قضايا

رمضان بن رمضان: من دولة القانون إلى مجتمع القانون

ومن "القضاء سلطة" إلى "القضاء وظيفة"

 في التدمير الممنهج للدولة

***

تتعدد قراءات الدستور بآعتباره نصا قد قد من مبادىء تتأسس عليها نصوص قانونية تنزل تلك المبادىء في الواقع. الدستور التونسي للجمهورية الثانية نص ساهمت في تشكله قوى سياسية وفكرية عديدة وكان للمجتمع المدني مساهمته الهامة في ذالك، كما كانت للتجارب المقارنة حضور لافت بغرض الإستئناس بها. هو نص متجذر في بيئته ومنفتح على الكوني والإنساني. وهو مفرد بصيغة الجمع، فقد حازت الموافقة عليه بأكثرية تقارب الإجماع.

1 – في مقاربة الرئيس لفصول الدستور:

يعتمد الرئيس مقاربة خاصة في قراءة فصول الدستور ولاسيما تلك الفصول المتعلقة بالسلطات المختلفة، واضحة المعالم والقائمة على أن إستقلالية كل سلطة عن الأخرى وعدم تبعيتها لأية سلطة. فحتى تلك التي أسست برأسين- السلطة التنفيذية – ممثلة في رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، فقد ضبط الدستور طبيعة العلاقة بينهما القائمة على التكامل والتنسيق بغرض بلوغ أقصى درجات النجاعة والمردودية، ولئن أثبتت الممارسة السياسية على إمتداد العشرية الماضية وجود إخلالات من خلال الحكومات المتعاقبة ترجمتها أزمات سياسية أضرت كثيرا بالعمل الحكومي ووترت العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية، توجب تبعا لذلك مراجعة بعض الفصول الدستورية المتصلة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية عبر الآليات التي يتيحها الدستور. تبدو مقاربة الرئيس معتمدة على نفي إستقلالية كل سلطة عن الأخرى وهو مبدأ الفصل بين السلط الذي يضيق الرئيس به ذرعا وهو مبدأ أصبح من بديهيات الأنظمة الجمهورية و الأنظمة الملكية الدستورية، فحتى الأنظمة الشمولية تحافظ على الفصل بين السلط تمويها وإيهاما بطبيعتها الجمهورية، مقاربة الرئيس محكومة بخلفية فكرية قائمة على تجميع السلط في شخص واحد يختزلها حد التقمص فهو الوحيد المجسد لها، إنه " الإمام " الذي جاءت به الأقدار ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وفسادا، ذاك ما يتردد على ألسنة مريديه – المفسرين لرؤيته – تلك الرؤية الكونية التي تقدم " مشروعا " إصلاحيا عابرا للدول والقارات. إن تنزيل هذا المشروع في الواقع يقتضي من صاحبه تجميع السلط جميعها في شخص واحد وذلك بآعتماد سياسة المراحل وإطلاق الصواريخ من على منصاتها نحو الأهداف المراد ضربها لخدمة المشروع.. تأتي قرارات 25 جويلية لتستولي على لحظة تاريخية فيها إمتعاض شعبي من وضع سياسي مترد يبعث على الإشمئزاز ومثير للقرف.

2 – من مفهوم "دولة القانون" إلى مفهوم "مجتمع القانون"

يقوم التفسير الباطني للنصوص على إصطناع نوع من المماثلة بين معنيين لا تربط بينهما أية علاقة حقيقية، لا علاقة لغوية ولا علاقة عقلية في إيجاد العلة الأصولية المشتركة المنضبطة أو الإستدلال والشاهد على الغائب أو بالحد الأوسط الذي يجمع بين مقدمتي القضية المنطقية . (آنظر، السيد محمد علي إبازي، المفسرون حياتهم ومنهجهم، الجزء الأول، ص 86) تمضي القراءة الباطنية للنصوص، مهما كانت نوعيتها، في تجاهل لغة النص والعلاقة المنطقية بين النص والمعنى المستنبط منه وإعتمدت قراءة قيس سعيد للدستور على المخاتلة وعلى التوسع فيما يمنحه له الدستور من صلاحيات، فالفصل الثمانون الذي إستند إليه ليدخلنا في الحالة الإستثنائية وقع التعسف في فهمه إلى درجة أن ما ترتب عليه لا علاقة له بمنطوق الفصل. فحالة الخطر الداهم التي إتخذت ذريعة لحل الحكومة وتجميد عمل البرلمان، إنما تخالف ما ذهب إليه واضعوا الدستور من مقاصد تهدف إلى إستنفار كل مؤسسات الدولة للتصدي للخطر الداهم لذلك دعا الفصل إلى ضرورة إستمرار الحكومة في عملها دون أن تكون عرضة للائحة لوم تسقطها وكذلك الشأن بالنسبة للبرلمان الذي يظل في حالة إنعقاد دائم إلى غاية زوال الخطر الداهم. إن القراءة الممططة للفصل الثمانين من الدستور كانت محكومة بخلفية جعلت منها تعلة للمضي قدما في ترسيخ مشروع الرئيس الذي يظل تحقيقه رهين الإستحواذ على السلطتين التشريعية والتنفيذية في مرحلة أولى والتي تلتها مرحلة تدجين القضاء بالعمل على ترذيل القضاة ثم حل المجلس الأعلى للقضاء وهو مؤسسة دستورية لا تشكل خطرا داهما وتعويضه بمجلس معين خاضع للسلطة التنفيذية يأتمر بأوامرها. إن تواتر إستعمال رئيس الجمهورية لمفهوم " مجتمع القانون " بدل " دولة القانون " وفي الغالب كان يجمع بينهما ليفضل الأول على الثاني في مسعى لنسف النظام السياسي القائم فمفهوم " دولة القانون " يحيل إلى السلطة المنبثقة عن دستور الثورة، دستور 2014 . لذلك يعمد الرئيس إلى تغييبه بآعتبار إحالته على منظومات الحكم التي أفرزتها الإنتخابات الرئاسية التشريعية المتعاقبة منذ الثورة. واضح أن كل عملية تأسيس جديدة تعمل على تغيير المفاهيم – المفاتيح التي إنبنت عليها الدولة ومؤسساتها. وهو ما يفسر حرص الرئيس على إستبدال مفهوم " دولة القانون " بمفهوم " مجتمع القانون "، هذا المفهوم الهلامي الذي لا نجد له أثرا في الأدبيات المتصلة بالدولة وبتاريخها السياسي، كثيرا ما يتم الحديث عن العلاقة بين القانون والمجتمع ضمن سياق تأثر الأول بالثاني، فالقوانين تعتبر من أهم الوسائل التي يمكن من خلالها مكافحة الفوضى والحد منها في أي مجتمع كان، والقوانين أساسا لا تأتي من فراغ وإنما من خلال ما يحكم المجتمع من عادات وتقاليد وثقافة وتعاليم دينية وما بلغته المنظومة الكونية لحقوق الإنسان من تشريعات ونصوص قانونية . فكل هذه الأمور تسهم في إثراء القوانين وفي جعلها أقرب إلى الأفراد الذين تتشكل منهم المجتمعات فهم بذلك يصيرون أكثر تقبلا وإستجابة لها . (موقع mawdoo3.com، محمد مروان، القانون والمجتمع، نشر بتاريخ 10 أوت 2016 ) إن مفهوم " مجتمع القانون " الذي يتردد بآستمرار على لسان السيد رئيس الجمهورية يندرج في سياق العمل على تغيير ترسانة من القوانين بقوانين تستجيب لحالة " الشعب يريد " جوهر الشعبوية وتتناغم مع مشروع النظام السياسي المنشود والمزمع بعثه. يذكرني المصطلح بكتاب بيار كلاستار Pierre Clasters، " المجتمع ضد الدولة " "La société contre l' État وهو بحث يقع في مجال الأنتروبولوجيا السياسية، قائم على رصد قدرة مجتمعات القبائل الهندية – الأمريكية في منع السياسة من تشكيل نفسها كسلطة قوية. لكأن الرئيس يبحث عن المسوغات التي تعطل منظومة الحكم المنبثقة عن دستور الثورة وعن الإنتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة. ليدخلنا في حالة الإعتباط التي تسبق ولادة نظام سياسي جديد،فمفهوم " مجتمع القانون " هو أحد المداخل لنسف المنجز الثوري تمهيدا لإحلال البديل المجالسي والنظام القاعدي . تتقمص السلطة القائمة بعد الخامس والعشرين من جويلية مطالب " الشعب يريد " وتعمل على تجسيدها عبر المراسيم المتوقع إصدارها بغرض تغيير الواقع وخلق واقع جديد وذاك وهم كبير تقع فيه سلطة الإنقلاب .

3 – من" القضاء سلطة "إلى "القضاء وظيفة".. الإنتكاسة

كثيرا ما يتردد على لسان السيد رئيس الجمهورية أن القضاء وظيفة وليس سلطة، فالسلطة ينبغي أن تكون مجسدة في شخص واحد يختزلها حد التقمص. هذه الآراء تعد أفكارا رجعية ضحت الإنسانية بأثمان باهظة لتتجاوزها في سبيل جعل القضاء سلطة مستقلة، ضمن تصور حداثي للأنظمة السياسية يقوم على الفصل بين السلط ويعد توزيع السلط الشكل الأرقى الذي بلغته الإنسانية في مجال ممارسة الحكم . ثم إن السيد رئيس الجمهورية إستشهد بكتاب أبي علي إبن مسكويه (ت 421 ه / 1030 م ) " ماهية العدل " في محاولة منه لتأصيل ما يدعيه من أن القضاء وظيفة وليس سلطة. يؤكد الكتاب على أن العدالة لها حضور قوي في فلسفة إبن مسكويه الأخلاقية وهي ثمرة العمل الفاضل وعلته بل هي أم الفضائل، إنها بمثابة العصب الذي تخترقه فلسفته الأخلاقية ويوحد كل مباحثها. لقد أثبتت نظريته أن تفكيرنا اليوم كعرب وكمسلمين في العدل كأحد حقوق الإنسان لم يكن شيئا طارئا علينا أو مجرد موضة فكرية معاصرة أملاها الغرب علينا بل إنه تفكير له إمتداداته في التراث الفلسفي العربي والإسلامي. ( آنظر محمد بنحماني، " نظرية العدالة عند إبن مسكويه " موقع مؤمنون بلا حدود، بتاريخ 12 أفريل 2017 ) إن إستشهاد رئيس الجمهورية بإبن مسكويه وبكتابه " ماهية العدل " لا يعني أبدا أن القضاء وظيفة، بل إن تراثنا العربى الإسلامي حافل بالمرويات والآثار التي تثبت أن القضاة المعينين من قبل الخلفاء والأمراء كانوا يتهيبون هذا المنصب وإن قبلوا به فعلى مضض، لا خشية ممن أسند إليهم تلك المناصب/ الوظائف وإنما خوفا من الله ومن أن يظلموا أو يبخسوا الناس حقوقهم فهم يخضعون لأحكام الله ولضمائرهم فقط . كان القضاة بسلوكهم ذاك وبآلتزامهم مبادىء العدالة، في تلك الفترة يضعون اللبنات الأولى لآستقلال القضاء عن الولاة والخلفاء- أي عن السلطة التنفيذية-،و في سعيهم لتكريس تلك الإستقلالية والحفاظ عليها،  كانوا يتوجسون من كل تدخل أثناء أدائهم لمهامهم مهما كان مأتاه، فكم من قاض إستقال حين مورست عليه صنوف من الضغوط أو حين أدرك وجود إخلالات في إجراءات التقاضي. لقد كان مبدأ التساوي بين المتقاضين من أهم دعائم القضاء العادل والناجز فكم من قاض إستدعى إلى مجلسه خليفة أو أميرا أو وزيرا أو واليا في قضية من القضايا كان أحد ذوي الهيئات طرفا فيها. لنتذكر قصة الإمام علي إبن أبي طالب كرم الله وجهه مع اليهودي وقضية الدرع وكيف نظر القاضي شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي،(ت 78 ه / 697 م ) في المسألة التي إدعى فيها الإمام علي أن الدرع التي عند اليهودي هي درعه دون أن يقدم بينة على ما إدعاه فما كان من القاضي إلا أن يأمر اليهودي بأن يقسم أن الدرع درعه . ف"البينة على من إدعى واليمين على من أنكر" . وبذلك حكم القاضي شريح أن الدرع تعود ملكيتها لليهودي، فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه أشهد أن هذا لحق. وأعلن إسلامه. )آنظر د. نصر فريد محمد واصل، السلطة القضائية ونظام القضاء في الإسلام، المكتبة التوفيقية، مصر 2008، 308 ص .) إن إعتبار القضاء وظيفة، حسب تصور الرئيس، يعني أن القاضي مرؤوس خاضع في أحكامه التي يصدرها لأوامر من هو أعلى منه في المناصب الوظيفية وخاصة أوامر وزير العدل وأوامر رئيس الوزراء وأوامر رئيس الجمهورية ( آنظر المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المؤرخ في 12 فيفري 2022 والمتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء ولاسيما الفصول 15 و16 و19 و20 والتي تكرس تدخل السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير العدل في شؤون القضاء والقضاة ) و تلك هي عين الدكتاتورية والطغيان وأكبر باب للفساد، فإذا صار القضاء بمثل هذه الحالة فإن دخول أمثال هؤلاء القضاة إلى المحاكم، يجعل العدالة فعلا تخرج من النوافذ.

إن الفعل التراكمي للمنجز المعرفي في مجال العلوم السياسية يفضي بنا إلى إستقرار المفاهيم التي حددت ملامح الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة أساسا على دولة القانون وعلى الفصل بين السلط وكل محاولة للتلاعب بهما هو من قبيل العبث المفضي إلى تدمير الدولة. إن المفاهيم ذات الصلة بالدولة الحديثة تحمل في بصماتها تاريخا للشعوب التي خاضت نضالات حقوقية في سبيل البحث عن أداء ناجع لدولة القانون والمؤسسات التي تحترم حقوق الإنسان وتضمن الحريات المختلفة والمساواة التامة بين أفراد المجتمع. إن ما يروج من مفاهيم، من قبيل " مجتمع القانون " و" القضاء وظيفة " إنما هو نكوص وردة خطير عن مكتسبات دفعت الإنسانية في سبيلها أثمانا باهظة، هو نوع من المغالطة التاريخية un anachronisme التي ترمي بالمجتمع في أتون مشاريع سياسية هلامية عفا عنها الزمن تكرس الإستبداد والرأي الواحد وتحتكر السلطة.

***

بقلم: رمضان بن رمضان

 

في المثقف اليوم