قضايا

غالب المسعودي: المرجعية السردية بين الماضي والحاضر

الماضي غالبًا ما يُروى من خلال عدسة الذاكرة، التي قد تكون مشوهة أو مختزلة، الحاضر يسعى لتقديم الحقائق التاريخية بشكل موضوعي، الاسناد الى مرجعية تاريخية من منظور فردي تعكس تجربة المثقف الشخصية التي يمكن ان تكون عميقة وتحمل بعدا معرفيا واضحا، بينما يميل الاسناد الى مرجعيات جماعية تتبني روايات أكثر عمومية لا تعكس التجارب الحقيقية للأفراد والمجتمعات. تطور التكنولوجيا في الحاضر غيرت طبيعة الاسناد الى المرجعيات، اذ يمكن أن تُروى الأحداث بطرق جديدة ومبتكرة، مما يخلق تناقضًا بين الطرق التقليدية للسرد في الماضي والحاضر من ناحية الوسائل والإمكانات المتاحة والتي قد تتعارض مع القيم الحديثة، مما يؤدي إلى تضارب في المرجعيات، بينما يمكن أن تكون التجارب الإنسانية متشابهة عبر الزمن، فإن طريقة التعبير عنها تختلف بشكل كبير بين الماضي والحاضر.

المرجعية السردية عبر الزمن

تتغيير الأنظمة السياسية، مثل الانتقال من الملكية إلى الجمهورية أو من الاستعمار إلى الاستقلال، يؤدي إلى إعادة تشكيل الروايات الأدبية والثقافية لتعكس القيم الجديدة .في فترات القمع السياسي غالبًا ما تتعرض السرديات للرقابة و يتم تقييد التعبيرات الأدبية، مما يدفع الكُتّاب إلى استخدام الرمزية والإيحاء للتعبير عن أفكارهم، ظهور الحركات الوطنية والثورات ساهم في إعادة صياغة الهوية الثقافية، حيث استُخدمت السرديات لتعزيز الانتماء الوطني وإلهام الجماهير، التغيرات السياسية مثل الهجرات والنزاعات، أدت إلى تنوع الثقافات واللغات، مما أثر على السرديات وأدخل عناصر جديدة من التجارب والتقاليد، العولمة السياسية والاقتصادية أدت إلى تبادل الأفكار والثقافات، مما أثر على المرجعيات السردية، حيث أصبح الكُتّاب يمزجون بين المحلي والعالمي، ظهور وسائل الإعلام الحديثة ساهم في تغيير كيفية نقل السرديات، حيث أصبحت الروايات تُنقل عبر منصات جديدة، مما أثر على أسلوب وموضوعات السرد، بذلك تشكلت المرجعية السردية من خلال التفاعل المستمر مع التغيرات السياسية، مما أعطى الأدب والثقافة طابعًا ديناميكيًا يعكس التحديات والإنجازات عبر الزمن.

الهجرات الإثنية والقبلية والمرجعية السردية

الهجرات أدت إلى تداخل ثقافات ولغات جديدة، مما أثرى السرديات وأدخل عناصر جديدة من التجارب والتقاليد المختلفة، انتقال القبائل والمجموعات الإثنية ساهم في إعادة تعريف الهوية الثقافية، حيث برزت سرديات جديدة تعكس تجارب الهجرة والتكيف، تفاعل الثقافات المختلفة أدت إلى تبادل الأساطير والحكايات، مما أثرى الأدب المحلي وأدخل موضوعات جديدة مثل الغربة والإنتماء، النزاعات المرتبطة بالهجرات، مثل الصراعات الطائفية أو القومية، أدت إلى إنتاج سرديات تعكس المعاناة والمقاومة، مما ساهم في تشكيل الوعي الجمعي، الهجرات أسهمت في تطوير لغات أدبية جديدة، حيث تم دمج أساليب وألفاظ من ثقافات متعددة، مما أثر على أسلوب الكتابة، الهجرات غالبًا ما كانت مرتبطة بأحداث تاريخية معينة، مما أدى إلى إنتاج سرديات تاريخية تُعبر عن التجارب المشتركة والمعاناة، نتيجة لذلك تشكلت مرجعيات سردية غنية ومعقدة تعكس التعددية الثقافية والتاريخية في الشرق الأوسط، مما أضاف عمقًا إلى الأدب والفنون.

التاثير اللغوي على اللهجات المحلية

الهجرات أدت إلى تفاعل لغوي بين المجموعات المختلفة، مما ساهم في إدخال مفردات جديدة وتعبيرات محلية من لغات متعددة، تأثرت أنماط النطق بسبب الاختلاط بين القبائل والمجتمعات، مما أدى إلى ظهور لهجات جديدة تحمل سمات لغوية متنوعة، تم تبني مصطلحات جديدة من الثقافات المختلفة مما أثرى المفردات المحلية وجعلها تعكس التجارب والتقاليد المتنوعة، الهجرات المرتبطة بالعمل أو النزاعات أثرت على اللهجات، حيث استخدمت لهجات معينة في سياقات اجتماعية محددة، مما ساهم في تشكيل الهوية اللغوية، بعض اللهجات القديمة اندمجت مع اللهجات الجديدة، مما أدى إلى تطوير لهجات مختلطة تعكس تاريخ الهجرات والتفاعل الثقافي، اللهجات أصبحت رمزًا للهوية والانتماء، حيث استخدم الأفراد لهجاتهم للتعبير عن ثقافتهم وتراثهم، مما ساهم في الحفاظ عليها، في المجمل أضافت الهجرات الإثنية والقبلية عمقًا وتعقيدًا للهجات المحلية، مما جعلها تعكس التنوع الثقافي والتاريخي للمنطقة، على الرغم من أن المرجعية التاريخية تُعد عنصرًا مهمًا في تشكيل السرد، إلا أن لها حدودًا تتعلق بالتقيمات الشخصية، التحاملات، والسياقات الزمنية والاجتماعية.

المرجعية السردية المعاصرة

المرجعية السردية في الوقت الحالي تعتمد على مزيج من السرد التاريخي القديم وإنجازات الغرب من ناحية التقدم المعرفي، العديد من الكتّاب يستندون إلى السرد التاريخي القديم كمرجع لفهم الهوية الثقافية والتراث، مما يعكس أهمية التاريخ في تشكيل الحاضر، التأثيرات الغربية سواء من خلال الفلسفة، العلوم، أو الأدب، أدت إلى دمج مفاهيم جديدة في السرد، مما ساهم في تحديث المرجعيات السردية، تشهد السرديات المعاصرة تداخلًا بين الأصوات القديمة والحديثة، مما يعكس تنوع التجارب ووجهات النظر، هناك اهتمام متزايد بتحليل السرديات القديمة من منظور نقدي، مما أتاح إعادة تقييمها في ضوء التقدم المعرفي الحديث، السرديات المعاصرة غالبًا ما تسعى إلى تحقيق توازن بين الحفاظ على التراث والتكيف مع التغيرات العالمية، مما يعكس الصراع بين التقليد والحداثة، بالرغم من ذلك يمكن ملاحظة أن العديد من الكتابات الثقافية المعاصرة من الشرق الأوسط تعتمد بشكل كبير على الاستشهادات المعرفية من السرد الغربي القديم والمعاصر.

موقع السرديات الشرق اوسطية

يمكن القول إن السرديات الشرق أوسطية حاليا قد حيدت أو في موقع ثانوي مقارنة بالسرديات الغربية، ساهم في تنحيها كمرجعيات سردية أساسية للمثقف الشرق أوسطي عندما تم النظر إلى السرديات الشرق أوسطية على أنها غير منتجة من وجهة نظر المؤسسات الثقافية الرسمية والاجتماعية بسبب تغول التطرف الديني و الأيديولوجي مما عمق تأثير نظام التفاهة لذا ولجوء المثقفين الاستعراضيين إلى الاسناد من خلال السرديات الغربية وجعلها مرجعيات أساسية، مما سبب ضعف الإنتاج الأدبي والفكري الحالي في المنطقة، كما ساهم في ذلك شعور المثقفين بأنهم بحاجة إلى الاستعانة بمصادر خارجية لتعزيز أفكارهم، كذلك ساهمت العولمة في تعزيز مكانة السرديات الغربية كمرجعيات، مما أدى إلى تهميش السرديات المحلية، لكن الذي يعكس قلقًا بشأن قيمة السرديات المحلية هو البحث عن شرعية أكاديمية أو فكرية ما يدفع المثقفين لاستخدام السرديات الغربية ويقود الى اهمال السرديات المحلية، رغم ان هناك توجها نحو إعادة تقييم السرديات الشرق أوسطية، مما يُسهم في تعزيز مكانتها كمرجعيات ثقافية، بالتالي يمكن القول إن الفجوة بين الإنتاج الثقافي المحلي والسرديات الغربية قد أتسعت وساهمت في تهميش السرديات الشرق أوسطية، مما اثر على الهوية الثقافية في المنطقة.

التحديات الاستراتيجية

يواجه تطبيق استراتيجيات تعزيز الإنتاج الثقافي في الشرق الأوسط عدة تحديات رئيسية منها القيود المفروضة على حرية التعبير تحد من الإبداع وتؤثر على محتوى الإنتاج الثقافي، النقص الحاد في المرافق الثقافية مثل المكتبات والمراكز الثقافية يعوق التواصل والمشاركة، ضعف الوعي بأهمية الثقافة والفنون بين اغلب شرائح المجتمع يمكن أن يقلل من الدعم والمشاركة، المناهج التعليمية التقليدية التي تركز على المعرفة النظرية دون التشجيع على الإبداع تعوق تطوير مهارات الإنتاج الثقافي، هيمنة السرديات الثقافية الغربية على السلوك المجتمعي دون وعي كارثة التجهيل يمكن أن تجعل السرديات المحلية تبدو أقل قيمة أو جاذبية، ، نقص المنصات التي تدعم نشر الأعمال الثقافية والفنية يمكن أن يحد من وصولها إلى الجمهور، بينما توفر التكنولوجيا فرصًا، إلا أنها قد تخلق أيضًا تحديات مثل تراجع الاهتمام بالثقافة التقليدية، التغيرات الاجتماعية والاقتصادية تؤثر على أولويات الأفراد وتوجهاتهم نحو الثقافة والفنون، معالجة هذه التحديات تتطلب تنسيق الجهود بين المؤسسات الثقافية لتعزيز بيئة ثقافية إيجابية وداعمة للسرديات المحلية .

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

في المثقف اليوم