قراءات نقدية

نورالدين حنيف: مقدمة في قصيدة النثر

لم نفكّر في شأن التوتّر الأدبي الحاصل بين قابلٍ لقصيدة النثر وبين رافضٍ لها ونحن نقدّم لإشكالية هذا النوع الأدبي الأدبي الطارح لأكثرَ من سؤال. وتفكيرنا منصبٌّ أساساً على البحث عن شِعرية القصيدة. وبمعنى آخر فالنقاش لم يعد نافعا في تقليب أوجاع الجدل حول مشروعية أو عدم مشروعية هذا النوع. وهل هي قصيدة هجينة أم هي بنتٌ شرعية لكيان أدبي عمّر طويلا وهيمن وفرض قواعده حتى لا مندوحة عنها في النظم وفي القريض. إن هذا التداول لا يشبهنا ولا نرومه ولا يقدّمنا أو يؤخّرنا عن مسعانا الذي نهدف فيه إلى بيان ما في قصيدة النثر من جماليات ترقى بها من ابتذال الكلام إلى فنّ الكلام الذي لا يستطيعه ولا يقدر على اجتراحه إلا مفوّهٌ في اللغة وفي فن اللغة وفي أحلام اللغة وفي مخيالها الخصب،  ولا يجرؤ على طرق أبوابه إلا متمكّن من فن الشعر، لا ذلكم المتكلّم الخارج من يأس النظم.

قصيدة النثر في منظوري النقدي المتواضع، انسيابٌ طبيعي لفن القول. ولا أراها ردّة فعل ضدّاً في هيمنةِ  جنس أدبي سبقها في الوجود. قد يكون التّماسُّ بينهما واقعا لا نردّه البتّة، وقد يكون فيه بعض التأثير والتأثر، ولكن لا يبلغ فيه الحدُّ  درجةَ محوِ خصوصية وجود هذا الجنس ولا يشط إلى حدّ إقصائه، وكأن التاريخ يقف عند عتبة نوع أدبي أوحد ومعيّن ولا يتجاوزه. فهذا في قناعتي المتواضعة ضرب من الوهم لأنه جزمٌ قطعيٌّ مغلوط يكاد يقول إن الأرحام التي ولدت عبقرية الأصالة الشعرية الأبوية القديمة غير قادرة على إنجاب حداثة شعرية نسْليّة يحق للأبناء فيها أن يسندوا لذواتهم عبقريةً أو كشفاً أو اجتراحا  أو خلقا...

هذا النقاش لا ينفع الآن حيث  نعيش تراكماً مبهراً لمتون قصيدة النثر في المغرب وفي المشرق وفي العالم بأسره. وهو التراكم الذي يقوم لوحده دليلاً على ضرورة الخروج بالنقاش من مصداقية الوجود  ولا مصداقيته، ومن وسم الهُجنة وعارها إلى فهم هذا الوجود ( أقصد وجود قصيدة النثر ) وتشريحه وتفكيكه وقراءته القراءات المتساوقة وروح العصر. وأنا في هذا النزوع لا أقول بضرورة الدعوة إلى شرعية هذا الجنس الأدبي،  لأنّ في دعوتي اعترافا ضمنيا بلاشرعيته. الأمر أبعد من ذلك دلالةً وقيمة، فنحن لا نملك الوصاية الأدبية والفكرية التي تخول لنا وضع جنس في خانة الاستحقاق دون آخر ولا التنقيص من جنس لحساب آخر. وحتى وإن سُلِّمَ لنا جدلاً وفرْضِيةً وافتِراضاً بهذه الوصاية فلن نرفعها سيفاً على أعناق هذا الجنس الأدبي المثير والزوبعي والزئبقي والهيولاني الذي يحمل في كل يوم إدهاشا من نوع خاص، ويبشر كل يوم بسؤال مفتوحٍ على الاحتمال الشعري الخصيب، ويصدمنا كل يوم، ولا أقول بتمرّده فحسب، بل أقول باختلافه وتميّزه أيضا. ذلك أن قولي بالتمرد هو قولٌ يستحضر دائما موضوعاً متمَرَّداً عليه ومرفوضا. وفي هذا أعلن سقوطي في التناقض إذ أضع قصيدة النثر في موقف ردّة الفعل فيما هي انسياب طبيعي لصيرورة فنية كانت بذرة ثم كبرت وتعملقت شاء من شاء وأبى من أبى.

و أكاد أجزم في طرحي المتواضع بعض الصواب في عزلي قصيدة النثر عن سياق ردّة الفعل، على اعتبار أنها كيان عضويُّ الوجود لا صوري، وأصيل الكينونة لا متناسل عن أبوة، وحتميُّ الحدوث لا عابر. ومستقلّ الكينونة لا  تابع. ودليلي في ذلك وجود بعض المتون الإبداعية القديمة التي انفلتت من قبضة التجنيس وأذكر منها مواقف النفري التي جدّد فيها اللغة الشعرية ورفع الكتابة  إلى مراتب إدهاشية غريبة. ولقد كان المتنُ النّفريُّ ( يتحرك صامتا في نطقه وناطقا في صمته. فهو يستخدم اللغة لا لكي يعبّر بالكلمات، فهذه عاجزة، وإنما لكي يعبّر بما يقدر أن ينسج بها من علاقات هي رموز وإشارات. اللغة هنا، جوهريا، مجازية. إنها تخرج ما تفيده الكلمات عن موضعه من العقل إلى ما لا يمكن فهمه إلا تأويلا...)1.

نحن ندرك أن مثل هذه التخريجات على مصداقيتها تجر علينا غضباً من جهتين: الأولى تسمنا بالماضوية والنكوصية وتضعنا في خانة الباحثين عن جذور قصيدة النثر في التراث العربي والإسلامي. والثانية تصفنا بالعجز عن تمثل قصيدة النثر في استقلالية تامة عن أيّ أبوة، وبالتالي تدخلنا في خانة الباحثين الذين لا يفعلون سوى ليّ أعناق نصوص الماضي كي تخدم أجندات أدبية ونقدية  خاصة. ومع ذلك نقول إن هذا ليس مرادنا وإن أدرجناه سياقاً استشهاديا بقوّة الحق في الطرح النقدي. إن مرادنا الواضح هو درس بعض النماذج من المتون الشعرية في قصيدة النثر المغربية والعربية داخل أفق واحد، هو الكشف عن شعريتها وفق تصوّر نقدي تلتقي فيه علمية التحليل وموضوعية التأويل. وحسبنا في ذلك أن نثير لإضاءة مسعانا النقدي وتأكيده ودعمه، بعضَ الإشكاليات العالقة في محور قصيدة النثر.

وأولها سؤال: هل نشتغل على ماهية قصيدة النثر بمرجعية قاعدية خارجية، كأن نقيسها في مستوى الموسيقى بضوابط المرجعية الإيقاعية العربية القديمة المبنية على تحديد ماهية الشعر في  كلِّ  كلامٍ موزونٍ ومقفّىً دالٍّ على معنى؟ أم أننا سنشتغل على ماهيتها من داخل كينونتها المتفردة والمستقلة والمشروطة بمعايير موضوعية تراعي خصوصية القصيدة في ولادتها الجديدة وتراعي طبيعتها الماتحة شرعيتها من حقها في التعامل مع اللغة والإيقاع من زاوية نظرها الخاصة؟ وهنا لابدّ من تسطير وقفات في غاية الأهمية ويتعلق الأمر بضرورة تقدير كلامنا في محلّه دون تأويلنا ضدّ المرجعية الإيقاعية القديمة التي نعتبرها عبقرية فذّة لا مثيل لها في الدقّة العلمية سواء في شخصها كنظرية عربية قائمة ما قام الشعر، أو في شخص مهندس فكرتِها: الخليل بن أحمد الفراهيدي العالِم الظاهرة. ويتعلّق الأمر أيضا بضرورة التمييز في ماهية الشعر بين الأصل والفرع وبين التأسيس والتناسل. وهو التمييز الذي لا يعني بتاتاً حتمية أن يكون الفرع نسخةً حرفية من الأصل وأن يأتي المتناسل صورة طبق الأصل لصورة التأسيس، مثلما لا يقع أن يكون الابن تكرارا للأب، حتى ولو تشابها بيولوجياً فإن الماهيتيْن تختلفان قطعاً وتتمايزان بشكل ملفت.

من هنا سؤالُ: هل تمتلك قصيدة النثر في تكوينها الجيني ما يؤهلها كي تكون شعراً قائما ومستقلا ومزاحماً لباقي الأنواع مزاحمة تدافع لا مزاحمة إقصاء أو مفاضلة أو مقارنة؟ إن هذا الجنس الأدبي الذي يتكلّم اللغة كسائر الأجناس الأخرى هو لعمري قادر أن يكون. وفي هذه الكينونة أراه لا يتوسّل الأعتاب كي يمارس حضورة الفني. وأراه يمارس حضوره بقوة الشعر لأنه يعانق اللغة في اشرئبابها الممكن لا في تكرارها أو في استنساخها. من هنا قدرته على أن يكون وأن يمارس كينونته بامتياز مادام يستوعب اللغة في حركيتها لا في سكونها وفي احتمالها لا في وضعها المسطّح وفي خروجها لا في خنوعها وفي ثورتها لا في تسليمها. إنها قصيدة النثر التي تحمل في ذاتها توثّباً حيوياً لا نظير له ولا مثيل. وهو التوثّب الذي لا نتحدث عنه جزافا وبمجانية ترفية وبذخية وإنما نوظّفه في وعي بفن الكتابة النثرية المحلقة في سماوات الشعر. إن هذه الميزة أو الخاصية التي تتأسس عليها قصيدة النثر هي ما يسم هذا الجنس الأدبي بالقدرة على التطوّر الخلّاق. والفكرة فلسفيةٌ غارقة في مباحث الوجود والأخلاق عند المفكر (هنري برغسون) أتقاطع معه و أستعيرها منه في توظيف أدبي لا أجد فيه حرجا البتّة على اعتبار أن العلوم تتقاطع وتتماسّ وتتبادل التأثير والتأثر وتتنكر لمفهوم القطائع الإبستيمولوجية. وإني لواجد في تحليل المفكر للشخصية الإنسانية إحالةً غير مباشرة على كينونة قصيدة النثر: (وهكذا تنمو شخصيتنا وتكبر، وتنضج دون انقطاع. وكل لحظة من لحظاتها عنصر جديد ينضمّ إلى ما كان موجودا من قبل. فلنذهب إلى حد أبعد من ذلك، فنقول: ليس هذا جديدا فحسب، بل هو شيء لا يمكن التكهن به...) 2.

يتناسل السؤال أيضا في مقام اللغة داخل قصيدة النثر مادامت بهذه الحيوية المتوثّبة وبهذه القدرة المبدعة القادرة على الانثيال المدهش. ما الذي يجعل اللغة في هذا الجنس الأدبي أكثر حركية ودينامية ّ ؟ هل الأمر يتعلق بتنصلها التاريخي من قبضة الوزن في صورته الخليلية ؟ أم الأمر أكبر من ذلك ؟ وأعمق وأجدر أن نقف عنده دون تسريع قطفة الأحكام. ونحن نرفض القول بدونية الكتابة في جنس قصيدة النثر انطلاقاً من عجز مكين لدى شعرائها لأنهم لم يستطيعوا مجاراة ضوابط وقواعد القصيدة التقليدية \ الموزونة \ الأم. فهذا تخريج لا نقد فيه ولا علم، وبالتالي وجب البحث عن مخارج أخرى أكثر معقولية ونضجاً وتقديرا لفنّ الشعر.

و أرى أن استقلال قصيدة النثر عن أشكال التعبير الأخرى لا علاقة له بردّة الفعل أبدا بقدر ما هو انسيابٌ منطقي تدرّج فيه فن القول مشروطاً بسياق حضاري فرض شكل التعبير من منظور رؤية فنية مختلفة عن الرؤى السائدة. من هنا معانقة قصيدة النثر للغة في غير تقليد أو إعادة أو تكرار. إنها المعانقة النابعة من تمثل المتكلم بها لحياة اللغة داخل شكل جديد يبحث عن تشكله النهائي الذي لم يثبت لحدّ الآن على مرفأ. وهذا وصفٌ لا قدح  فيه، يفسّر دينامية الجنس الأدبي في معانقته للغة داخل الاحتمال لا داخل الشبه وتركيم طرقات الجاحظ بمزيد من المعنى. اللغة في قصيدة النثر تبحث في فائض المعنى داخل تصوّرٍ متقدم يربط إرهاص اللغة بنهاياتها ويتجاوز النهايات إلى بدايات أخرى مفتوحة على الاحتمال المدهش، في وحدة اتصالية منفتحة عبّر عنها الناقد تودوروف بالقول: (اللغة هي المبدأ والمعاد وهي نقطة انطلاقه ونقطة وصوله. اللغة تضفي على الأدب صيغتها المجردة كما تضفي عليه مادتها المحسوسة)3.

و قد يقول قائل: هل اللغة وتوظيفها يعدّان أمراً مفارقاً في قصيدة النثر ؟ وبمعنى آخر، هل تنفرد هذه القصيدة بعبقرية استعمال اللغة حتى لا إمكان لمضاهاتها من قِبلِ الأنواع الأخرى ؟ نقول توّاً ودون تردّد: لا، فهذا ضرب من نرجسية التقوقع. وإنما الأمر يتعلق بقدرة قصيدة النثر على التميّز في شأن اللغة وبشأن اللغة على اعتبار أنها لا تلتزم بقواعد معينة لأنها قصيدة مُجنّحة. ومادامت كذلك فلا يمكن ضبطها داخل دوائر القاعدة والضبط الشعري المحكوم بسلطة البناء الصارم . إنها حالةٌ متفردة من القول تتبنى صوغا خاصا نابعا من طبيعتها الزئبقية  المتملصة من كل طوق وعن كل طوق والخالقة إن شئنا القول أطواقها الخاصة والمتواطئة دائما مع مقولة الحرية.

 ***

نورالدين حنيف أبوشامة - المغرب

......................

إحالات:

1- أدونيس، الشعرية العربية، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى 1985،  ص 71

2- هنري برغسون، التطور الخالق، ترجمة محمد محمود القاسم  المركز القومي للترجمة، 2015، ص 16

3- ادوارد سابير وآخرون، اللغة والخطاب الأدبي (مقالات لغوية في الأدب) اختارها وترجمها سعيد الغانمي، بيروت، المركز الثقافي العربي 1993،، ص 42

في المثقف اليوم