قضايا
رحيم الساعدي: الذاكرة والشيطان

(مقالات حول مفاهيم) الوجود القرآني
لم يكن دافع هذه المقالات وجودها في شهر رمضان الكريم فحسب. بل هي تمتد الى سنوات عديدة مضت كتبت خلالها. مجموعة افكار منها (الاحاسيس في القران الكريم. المستقبل في القران. هوامش السرد الفكري في القران. بين منطق ارسطو ومنطق العالم الاخر. المنهج في القران. مفهوم الشيء في القران. الحداثة القرانية المطلقة. الحضارة الشيطانية. الموجات الحضارية السالبة. وافكار اخرى اعتز بها.
وعند الحديث عن الذاكرة والشيطان فلانهما مفهومان قرآنيان ارتبطا بالفكر والمعرفة والنفس والاجتماع والميتافيزيقا على حد سواء.
وما من شك ان النسيان وهو الالية التي تنزلق من نافذة غرفة الذاكرة. يمثل احد اهم اعداء التوحيد. والذي يمكن اعتباره (التوحيد) نوع من انواع المعرفة لانه يرتبط بالاستدلال والتعقل. لاكتشاف وجود اخر. تذكره النصوص الدينية.
ولو استعنا باراء فلاسفة الاسلام. سوف نرى بان الفارابي يستعرض عملية المعرفة من خلال الحواس ظاهرة وهي الخمسة ثم الحواس الباطنة وتتألف الحواس الباطنة من الحس المشترك والخيال أو المخيلة والذاكرة والوهم. وهي قوة عديدة تكون في النفس.
و تساعدنا الذاكرة باستدعاء الصور او المواقف التي يجمعها الإنسان من الطبيعة للاستفادة منها.
وما حدث من خلال تاريخ البشرية نفهم بأن النسيان وهو عطب يصيب الذاكرة، لعدد من الاسباب منها الداخلي والخارجي. فالخارجي هو عملية تغيير الوقائع من خلال البث او الالهاء. او مشاكل اقتصادية. واجتماعية او عمال الوسوسة الشيطانية وهي ترتبط بالوجود الانساني اما العامل الداخلي. فلربما ارتبط بالضعف العقلي او ضعف البدن. او المشاكل النفسية او ضغط العمل او الوراثة والنسيان هو الصورة المقلقة الاشد ضررا للإنسان وتاريخ الإنسانية.
ان منهجية الشيطان هو ان يُنسي الإنسان العديد من التفاصيل المهمة او الاستراتجية في حياته. فالشيطان يسعى إلى جعل الإنسان ينسى ذكر الله والتزام أوامره. وهذا ما يرد في النص القراني (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ (سورة المجادلة: 19). حتى ان اول لحظات شروع البشرية وآلامها. ارتبط بالنسيان (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ (سورة طه: 115). هنا يُشير القرآن إلى أن آدم عليه السلام نسي العهد بسبب وسوسة الشيطان. وفي نص قراني اخر (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة الأنعام: 68). او قوله تعالى (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ (سورة المجادلة: 19) وفي سورة يوسف قال تعالى (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (سورة يوسف).
ولا ريب ان مرجعية هذا النسيان تكمن في جانب اداري في وجود الانسان فهو يبتعد عن تفاصيل الله ومنهجه. ليعمل (اداريا) بمنهجية اخرى للسهولة او للمنافع العاجلة او للراحة النفسية او للذة وقد وصف القران الكريم. كل تلك العملية بقوله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ (سورة الزخرف: 36)، وهذه مسالة اشبه بالادارية. فترك الخروج الى الشمس والانكماش بغرفة معتمة سيقود كل الانسجة والاعضاء الى التعود على الظلام. والادمان عليه.
ولا يمكن الاستهانة بالقدرة الكبيرة للشيطان على انتاج الشذوذ مع ان كيده يوصف بالضعف. فهو يدير العوالم المتعددة. ولسنوات عديدة. ويعتمد الية اشبه بالتنويم المغناطيسي بمعادلة (قادت الى تبني الغضب او تقديم الالهاء او الشهوة او الرغبة والذي ينسجم مع رغبة الاخر بشكل كبير. والى قراءة لقوة ومقياس وحجم الرفض لدى الاخرين. وفهم التحدي والاستجابة. ولذلك فقد نجح باغواء العديد من الناس وفق ضعف الذاكرة. لكنه فشل مع الانبياء سيما ابراهيم واسماعيل ومريم وايوب وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه.
ان الآيات القرآنية توضح أن الشيطان يعمل على إغواء الإنسان من خلال الوسوسة واستغلال أفكاره وذكرياته. الذاكرة هنا ليست مذكورة بشكل صريح، لكنها تظهر ضمن السياقات التي تتحدث عن الوسوسة، والتوبة، والشهوات، والغفلة. يمكن تفسير هذه الآيات على أنها تحذر من كيفية استغلال الشيطان للذاكرة الإنسانية لإبعاد الإنسان عن طريق الحق. ان الآيات التي تشير إلى علاقة الذاكرة بالشيطان تشمل آيات الوسوسة (سورة الناس، سورة طه)، التوبة (سورة آل عمران)، الغفلة (سورة الأعراف)، واستغلال الشهوات (سورة يوسف).
ومن دون شك فان الشيطان يستغل غفلة الإنسان وضعف ذاكرته الروحية كما تصورها سورة الأعراف (7: 201) بقوله تعالى (الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ"
ومن اجمل المكاشفات هي تلك الحوارية التي تكشفها سورة إبراهيم (14: 22). بتنصل الشيطان من التزاماته. فالشيطان يذكر الناس بما فعلوه بناءً على وسوسته، مما يعكس فكرة أنه كان يستغل ذكرياتهم وأفكارهم لإغوائهم.
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
ولان القرآن هو المادة المقررة او المنهج الذي رسم للمسلمين. سيكون من الطبيعي أن يسلط الشيطان أدوات على تبديد أو حرف ذلك المنهج كما فعل في الكتب السابقة. الا إن ذلك الكتاب الحيوي و الجوهري في تاريخ الإنسانية موسوم بالحفظ كما في قوله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر: 9).
واظن بأن من أهم جوانب الوعي. واتضاح الذاكرة. هو تلك الصورة المحزنة والمخيفة. وذلك الكشف الذي سيكون عند نهاية البشرية والرحيل إلى العالم الآخر. والقيام بعرض الذاكرة المخفية لافعال الإنسان ووصف مشاهد التذكر في الآخرة، ويعبر القران عن ذلك المشهد بقوله تعالى (وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين، هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون” (الصافات: 20-21).
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي