قراءات نقدية

حميد عقبي: إبداع القاص المصري يحيى الطاهر عبد الله

عندما تكون القصة فنًا وتحطّم القيود الأجناسية

نستكشف المبدع من خلال إبداعه وما ينتجه، ولكننا أيضًا قد نكتشف سحر هذا الإبداع وأناقته من ناقد مبدع. كتاب (غواية السرد وترويض النقد: دراسات تحليلية لأجناس أدبية) للناقد الأكاديمي المصري د. حافظ المغربي، والذي قسّمه إلى أربعة فصول، تناول عدة أجناس سردية، ولكني سوف أركّز على الفصل الثاني المعنون:

شعرية السرد وآفاق التجريب في قصص يحيى الطاهر عبد الله القصيرة والقصيرة جدًا: دراسة في نماذج من مجموعته "الرقصة المباحة".

هذا الفصل يبدأ من صفحة 81 وينتهي في الصفحة 145، وتليه قائمة مهمّة من المراجع والمصادر.

اتّسمت كتابة الناقد د. حافظ المغربي بسلاسة مغرية. من ميزات النقد الحداثي أنه يبحر بك وبمخيلتك ويشجّعك على قراءة المادة. كما أن هذا الفصل البحثي يدفع قارئه للبحث عن إبداع القاص الشاعري يحيى الطاهر عبد الله، ويقدّم هدية بديعة لمحبي هذا القاص العبقري في أسلوبه ولغته، الواقعي المحبّ لقريته الكرنك بجنوب مصر، السينمائي في تصوراته. كل قصة له نجدها إبداعًا فنيًا وتجريبًا شجاعًا يحطّم القيود الأجناسية عن وعي، بحنكة وشعرية تدميرية. فهو يتجاوز القيود والحدود والتابوهات، لكنه يميل للبسطاء، يسمعهم ويتيح لهم أن يحلموا وأن يتكلّموا وربما يرووا أيضًا.

قراءة هذا الفصل البحثي ستفيد النقاد المهتمين بفن القصة القصيرة وكتابها، وحتى كتّاب ومبدعي الرواية. نعم، يمكننا أن نتعلّم كتابة الرواية وحتى المسرح والسيناريو من قاص عظيم مثل يحيى الطاهر عبد الله.

كل الشكر لأستاذنا الناقد د. حافظ المغربي، على جهده الأنيق والتحليق بنا في عوالم السرد الساحرة.

شعرية السرد وآفاق التجريب

يلفت الناقد انتباهنا إلى أن قصص المبدع يحيى الطاهر عبد الله تحمل روح الشعر: (أي قريبة من لغة الشعر، دون إيقاعه ووزنه، وأقرب في بعض نماذجها من قصيدة النثر). هذا الرأي النقدي لم يأتِ مجاملة، ولو عدنا مثلًا إلى قصة الغول، وهي من صفحة واحدة، لكنها استطاعت أن تلخّص بشعرية مدهشة قضية كبيرة جدًا.

قصة "الغول": تأمل نقدي

هناك روايات عربية كثيرة عن الغول، وبعضها فشل في عرض جوهر الغول. يحيى الطاهر في هذه القصة لم يعرض أحداثًا جسيمة، لكنه نجح بأسلوب سلس وسهل أن يمسك بعقدة القضية، وكأنه يقول: الغول ليس من خلق الآلهة، بل هو من خلق البشر.

الشخصية، التي سمّاها المطرود من أهله، تسير مع قطّتها الحامل في الصحراء والضياع. ينجح القاص في خلق شخصية قوية ومهمة دون الإسراف في وصفها وأسباب طردها. يدعونا القاص هنا للمشاركة في بناء هذه الشخصية وتخيّل أسباب خروجها مطرودة دون ماء أو طعام أو أي سبب من أسباب الحياة.

بجمل ترسم وتصور وتفتح شهيتنا التخيلية، يمضي القاص ليحكي قصة ميلاد الغول، وربما يكون الغول الأول في الكون. كفيلم سينمائي قصير، تمضي الأحداث الصغيرة لتخلق الحدث الجسيم: ولدت القطة، جاعت القطة فأكلت أحد صغارها وشربت دمه من أجل حياتها، قلدها هو وأكل لحم القط الصغير. لم يعجبه اللحم النيّئ، فأشعل نارًا وشواه.

هكذا، انتقل الإنسان من الإنسانية إلى التوحش. عندما شاهد القتل، قتل، وقتل، حتى تحوّل إلى غول.

قوة إبداع هذا القاص تكمن في فكره وموقفه الواضح القوي هنا ضد القتل بكل أشكاله وأنواعه، وضد خلق شخصية القاتل. ربما لو أن هذا الشخص لم يُطرد ويُهان، لتغيّر مصيره.

يشير الناقد حافظ المغربي إلى تجربة هذا القاص بأنها: (ثرية في طبيعة بنائها الفني، من خلال جدلية الرؤية والأداة، أو المضمون والشكل). ومن خلال البحث والاستشهادات، نشعر أن القاص ليس هدفه مجرد الكتابة، فهو يعتبرها فنًا وحياة وليست مجرد مهنة. لذلك، قصصه تجعلنا ننغمس معها في لحظة كل حدث وننتقل معها في الحقول والأكواخ وقرب الترعة، في الأسواق والغرف الضيقة، تلسعنا شمس الظهيرة كما تسحرنا هذه الشمس.

إذا لاحظنا، الكثير من قصصه تعطي قداسة خاصة للشمس وللنهار بتفاصيله وأزمنته. لكل لحظة سحرها اللوني. يكون السرد والوصف كأنه أدوات رسم وتصوير، تتفاعل الشخصيات مع هذه الأزمنة واللحظات وتعيشها.

قصة "البكاء": أسطورة في قالب قصصي

يمتلك القاص عبقرية مدهشة، يبتكر مفردات بسيطة وأدوات حياتية، فيحرّكها ببراعة ليفجّر دلالات قوية، وأحيانًا قد تكون صادمة وصاخبة. لو تأمّلنا نص البكاء بما فيه من فنتازيا، نجد أن القصة ليست بعدد شخوصها أو الواقع الظاهر على السطح.

يحيى الطاهر عبد الله ينسخ أساطيره الصغيرة. ففي هذه القصة، الحية التي قُطع ذيلها تهرب إلى بيت جارته العجوز، التي تربي الدجاج. الدجاجات مصدر رزق العجوز التي، لعدم قدرتها على محاربة الحية، تعقد معها اتفاقًا: تطبخ لها كل يوم بيضة مع البصل.

باضت الحية وأخفت بيضها، ثم فقس البيض، وأصبح لها صغار. خرقت الحية الاتفاق، وقتلت إحدى الدجاجات، ثم قتلت الرجل الذي قطع ذيلها، وخرجت تاركة العجوز تبكي وتندب.

كأن القاص يسألنا: أين الشر؟ ومن هو الشرير؟ أكانت العجوز ساذجة لتأمن مكر هذه الحية؟ أم أن الحية ضحية عنف ذلك الرجل؟

أفكار كثيرة تنبثق من نص صغير وقليل العبارات. قوة المبدع تكمن في إثارة الجدل، تجعلنا نعيد ترتيب الأحداث ونتخيل الدوافع. هذا النص، والكثير من نصوصه، قد تُفهم بطرق متعددة: اجتماعية، سياسية، أو مراجعة لتاريخنا وهفواتنا ونكباتنا.

التجريب وتحطيم القيود الأجناسية

يتحدى يحيى الطاهر عبد الله القيود التقليدية للأجناس الأدبية. قصصه القصيرة جدًا تعتمد على التكثيف، لكنها تمتلك عمقًا فلسفيًا ونفسيًا يترك أثرًا عميقًا في القارئ.

إذن، سنجد أنفسنا أمام قاص يجرب بخيال فني لا يقيّد نفسه بمصطلح أو تسميات. يكسر الحدود والأجناس والأنواع، ويرفض الخضوع والإنصياع الأعمى لقواعد ونظريات السرد في عصره. يقول إن كل شيء وموقف يمكن أن يصبح قصة.

سنجد أنفسنا مع قاص تأملي، يشاهد من بعيد ثم يقترب وينصت. يجعل شخصياته تتكلم بعفوية وبلسانها هي، تنازعه وظيفته كسارد، تسرد أو تصف مشهدًا بأسلوبها، تصرخ وتضحك، تبكي وتحلم.

السينمائية في السرد: مشاهد حيّة محفزة للخيال والتفكر الفلسفي

المتأمل لقصص يحيى الطاهر عبد الله كأنه أمام شاشة سينمائية، يشاهد فيلمًا إيرانيًا شعريًا أو فيلمًا يابانيًا. يذكّرنا أسلوبه أيضًا بأفلام أندريه تاركوفسكي، في تأملاته للأرض وقلة شخصيات بعض نصوصه، وكذلك بالرؤية الذاتية الحرة في أفلام بازوليني.

نجد يحيى الطاهر يبرع في خلق أكثر من وجهة نظر، ولا يهتم بخلق بطل واحد أو مصير واحد. وجهات النظر متعددة، والأصوات متنوعة، حتى في النصوص التي يمكن وصفها بالقصيرة جدًا. يمتلك قدرة خلاقة على خلق نهايات بديعة.

التناص والتراث الشفهي

وكما وضّح الباحث حافظ المغربي، نجد نزعة القاص لتكون قصصه محكية كأنها من التراث الشفهي السهل الحفظ، والساحر للسامع. يصوّر ببراعة، يلوّن لغته، يضرب الأمثلة، يستشهد بتناصات مختصرة. تناصاته أشبه بومضات خاطفة، كأنه يبحث عن الصورة وليس النص. وقد يأخذ جزءًا من الصورة ويكملها من خياله.

قصة "الخوف"

نختم بمراجعة تأملية سريعة لنص الخوف. الأسلوب اللغوي كحكاية تراثية شفهية، دون الوقوع في الجناس وصناعته. في هذا النص، نحن مع تاجر عقيم يتزوج حسناء جميلة، يحبسها في البيت، يغرقها بالملبس والمأكل، ويقضي معها الليل ليأخذ لذاته.

تتبدّل أحواله بالوسواس، ثم يحدث الانقلاب عندما تهاجمه خيالات فيقتل أحدها. يخاف من انتقام خيالين لصاحبهما الميت. هذا التاجر يريد المال والجمال.

تنتهي القصة برسم شخصية مصابة بالهوس. يغلق التاجر دكانه ويحمل بندقية ليقتل روحين، وأحيانًا يطلق رصاصتين في الهواء.

كأننا مع مشهد من مشاهد المخرج السينمائي فيديريكو فليني أو تيم برتون. القاص يبدأ القصة كأنها حكاية، ثم يحدث انقلاب مفجع. تتوحش الشخصية، وتترك لنا مساحة للحوار معها، لتحليلها، لنكرهها أو نحبها.

القاص هنا يخفي صوت الزوجة الجميلة. لم نسمع اعتراضها أو صوتها، لكننا نتخيل وجعها وألمها من زوج يأخذ لذته، وهي وحيدة ولن يكون لها طفل لأن التاجر عقيم.

الشخصيات النسائية في عالم يحيى الطاهر

تتجلى قضايا اجتماعية كثيرة. يصوّر الشخصيات النسائية دون مبالغات. الشخصية النسوية تعاني وتخاف، تحلم وتأمل، تحب الحياة والتحرر، كما تعكس قصصه القهر الاجتماعي والضغوط النفسية وعادات وتقاليد تكرس ضعف المرأة وتنتصر لذكورية الرجل وسلطته المطلقة، وكذلك فهذه القصص تتأمل الطفولة وما يعانيه الأطفال من قسوة وديكتاورية الأباء.

من الصعب أن نوجز الحديث عن هذا القاص في مقالة واحدة، أو أن نعرض ملخصًا وافيًا لهذا الفصل النقدي من كتاب غواية السرد وترويض النقد: دراسات تحليلية لأجناس أدبية للناقد المصري د. حافظ المغربي. الكتاب يستحق القراءة، وهو مساهمة نقدية مهمة. وما أحوجنا لنقد إبداعي يحفزنا على اكتشاف المبدعين وفهمهم والذهاب إلى عمق النص الإبداعي.

***

حميد عقبي - باريس

في المثقف اليوم