أقلام فكرية

آية مصدق: لودفيغ فتجنشتاين وفلسفة اللغة

إن أهم سمة ميّزت القرن العشرين عن سواه من العصور الفلسفية المنصرمة، هو أنه عصر تحليل بامتياز، اهتمّ دعاته بالمنهج الدقيق، وعرض القضايا الكبرى تحت مجهر التحليل. ومن بين هذه القضايا، قضية اللغة التي انشغل بها النمساوي لودفيغ فتجنشتاين في أول حياته وآخرها.

1- رسالة منطقية فلسفية ثتائية اللغة والعالم:

شغل فتجنشتاين كرسي الفلسفة أمدًا طويلًا في جامعة كمبردج. ولو ألقينا نظرة على المجهود الفلسفي الذي اضطلع به فيلسوفنا في كتابه الأول «رسالة منطقية فلسفية» أو تراكتاتوس، سنجد أن الفكرة الأهم تتمثل في الصلة التي تربط اللغة بالعالم. ولا يمكن سبر أغوار هذه العلاقة إلا بتحليل العالم واللغة. فأما العالم، بحسب لودفيغ فتجنشتاين، فيتكوّن من مجموعة من الوقائع، هي حالات واقعية متحققة. وهذه الوقائع ذرّية، لا تقبل التفتت إلى وقائع أخرى، فهي تمثل الجوهر.

وتتكوّن الوقائع من أشياء بسيطة وروابط. وبهذا المعنى، فإن العالم حسب فتجنشتاين ذو بنية منطقية. أما بالنسبة للغة، فهي أيضًا ذات بنية منطقية، وهي - إن صحّ القول - مرآة تعكس العالم ومجموع الوقائع داخله. وبالتالي فإن اللغة عملية تصوير وتمثيل للواقع، وهي مجموع من القضايا التي تقابل الوقائع في العالم.

فعندما يقول أحدهم: «الكتاب فوق الطاولة»، فهذه واقعة لا يمكن فهمها إلا من خلال اللغة. فعند سماعنا لهذه الجملة يتشكّل في ذهننا صورة الطاولة والكتاب اللذين لهما تمثُّل واقعي سلفًا. وإذا ما عبّرت اللغة عن واقعة خارجية كما هي في الواقع، تكون القضية صادقة. فالكتاب فوق الطاولة هو حقًّا يوجد كتاب فوق الطاولة. كما يمكن أن تكون القضية كاذبة في حال عدم وجودها واقعيًّا. إلا أننا لا يمكن أن نحكم عليها بالخطأ؛ فجملة «الكتاب فوق الطاولة» سليمة تركيبًا إلى جانب واقعيتها وإمكان حدوثها أو حدوثها فعليًّا

وبالتالي فإن كل قضية لا تعبّر عن الواقع هي مفرغة من المعنى ومجرّد هراء، مثل القضايا الميتافيزيقية التي ليس لها تمثُّل في الواقع، فهي بالتالي خارج حدود العالم، أي خارج حدود الفكر واللغة، إذ هي مجرد قضايا بلا معنى. لذلك يجب البحث عن كل ما يستوعبه العالم واللغة، وما لا نعرفه يجب أن نصمت إزاءه.

وبما أن اللغة والفكر والعالم، كلها متماثلة، فأي محاولة لأن نقول بالمنطق (أي باللغة) «إن العالم فيه هذا وهذا، ولكن ليس فيه ذاك» محكوم عليها بالفشل، لأن هذا سيعني أن المنطق قد خرج عن حدود العالم، أي عن ذاته. ومن هنا يمكن أن نستنتج مع فتجنشتاين أن المعضلات الفلسفية هي معضلات لغوية بالأساس، ناتجة عن سوء استخدام اللغة.

كما ينبغي الإشارة إلى أن فتجنشتاين حاول في كتاب «الرسالة» إرساء قواعد اللغة المثالية الصارمة والمضبوطة وفق قواعد منطقية، من أجل أن تصوّر وتصف العالم الذي يتكوّن هو الآخر من بنية منطقية. ومن هنا تنشأ النظرية التصويرية لدى فتجنشتاين، التي وقع مناقضتها والثورة عليها، ليس من الفلاسفة المخالفين لفتجنشتاين، بل من فتجنشتاين نفسه.

2- تحقيقات فلسفية ثورة فتنجنشتاين على نفسه:

ففي كتابه «تحقيقات فلسفية»، والذي نُشر بعد وفاته، انقلب الفيلسوف النمساوي على أفكاره في «الرسالة» انقلابًا جذريًّا، بعد أن كان يظن أنه حلّ جميع مشكلات الفلسفة. لكن فتجنشتاين اللاحق أو المتأخر، قدّم لنا في «تحقيقات فلسفية» نظرية جديدة عن المعنى، هي نقيض النظرية المنطقية الذرية في «الرسالة»، وهي نظرية تبحث عن المعنى في استعماله.

صحيح أن فتجنشتاين قد ظلّ على رأيه في الاهتمام بدراسة اللغة في صلتها بالعالم، إلا أنه عدل عن رأيه السابق في أن مهمة اللغة هي وصف الوقائع، كما تخلّى عن رغبته في إرساء لغة مثالية. وصبّ جلّ اهتمامه في اللغة العادية التي تحقق التواصل بين مستخدميها.

«فليس لأي لفظ معنى إلا في مجرى الحياة.» بهذا القول نفهم من فتجنشتاين أن أي لفظ لا يمكن استخدامه في الحياة الواقعية، أي في سياقه، فهو لفظ بلا معنى. فمعنى أي كلمة هو طريقة استعمالها. ويمكن أن نستدل بمثال أورده فتجنشتاين في كتابه، وهو صورة البط والأرنب، وتتمثل في خدعة بصرية إذ تحتوي الصورة على رأس لأرنب أو بط. ولا يمكن أن نفهم ما إذا كان بطًّا أو أرنبًا إلا بوضع الصورة بين صور البط، وهو الحال نفسه بالنسبة للأرنب. فلا يمكن أن ترى أعيننا الحيوان بوضوح إلا عند وضعه بين بني جنسه. وهو الحال نفسه بالنسبة للفظ؛ فإن وقع اجتثاثه من سياقه يصبح فارغًا من المعنى.

ومن هنا تجاوز الفيلسوف علاقة اللغة بالعالم إلى علاقة اللغة بمستخدميها. فاللغة مجموعة من الأنشطة الاجتماعية غير محددة، وهي أيضًا مجموعة من الألعاب اللغوية. ونعني بمصطلح «ألعاب اللغة» أي اللغة في سياقها، أي الاستخدام الفعلي للغة. وبالتالي، فإن اللغة هي مجرد لعبة بيننا نتبادل فيها أحاسيسنا ومشاعرنا، إلا أنها تظلّ عاجزة عن إيصال هذه المشاعر والتجارب الخاصة إلى الآخر كما هي، بل تكتفي بالتعبير عنها لا وصفها.

ولبيان ذلك قدّم فتجنشتاين تجربة الخنفساء، فيقول:

«لنفترض أن كل شخص لديه صندوق به شيء فيه: نسميه “خنفساء”. لا يمكن لأحد أن ينظر إلى صندوق أي شخص آخر، والجميع يقول إنه يعرف ما هي الخنفساء فقط من خلال النظر إلى خنفسائه. هنا سيكون من الممكن جدًّا أن يكون لدى الجميع شيء مختلف في صندوقه. الشيء الموجود في العلبة ليس له مكان في لعبة اللغة على الإطلاق.»

الصندوق هو عقلنا، والخنفساء هي تجاربنا الشخصية كالإحساس بالسعادة والألم. كل شخص يعرف ما يوجد في صندوقه، لكن لا يعلم شيئًا عن صندوق الآخر. فلو طلبنا من أحد أن يصف لنا شعور الألم، سيصف كل شخص حسب تجربته الخاصة. وهكذا سنجد أكثر من تعريف للألم. ولكن مهما حاول شخص أن يصف هذا الألم، لن يستطيع أن ينقله كما هو. ولا حاجة لنقله كما هو، حسب فتجنشتاين، لأن هذا لا يدخل في لعبة اللغة على الإطلاق. فمهمة اللغة هي التعبير لا النقل.

اللغة ليست ماهية واحدة، بل هي ممارسة لغوية وأنشطة لغوية، وكل نشاط له منطق خاص به. ودعا فتجنشتاين الفلاسفة إلى الاهتمام باللغة العادية وترك إقامة اللغة المثالية، فالمشكلات الفلسفية ناتجة عن مشكلات استخدام اللغة العادية.

حسبنا في النهاية أن نشير إلى أن الفيلسوف النمساوي قد انتهى إلى تحطيم الإطار الضيّق للفلسفة التحليلية الذي وضع مور وراسل دعائمها.

في النهاية، يمكننا القول إن فتجنشتاين أغفل مهمة الفلسفة الأصلية، وهي الاهتمام بالمسائل الكبرى التي تشغل الإنسان، ووقف عند بعض التحليلات اللغوية وألعاب اللغة، مما ضيّق النظرة الفلسفية. ويمكن القول إن فتجنشتاين قد ساهم، بوعي أو من دون وعي، في انتشار اللافلسفة في الفكر الغربي المعاصر.

***

آية مصدق - تونس

في المثقف اليوم