قراءات نقدية

رحيم الغرباوي: الكتابة الشعرية وطقوسها.. قراءة في شعر الأستاذ طه الزرباطي

إنَّ كلَّ ما في عالمنا قابل للإدراك أو التصور سواء أدركناه بذاته أم بتمظهرات أخرى، إذ إنَّ الحقيقة في طبيعتها الظهور مثلما في طبيعتها الخفاء، فمن متبنيات أدونيس في كتابه الصوفية والسوريالية، أنَّه يرى ما نسميه بالواقع الخارجي أو المادي أو الطبيعي ليس إلا جانباً من الوجود، فما وراء الأشياء إلا جزء آخر من الأشياء، ومثلما يرى سبينوزا الطبيعة هي جوهر واحد وأوحد، يتجلى في نسق لامتناهٍ ذي وجهين: وجه مادي ووجه لامادي (فكري)، ولكنهما وجهان لحقيقة واحدة، فكل عرض مادي ينهض معه عرض فكري، ويبدو أنَّ ذلك هو تمييز بين وجهين أو جانبين للعالم أو الواقع نفسه(1).

و بهذا الوعي يمكننا أنْ ندرس النصوص الشعرية بتمعّن وتدبّر للرؤى التي يمتاحها أصحابها، وبما تحمله من توجهات فكرية وجمالية تشكِّل مادة النص الظاهرة والمغيبة، ولعل الناقد الأدبي بما له من أدوات ومناهج تمكنه من قراءة تلك النصوص   واستحصال مكنوناتها وتفسيرها، وواحد من تلك المناهج التي تتعرض لقراءتها والتي يتبين عن طريقها دوافع الأديب ومكبوتاته اللاواعية هو المنهج النفسي، وهو واحد من المناهج النقدية التي تساعد في فهم العمل الأدبي وتفسيره.

وحين نطرقُ مغاليق شعر الأديب طه الزرباطي، نجد في نصوصه ما يساورنا إلى قراءة رؤاه ولا سيما النفسية ومسبباتها؛ كونها تنبثق من عوالم داخلية ذات مؤثرات خارجية، تتطلَّع إلى مشاهدات عيانية عبر لغة الشعر وتصويره الفني ما يجعلنا سبر أغوار الرؤى الأخرى أيضاً، ومنها الرؤيا الوجودية المعبرة عن حالات الاغتراب، والإحساس بالمرارة، وعبث الوجود، وسر المصير، كذلك نجدها تتجه إلى الواقع بوصفه مناخاً أصيلاً، وتربة عريقة تنبت الآمال والأوهام والضجر والقلق والأمن والاستقرار، ولعلها تتطلَّع أيضا إلى فتح آفاق الوعي العالي صوب ميتافيزيقا الأشياء والوجود والكون والإنسان، ولعل الشاعر في رؤية يونج يَعدُّ الإنسان موجوداً أسمى وإنساناً أرفع؛ لأنَّه يمثل الحياة النفسية للإنسانية(2). ويبدو أن ما يعانيه الزرباطي يعلنه في الكثير من قصائده متوسلاً الإعانة؛ كونه في أحايين يشك من أنَّه لم يصل إلى طقوس الكتابة الشعرية كما ينبغي، فهو من فرط مايريد أنْ يوصل ما عَنَتْ له نفسه لما يحيره، نراه يؤثر محو مايكتب؛ كون آلية القصد عند من لايعيش التجربة الشعورية كاملة، لايمكنه إيصال ما يريد إلى متلقيه، يجعله ذلك بكل تأكيد لايصل إلى المعنى القطعي، وفي ذلك يقول:

ربما أجدُ ما أقولهُ؛

حينَ أمزِّقُ أوراقي كُلها،

قدْ يُشوِّهُ الماءُ ما قالَهُ الحِبرُ،

وقدْ لا تتركُ القبلةُ شاهِدا على الشفتين.

إنَّ هذه الحيرة تمثل قلقاً نفسياً من فرط حرصه على أن يحقق النص الشعري بغيته وهي إرسال رسالته إلى متلقيه حين لا تتحقق التجربة الشعورية في الكتابة كاملةً.

فيتساءل:

لكن كيفَ تُخبئُ جُرحَ روحِكَ؟

كثمرةٍ ناضجةٍ تسقطُ؛

لينالها جائعٌ أرضيٌّ؛

لا يلوحُها جوعُهُ،

فالكتابة حين لاتقاس بمقاييس ما تدخره أعماقنا نجد القلق يجتاحنا، وهذا ما يُنبئنا به الزرباطي، وهو يعيش ذلك الإحساس المتوهج بالانفعالات، ويبدو أنَّ الثمرة الناضجة التي قصدها الشاعر لا يلوحها الجائع، هي الفكرة التي لا يفهمها مَن لم يعش تجربتها، فيعسر عليه فهمها.

أعاليها بعيدَةٌ كـفرحَةٍ ...

كالحلمِ نلجأُ إليهِ في يأسنا،

ونُحققَ ما عجِزْنا عنهُ ...

أعِنّا ياربُّ؛ كي لا نخسرنا؛

فالقيمة العليا التي لايمكن قولها هي كفرحةٍ، وكالحلم نلجأ إليه في يأسنا؛ كي يقلل من سطوته، بل ونحقق ماعجزنا عنه؛ كونه الشفاء الذي يداوي اليائسين والمهمومين، بيد أنَّ الشاعر حتى في نظم الشعر يحتاج العون؛ من أجل إيصال رسالته.

وفي نص آخر نراه يقول:

في سلمِنا،

في حربِنا،

في هروبِنا منّأ،

في عودتِنا إلينا...

ساعِدْنا أنْ نَجِدنا ياربُّ!

لكن ليسَ كما كُنا...

تَساقطُ التماثيلُ البرونزية،

تَتساقطُ أنامِلُ مبدعيها ...

كقصائدِ الحَربِ ...

كقصائدِ الغزل التي تُكتَبُ لِتُباعَ؛

لعاشقٍ آخر لِقاءَ كأسٍ

...

ياربُّ رِفقاً بأحلامِنا الممنوعَةِ...

فاليأس والقنوط كلاهما يُبددا أحلام الشاعر والفنان عندما يعيشا الحلم، فلا يمكن لهما تحقيقه إلا في المتخيل (الميتا واقعي) ما يفقدهما الكثير، أليس التماثيل تتساقط  كما تتساقط الأنامل التي نحتها حين لم يحقق هذا التمثال جدواه، كذلك القصيدة ولاسيما قصائد الحرب، وقصيدة الغزل التي لاتكتب من أجل فضيلة الحبّ، بل لأجل أن تباع كي تُغنى، أو تُكتب للترف أو الاستجداء. ولعلها لعاشق أفلس في عشقه إلا أنَّه يطمع أنْ تكون تلك القصيدة مستساغة في ذاكرة الحبيبة حين لاتحبُّ سوى الزهو بنفسها. وقد أشار إلى رجاء الرب عسى أن يحقق حلمه الميئوس منه.

ويظهر لنا الزرباطي من أنَّه مهووس بالشعر، بيد أنَّه يمتلك وعيًا سايكولوجياً، فهو يحدس ما في البعد الخفي للعالم الإنساني ويستدعي تجليات اللاشعور الجمعي ذلك في قوله:

أخرجُ من نصي،

مُبلَّلاً بالشعر،

مُترنِّماً بالكلمات،

مُتدفِقاً بالحروف،

أحلم أنْ أكونَ شِعراً؛

من أنْ أكونَ شاعِراً،

ليكتُبني الصخرُ،

ويعزفني الشلالُ،

كوردةِ دوارِ الشمسِ،

أبحثُ عن شمسٍ لحلمي.

فالشاعر العاشق للشعر؛ هو من يحمل في ذاته رؤية العالم الإنساني الخفي ويستدعي تجليات اللاشعور الجمعي غير أنَّ ذلك لن يتأتى إلا بالمعاناة والمواجد، في حين يستمد بعض الشعراء القوة من الإحساس بوجود الذات في طبيعة العمل الفني الذي يرجعه النفسانيون إلى الحالات الانفعالية والتجربة اليومية(3). والزرباطي لفرط سكره وهيامه بعوالم الكتابة الشعرية، يرى أنَّه حين يخرج من نصه، يخرج مُبللاً بالشعر مُترنَماً بالكلمات، مُتدفِقا بالحروف، فهو يريد أنْ يكونَ قصيدةً لاشاعراً؛ كي يكتبه كل ما في الطبيعة، يريد أن يذوب بكل شيء فيها (ليكتُبني الصخرُ، ويعزفني الشلالُ، كوردةِ دوارِ الشمسِ،أبحثُ عن شمسٍ لحلمي)؛ إشارة إلى الجمال الإنساني في الشعر، فحين يذوب الشاعر شعراً تتحول الكلمات إلى تفكير جمالي صرف إذ "إنَّ التفكير الجمالي هو أشبه مايكون بحالة نفسية سعيدة" (4). والنص الإبداعي الذي يشير له الشاعر الزرباطي يهب معناه الحقيقي مع التوازن الداخلي للذات التي أبدعته.

وفي قصيدة أخرى يقول:

أنا ذئبي

يُداعِبني ذئبي،

يُغازلُني،

يعانقني،

ويُسمعني غزلا ذئبياً.

فالشاعر يستشعر أنَّ في داخله ذئباً والمقصود شيطان الشعر الذي لايهدأ إلا أن يأتي للشاعر فيخالجه بفكرةٍ وبتفنّن في تشكيلها والذي يقصده هو الإلهام، -وهو واحد من عناصر تكوين النص- في حين كان الشعراء الأوائل يسمونه شيطاناً؛ ماجعل الزرباطي يستعير لفظة الذئب بدلاً من الشيطان، ولايخفى أنَّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وصف الشيطان بالذئب، فقال: (إنَّ الشيطان ذئب الإنسان يأخذ القاصية والشاذة) أما في رؤيتنا الحديثة أنَّ انفعال الشاعر يؤثر تأثيراً كبيراً في شحذ قوة التخيل وإعانته على إقامة تجربته الشعورية، إذ إنَّ العمل الفني يقيم في كل ماهو خيالي.(5). فالإيحاء الشعري (الذئب) ونشوة القول (الغزل – العناق) كلاهما ينتجان وحدة قائمة بذاتها تحققان نصاً شعرياً. وهكذا يقدح لنا الزرباطي شعراً يحدد فيه مسارات القصيدة المرجوة وطقوسها، وما خلفها من عناصر وإرادات تُقوِّمُ إنشاءها؛ لتصل إلى متلقيها مثلما يريد.

نتمنى للشاعر الزرباطي مزيداً من النجاحات في مسريته الأدبية، ومن الله التوفيق.

***

بقلم: د. رحيم عبد علي الغرباوي

.................

المراجع:

(1) ينظر: أدونيس أو الإثم الهيراقليطي، عادل ضاهر: 36- 37

(2) ينظر الرؤيا والتشكيل في الشعر العربي المعاصر، د. سلام الأوسي: 134 وما بعدها.

(3) ينظر الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، د. عبد القادر فيدوح: 9

(4) الصورة واستيحاء، يوسف حسن نوفل: 68

(5) ينظر: الكون الشعري وفضاءات الرؤيا، د. رحيم الغرباوي: 17- 18

 

في المثقف اليوم