الوطني.

أما في الوطن العربي، فكانت مصر أول دولة عربية عملت نشيدا وطنيا عام 1907، ثم تلتها الدول العربية: لبنان 1927، فلسطين 1930، عمان 1932، سوريا 1936، الاردن 1946، السعودية 1947، ليبيا والسودان 1955، الجزائر 1962، المغرب 1970، البحرين 1971، جيبوتي 1977، جزر القمر 1978، الكويت 1978، العراق1981، تونس 1987، اليمن 1990، قطر 1996، الامارات 1996، الصومال 2000، موريتانيا 2017. وتوجد أناشيد وطنية حماسية غير رسمية في دول الوطن العربي مثل (بلاد العرب أوطاني) و(لاحت رؤوس الحراب).

الا ان الاناشيد بوصفها حاجة ماسة وضرورة قصوى في اثارة الحماس عند الحروب، ورص صفوف المجتمعات في كل زمان ومكان، جعلها موجودة منذ القدم لها جذور وتمظهرات مختلفة في والاسلوب والطريقة، لذا فانها أسبق من ظهورها في العصر الحديث، وان استقرت ظاهرة لها قوانينها واسلوبها. وقد ذكرنا ان الشعوب القديمة كانت تقرع الطبول والدفوف، وتنفخ في الابواق. ويذكر ابن الاثير ان المسلمين كانوا في صدر الإسلام ينشدون شعر عنترة بن شداد لإثارة الحماسة في الجيش، وكان على المتنبي أن يؤدي مهمة اخرى غير مهمة شاعر الامير المادح، فقد طلب الامير سيف الدولة من الشاعر أن يلقي عليهم قصيدته قبل ذهابهم لساحات المعارك. فوقف المتنبي يقول محمسا للجند:

وَنارٌ في العَدوِّ لَها أَجيجُ

             لِهَذا اليَومِ بَعدَ غَدٍ أَريجٍ         

*

بِما حَكَمَ القَواضِبُ وَالوَشيجُ

             رَضينا وَالدُمُستُقُ غَيرُ راضٍ      

*

وَإِن يُحجِم فَمَوعِدُهُ الخَليجُ

             فَإِن يُقدِم فَقَد زُرنا سَمَندو      

***

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون 

الايقاع والوزن والبحر

يخلط أغلب الدارسين بين هذه المصطلحات الثلاثة. وفي هذا الكتاب نسجل تعريفا مانعا جامعا لها لتكون أساسا موسيقيا في دراسة الاناشيد الوطنية.

الايقاع:

هو نغمة غير مطردة ولا مضبوطة وحرة غير مقيدة: مثل (قل هو الله أحد = فعْ فعَوْ مُسْتَ فعَوْ)، وحين يتكلم أي شخص فانه يطلق ايقاعات لا حصر لها.

الوزن:

هو ايقاعات متكررة نفسها، أي انه استعمال للايقاعات بضبط وانتظام. وبهذا تتحول الايقاعات الشاردة الى وزن محدد منتظم. والوزن بحر مقترح لا يسمى بحرا حتى يكتب عليه الكبار وتكتب عليه قصائد مهمة. أذكر في الماجستير أهديت الرسالة الى والدي شعراً، وجعلتها، حسب ظني آنذاك، على بحر جديد مبتكر مفتاحه

(مفاعلتن فعولن). والابيات هي:

لروحك في سماها

             لجسمك تحت أرضكْ

*

بكفّي وهي خجلى

             أقدِّمُ بعضَ فرضكْ

*

ازاهيراً من العلم وهي جَنِيّ روضكْ

*

وثغرا في البرايا

             يخبرهم بمحضكْ

*

وان اك منك بعضا

             فـ(هذا) بعضُ بعضكْ

وقد أعلمني الدكتور عبد الحسن المحيالي ان القرآن الكريم سبقني الى هذا في قوله تعالى (وفاكهة وأبَّا = مفاعلتن فعولن). ونحن نتفق مع الدكتور عبد الحسن على هذا التوافق، ونحتلف معه بأن ما جاء في القرآن الكريم ايقاعات ليست اوزانا او بحورا حنى تمر بالدورة الموسيقية التي نحن بصدد شرحها.

وحوَّل الرصافي ايقاع (مستفعلاتن مستفعلاتن) الى وزن حيث كتب:

سمعتُ صوتا للعندليبِ

             تلاه فوق الغصن الرطيبِ

*

اذ قال نفسي نفسي الرفيعة

             لم تهوَ الا حسن الطبيعه

وظلَّ وزنا مهملا حتى كتبت عليه نازك الملائكة ونظَّرت له وسمته (بحر الموفور) فصار بحرا. واشتهر أبو العتاهية بصنع الاوزان قيل انه (لسرعة وسهولة الشعر عليه يقول شعراً موزوناً يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب) وقد صنع أوزانا كثيرة سجلتها كتب الادب مثل (للمنونِ دائرات يدرن صرفها) و(عتبُ ما لليالي خبريني وما لي) فلم يُكتب عليها فأهملت. ولكنه نجح في اختراع وزن صلح أن يكون بحرا وهو المتدارك. ولم ترق الاوزان الكثيرة التي صنعها ابن السميذع ورزين العروضي وغيرهم أن تصبح بحورا، وكذلك في الازمنة بعدهم وحتى زماننا، عشرات الايقاع يصنع منها اوزانا فلا يكتب عليها الشعراء الكبار او تكتب قصائد نابهة فتهمل تلك الاوزان. وان قدرة الوزن وطاقته الموسيقية وصلاحية نغمته للشعر والاغراض المختلفة هو الحاسم في نجاح الوزن وتحوله الى بحر.

البحر:

 وهو وزن قادر على التعبير شعرا بطاقة وجمال موسيقاه. فكتب عليه الشعراء الكبار واشتهرت فيه قصائد وعدت من المختارات. ابتكر العباسيون بحورا كثيرة أدخل منها الخليل بن احمد اربعة في عروضه. وهي: المضارع والمقتضب والمجتث والمتدارك. وكان عد المضارع بحرا اضطرارا؛ لانه سقيم الموسيقى، ولم يكتب عليه شعر جيد. والمقتضب محدود النغم يصلح للخواطر فقط، كتب عليه ابو نواس ابياتا اربعة، وقليل من كتب عليه وما كتب عليه. اما المجتث والمتدارك أو الخبب فبحرا جيدا الموسيقى يصلحان لبعض الاغراض.

سمات الاناشيد الوطنية

1- جاء النشيد الوطني من الخارج، فهو ليس ابتداعا عربيا؛ وهذا يعني ان املاءات كثيرة جاءت مع النشيد. مع الاعتراف بوجود اصول له في التراث العربي، وتلك الاصول هي مشترك عالمي؛ لان النشيد حاجة متطلبة في كل شعوب العالم، الا ان النشيد الوطني تطور واستكمل قوانينه في أوربا.

2- النشيد الوطني يكتب باللغة الرسمية للبلد، ويشترط فيه الانشاد بفرقة موسيقية، فهو يجمع بين الشاعر والملحن. والملحن أكثر فاعلية وتأثيرا في صناعة النشيج الوطني، وقد يعدل في كلمات الشاعر.

3- غالبا يكتب النشيد الوطني شعراء غير كبار أو مشهورين، وهو واقع شعراء النشيد العرب. بعض الاناشيد لا قيمة لكلماتها وقيمتها ونجاحها بقوة تلجينها ووجنا بعض الاناشيد وضعت على قالب لحني مسبق. وبعض الاناشيد وضعها شعراء غنائيون لحاجة النشيد الى غنائية عالية وللنشيد مبدعوه الخاصون، وليس كل شاعر قادر أن يكتب النشيد.

4- وقليل من الاناشيد كتبه شعراء كبار مشهورون كنشيد العراق الذي كتبه شفيق الكمالي، ولكن ذلك من القليل او النادر.

5- بعض الاناشيد قوالب لحنية وضعت عليها الكلمات. وبذلك نجد كثيرا من الاناشيد الوطنية مكتوبة على اكثر من بحر او ايقاع لان الشاعر راعى اللحن المتنوع.

6- قد يكتب النشيد على بحر معين، ثم يتصرف به الملحن فيتحول موسيقيا الى بحر أو ايقاع آخر.

7- بعض الاناشيد الوطنية العربية كتبت بغير العربية كنشيد الصومال وجيبوتي وجزر القمر، وهذه الاناشيد لا تدخل الدراسة لانها معرَّبة كتبت بغير لغة الشاعر.

***

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون

في المثقف اليوم