قضايا

صائب المختار: التضليل الإعلامي وتأثيره على الفكر والثقافة العربية

مما لا شك فيه، أن الناس في عالم اليوم يمرون بحالة غير مسبوقة وهائلة من الكذب والخداع الإعلامي وقلب الحقائق، وهذا ما يسمى بالتضليل الإعلامي. لقد أصبحنا اليوم نعيش في فوضى إعلامية، اختلطت فيها الحقائق بالأباطيل، وشوّهت الحقائق.
يهدف التضليل الإعلامي إلى خلق حالة من الفوضى الفكرية التي تؤدي إلى بلبلة عقول الناس عن طريق تشويه الحقائق أو قلبها، وبالتالي يمكن تطّويع عقول الناس وتغيير أفكارهم بما يتناسب مع أهداف حملة التضليل. من الأمثلة الحديثة التي عاشتها المجتمعات البشرية، جائحة كرونا. فبمجرد انتشار فايروس الكرونا في دول العالم، ظهرت في وسائل الإعلام، أصوات تكذّب اخبار الجائحة، وتوحي إلى أنها مؤامرة مفّتعلة من الحكومات بالتواطؤ مع شركات الأدوية. انقسم العالم بين مؤيد ومعارض، وشوّهت الحقيقة، ودخل الشك إلى قلب الحقيقة. وما زال التناقض في الآراء قائم لحد الآن. ونعيش اليوم حالات الخداع والتضليل الإعلامي في جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، ولا يوجد مُنصف ولا نصير. هذه أمثلة واضحة على تأثير الإعلام على عقول الناس. وفي مثل هذا الوضع السائد حالياً، من تضارب في المعلومات وتشويه في الحقائق، يقف الناس في حالة من التشظي الفكري والعقائدي!! فما هو السبيل إلى معرفة الصدق وتجنب الكذب؟
ظهر في أوروبا، في ستينيات القرن الماضي، مصطلح التضليل الإعلامي، ويسمى بالإنكليزية (Disinformation) ليشير إلى التسريب المقصود والمتعمد للمعلومات المفبركة أو الكاذبة. واستُعمل مصطلح (Misinformation) ليشير إلى تسريب المعلومات الخاطئة. وتختلف المعلومات المضَلِّلة عن المعلومات الخاطئة في، أن التضليل يكون متعمداً وله أهداف محددة، بينما لا يوجد عامل التعمد في المعلومات الخاطئة، بل هي غالباً ما تحصل بحسن نية وبدون قصد أو تعمد.
تتفق معظم المصادر التي تبحث في موضوع التضليل الإعلامي على تعريف التضليل الإعلامي: بأنه عملية نشر معلومات كاذبة، مُضلِّلة أو مفبرَكة، أو قلب الحقائق أو اجتزائها وتغييرها، بقصد خداع الناس والسيطرة على عقولهم، بهدف نشر آراء أو أفكار معينة، لأغراض سياسية أو دينية أو عسكرية، أو غيرها من الأهداف المقصود إملائها على الناس، من خلال الإيحاء بواقع مزيّف وغير حقيقي، يكون مقنعاً ومحبوكاً حبكة عالية لكي يصّدقه الناس على أنه الحقيقة بينما هو وهم. وقد يكون التعريف أكثر دقة إذا ما قلنا "أن التضليل الإعلامي هو استعمال وسائل الإعلام المنتشرة عالمياً للتأثير على، أو السيطرة على عقول الناس وأفكارهم وعقائدهم، عن طريق نشر معلومات كاذبة أو تشويه الحقائق أو اجتزائها وحذف جزء منها، وجعلها خاضعة لما يريدون ترّويجه بما يتماشى مع مصالحهم الخاصة، وذلك على فرضية أن (عامة الناس لهم مدى محدود من الانتباه). والملاحظ، ولسبب غير معروف، أن أكثرية الناس يميلون إلى تصديق الشائعات ورفض الحقائق مهما كانت مبررة ومنطقية.
من الأهداف المعروفة للتضليل الإعلامي، هو العمل على كسر أو إحباط الحالة النفسية للخصم جيشاً وشعباً، عن طريق نشر أو تصوير أخبار أو أفلام كاذبة تبين قوة الجيش المحارب والقتل الوحشي المروِّع ليخاف الناس ويرتدعوا.
الخِداع والاحتيال هما إحدى الطرق المستعملة في التضليل الإعلامي. يتم ذلك بنشر خبر أو تقرير في وسائل الاعلام، على أن يكون الخبر كاذباً أو مفبركاً، ويكون قابلاً للتصديق، ومحبوك بحرفية أو تقنية عالية جداً. من الأمثلة الشائعة على أسلوب الخِداع هو نشر فيديوهات مفبركة أو فيديوهات قديمة عن حوادث معينة كانفجارات أو مظاهرات أو اجتماعات أو غير ذلك، حدثت في وقت سابق وفي مكان ما، وبهدف معيّن، وتكون مصوّرة بدقة عالية فيصدقها عامة الناس على الرغم من كونها غير صحيحة. وقد برعت أمريكا في أسلوب الخداع والتحايل لتضليل الرأي العام. مثال ذلك:
في فترة حكم الرئيس بوش الاب، عام 1990، واثناء احتلال الجيش العراقي للكويت، أدلت فتاة تبلغ من العمر 15 عاماً بشهادتها امام مجلس الشيوخ الأمريكي، وقالت إنها شاهدت جنود عراقيون دخلوا مستشفى كويتي وسرقوا الحاضنات وألقوا الأطفال الخدّج على الأرض ليموتوا. تناقلت وسائل الإعلام هذه الشهادة، وانتشر الخبر بسرعة، وأيّدت القصة منظمة العفو الدولية فاكتسب مصداقية عالية، واستُغلت الشهادة لتجريم أفعال الجيش العراقي. بعد ذلك اتضح أن الشهادة كاذبة وأن القصة مفبركة. فالحاضنات لم تسرق، وإن الأطفال ماتوا بسبب هرب الممرضين والأطباء من المستشفى، والقصة اختلقتها المخابرات الأمريكية لتبرر تدميرهم للجيش العراقي.
لم يخجل الامريكان من فعلهم هذا ولم يتعظوا. ففي شباط 2003، فترة حكم الرئيس بوش الابن، كَذَبَ الامريكان مرة أخرى على العالم عندما ظهر كولن باول، وزير خارجية أمريكا، في مجلس الأمن حاملاً انبوبة صغيرة تحتوي على مسحوق أبيض (يقصد جرثومة الجمرة الخبيثة)، وعرض صوراً قال إنها من الأقمار الصناعية تمثل شاحنات كبيرة تحمل في داخلها مختبرات كاملة، متطورة ومتنقلة لإنتاج الجراثيم القاتلة، مؤكداً على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل استناداً إلى معلومات استخبارية مؤكدة. وكان هذا هو المبرر القوي لغزو العراق. بعد الغزو واحتلال العراق تبيّن أن العراق لا ولم يمتلك أي نوع من أسلحة الدمار الشامل وإن هذه القصة كلها كذب وافتراء لتنفيذ خططهم الإجرامية.
من الأساليب الأخرى المعروفة والمستعملة كثيراً لتضليل الناس هو أسلوب التكرار. ويعتمد هذا الأسلوب على تكرار نشر الخبر الكاذب بصورة مستمرة إلى أن يتقبله الناس فيصدقونه ويعملون به، عملاً بمقولة وزير الدعاية في حكومة هتلر (جوزف غوبلز) التي قال فيها "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس" وأضيفَ إليها "ثم اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى تُصَدق نفسك". وهذا ما يفعله الامريكان والأوروبيين في الوقت الحاضر، فهم أصبحوا يُصَدقون اكاذيبهم التي ينشرونها على إنها حقائق، ولا يصدقها الناس في انحاء العالم الأخرى. فهم يقولون (وهم يُصَدّقون ما يقولون) أنهم يلتزمون بالقانون الدولي، والكل يعلم أنهم يتنكرون لجرائم الحرب والتطهير العرقي التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، ومثل ذلك قولهم عن حقوق الانسان والديمقراطية. ونذكّر هنا بمقولة إبراهام لنكولن "تستطيع ان تخدع كل الناس بعض الوقت، أو بعض الناس كل الوقت، لكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت".
من الأمثلة التي نعيشها حالياً على اعتماد الاعلام الغربي لأسلوب التكرار بهدف التضليل، هو ربط تهمة الإرهاب بالإسلام. يعمد الإعلام الغربي بكل أنواعه على توصيف العمل (الانتحاري أو التفجيرات أو الدهس وغيرها) بأنه عمل إرهابي إذا كانت له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالإسلام، وتزدحم الاخبار والتحليلات عن الحادث كونه عمل إرهابي، بينما لا تطلق صفة الإرهاب على الحوادث المشابهة لمثل هذه الأفعال إذا لم تكن لها علاقة بالإسلام، وغالباً ما يوصف الفاعل بالمريض النفسي، ويمر الحادث مرور الكرام في القنوات الإخبارية، على الرغم من أن مثل هذه الحوادث تقتل أعداداً كثيرة من الأبرياء وتكون أشد قسوة وبشاعة من غيرها. في أمريكا مثلاً، دخل شاب أمريكي أبيض إلى كنيسة للسود أثناء أداءهم القداس وقَتَل أثني عشر أمريكياً أسود ولم يعتبر الحادث إرهابياً، ولم يأخذ الخبر حيزاً مهما في وسائل الإعلام. وفي مناسبة أخرى، دخل شاب أمريكي أبيض إلى معبد لليهود أثناء أدائهم العبادة وقتل أثني عشر يهودياً ولم يعتبر حادثاً إرهابياً. في المقابل دخل شاب أمريكي مسلم من أصول عربية إلى حانة للمثليين وقتل أثني عشر شخصاً منهم فاعتبر الحدث إرهابياً وقامت الدنيا ولم تقعد. وباستعمال استراتيجية تكرار ربط الإرهاب بالإسلام، تطبّعت عقول الناس على مثل هذه الاخبار بحيث أصبح الآن بمجرد ذكر كلمة الإرهاب تبرز في عقول الناس شخصية الإرهابي كشاب مسلم وملتحي. ومع الأسف تطابقَ هذا مع عقولنا نحن العرب المسلمين وأصبحنا نصدق تهمة الإرهاب وربطها بالمسلمين.
تاريخياً، تذكر بعض المصادر أن التضليل الإعلامي تم استخدامه منذ القرون البعيدة. فقد استخدمه اليونانيون في حروب أثينا وإسبارطة، وكذلك الرومان. وفي العصر الحديث، يُذكر أن ستالين استعمل التضليل الإعلامي للتحكم بالمعلومات. واستخدمه هتلر اثناء الحرب العالمية الثانية لكسر أو تحطيم الإرادة لأعدائه. إلّا أن هذه المعلومات لا تَصِف بدقة مفهوم التضليل الإعلامي، لأن التضليل الإعلامي يعتمد بالأساس على توفر وانتشار وسائل الإعلام لغرض التأثير على الرأي العام في ترسيخ المعلومة الكاذبة أو قلب الحقائق. وحيث أن وسائل الاعلام لم تكن بالوفرة أو الانتشار الذي هي عليها الآن، لذلك فان تأثيرها يكون محدوداً على فئة معينة وقليلة من الناس، أو لفترة زمنية محددة، وغالباً ما كانت تمارس لأهداف عسكرية. أما في تاريخنا المعاصر فقد ابتدأ استغلال التضليل الإعلامي، كما نصفه اليوم، في تسعينيات القرن الماضي. وتحديداً، تزامن ذلك مع انتشار الآلاف من القنوات الفضائية وسهولة الحصول عليها، مع انعدام الضوابط أو سلطة الرقابة عليها، فأخذت تبث مختلف الآراء والأفكار وتنشر الدجل والفساد. وفي نفس الحقبة الزمنية ظهرت الانترنت وأصبحت متوفرة لعامة الناس، وجرى عليها ما جرى على القنوات الفضائية، بل يمكن القول إنها فاقت القنوات الفضائية من حيث التأثير المضلل على الرأي العام.
وفي بداية القرن الحالي، ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي، التي انتشرت بين الناس في جميع انحاء العالم بسرعة وبصورة مذهلة، بحيث أصبح من الصعب الآن أن تجد شخصاً لا يستعمل أو لا يتفاعل مع وسائل التواصل الاجتماعي. وأصبحت الوسيلة الإعلامية الأولى، الأكثر انتشاراً وتداولاً بين الناس، والأكثر قبولا عند الناس، وذات مصداقية كبيرة. على الرغم من أنها تعتبر الآن من أكثر الوسائل الإعلامية استعمالاً للكذب والتضليل الإعلامي. والسبب في ذلك هو سهولة الحصول عليها، وانعدام الضوابط والرقابة على محتوياتها، ويمكن لأي شخص أن ينشر فيها ما يريد بدون عائق أو محاسبة.
تعرّف مواقع التواصل الاجتماعي: بأنها تطبيقات أو برامج تكنولوجية تسمح بنقل أو تبادل المعلومات بين الافراد بسهولة، مع إمكانية العثور على، والاتصال المباشر مع، اشخاص أو مجموعات بشرية لها اهتمامات مشتركة. ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي في نهاية تسعينيات القرن الماضي. ظهر اولاً الفيسبوك عام 2003، ثم ظهر اليوتيوب عام 2005 في ولاية كاليفورنيا، ثم اشترته شركة غوغل عام 2006 بمبلغ 1.6 مليار دولار. بعدها ظهرت منصة تويتر (حالياً تسمى x) في عام 2006. وأخيراً توّجت مواقع التواصل الاجتماعي بظهور الذكاء الاصطناعي، والذي من المتوقع ان يتفوق وبامتياز على كل وسائل الإعلام لما له من الإمكانيات التقنية العالية في الفبركة والتزييف، والتي يصعب جداً الكشف عنها.
والعجيب أن الناس يصدقون، وبشدة، الأخبار والمعلومات التي تنشر في مواقع التواصل الاجتماعي حتى إنهم يدافعون عنها ويؤكدون على صحتها، على الرغم من أن معظمها تنشر أخباراً كاذبة ومُضلِّلة.
حديثاً، ظهر ما يسمى بالذباب الالكتروني أو الجيش الالكتروني، وهو عبارة عن مجموعة كبيرة من الحسابات الوهمية ينشئها مجموعة من المبرمجين المحترفين التابعين للأجهزة الامنية للدول. تنشر هذه الحسابات الوهمية مئات الآلف من الصور والفيديوهات والأخبار الكاذبة والمضللة، بما يتماشى مع أهداف الدول التي تستعمل هذا الأسلوب للتأثير على عقول الناس. وتنتشر وتتداول هذه الرسائل بسرعة بين الناس. ومن المعلوم أن المعلومات الكاذبة والأكثر تضليلاً هي تلك التي تُبنى على جزء من الحقيقة، لكي يتم تحويرها أو تغيرها بما يتناسب مع أهداف التضليل، لكي تصبح أكثر قبولاً للتصديق من قبل الناس ثم يعاد نشرها لتبدوا كأنها معلومة جديدة على الرغم من انها قديمة جداً.
وقد برعت الولايات المتحدة وإسرائيل في إنشاء غرف الكترونية متطورة جداً للتضليل ونشر الأكاذيب المفتعلة بهدف التلاعب بأفكار الناس وقيمهم وعاداتهم.
ويحق لأي شخص أن يتساءل " هل هناك تأثيرات سلبية للتضليل الإعلامي على الثقافة والفكر العربي؟" الجواب نعم. فقد حدثت تغيّرات جوهرية في الثقافة والفكر العربي!! فعلى سبيل المثال، انتشار الفكر الطائفي المتعصب والتكفيري المدمّر في تاريخنا المعاصر بما لم يكن له مثيل في تاريخنا القديم والحديث. فقد ترسخت الأفكار الطائفية بمختلف وجوهها في المجتمعات العربية. وأدّت إلى صراعات عنيفة داخل المجتمعات. وظهرت أيضاً اجتهادات وتأويلات تمس أركان الدين وتشريعاته مما زعزع ثقة بعض الناس بدينهم واخذوا يشككون بأحكامه. وكذلك تصديق بعض الناس لما يروّج له من أن التاريخ مزيّف ومشوّه، وأن التراث لا أهمية له. وغير ذلك الكثير مما يمكن ملاحظته على طبيعة تفكير أفراد المجتمع التي أصبحت متناقضة مع واقعه الشرقي الأصيل.
والرسالة الختامية من كل ما تقدم: ماذا علينا أن نفعل في التعامل مع التضليل الإعلامي؟
علينا أولاً أن نعي ونفهم بصدق أن مواقع التواصل الاجتماعي التي أنشأت بهدف التواصل والتعارف بين الافراد والمجتمعات ونشر الأفكار والثقافات، قد تمّ استغلالها للتحايل والابتزاز والتزوير، وانتهاك خصوصيات الافراد والتشهير بهم. المهم ان يعلم الجميع، ويتأكدوا، أن معظم ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي من فيديوهات أو وثائقيات أو مقالات، هو كاذب ومضلل ومبني على جزء من الحقيقة ليصدقه الناس، وأنه في الحقيقة يحتوي على معلومات مفبركة محبوكة بتقنية عالية جداً قد يصعب كشفها من قبل عامة الناس.
وثانيا: عليناً أن نعوّد أنفسنا على عدم تقبل أي معلومة تصلنا من وسائل الإعلام على إنها صحيحة ومقبولة، إلّا إذا كنّا على علم بالمعلومة ومتأكدين منها. وبغير ذلك فعلينا أن نتحرى صحة المعلومة من مصادر أخرى معروفة وموثوقة. فإن لم نجد ما يؤيدها، فإنها تكون موضع شك لحين التأكد من صحتها. وكقاعدة عامة: فإن كل خبر يصدر من شخص أو جهة غير معروفة، يجب التعامل معه بالحذر والتشكيك في مصداقيته. وإذا ما عوّدنا أنفسنا على توخي الحذر والشك في تصديق المعلومات، سنكون قادرين على كشف الخداع والتضليل، فنتجنبه ونأمن شرّه.
***
د. صائب المختار

 

في المثقف اليوم