قضايا

إبراهيم أبو عواد: حقيقة المنفى بين شعر محمود درويش وفكر إدوارد سعيد

إنَّ المَنْفَى لَيْسَ مَحصورًا في إطارٍ زَمَانيٍّ، أوْ حَيِّزٍ مَكَانيٍّ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تأثيرِهِ العَمِيقِ في الشُّعُورِ والوِجْدَانِ، واشتمالِهِ عَلى آلامِ الغُربةِ وَالحَنِينِ إلى الوَطَنِ، واحتوائِهِ عَلى مَعَاني الاستلابِ والاغترابِ، رُوحًا ومَادَّةً، فِكْرًا ومُمَارَسَةً. وَالمَنْفَى لا يَحْمِلُ فَلسفةَ الانتقالِ في الزَّمَانِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَصْنَعُ زَمَانَهُ الخاص الذي يَقُومُ عَلى صُوَرِ الذاكرةِ المُحَاصَرَةِ. وَالمَنْفَى لا يُمَثِّلُ فِكْرَةَ الاقتلاعِ مِنَ المَكَانِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَصَنَعُ مَكَانَه الخاص الذي يَقُومُ عَلى أحلامِ الوَطَنِ المَفْقُودِ. وهَكذا يُصبح المَنْفَى هُوِيَّةَ مَنْ لا هُوِيَّة لَه، ويُصبح التاريخُ عِبْئًا عَلى الحَضَارةِ، وتُصبح الحَضَارَةُ إعادةَ تأويلٍ للتاريخ. فالتاريخُ الشَّخْصِيُّ للفَرْدِ يَطْرَحُ تَساؤلاتٍ عَن قِيمَةِ الإنسانِ بِدُون وَطَنٍ، والتاريخُ العَامُّ للمُجْتَمَعِ يَطْرَحُ تَسَاؤلاتٍ عَن مَعْنَى الزَّمَانِ بِلا مَكَانٍ. لذلكَ صَارَ المَنْفَى نَوَاةً مَركزيةً في الشِّعْرِ والفِكْرِ عَلى حَدٍّ سَوَاء، فالشاعرُ الفِلَسْطِينيُّ محمود دَرْويش (1941 _ 2008) وَظَّفَ المَنْفَى في شِعْرِهِ كَقِيمَةٍ لُغويةٍ وَحَقيقةٍ مُتَشَظِّيَةٍ. يَقُولُ درويش في قصيدته (رسالة مِنَ المَنْفَى): (مِنْ أيْنَ أبْتَدِي؟ / وَأيْنَ أنْتَهِي؟ / وَدَوْرَةُ الزَّمَانِ دُونَ حَد).

صَارَ المَنْفَى عَمليةَ دَوَرَان في حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ، لا تُعرَف البِدَايةُ، ولا تُعرَف النِّهَايَةُ. إنَّهُ مَتَاهَةٌ وُجودية، والإنسانُ فِيهَا ضَائعٌ وحَائِرٌ، وَدَوْرَةُ الزَّمَانِ مَفتوحةٌ بِلا حُدُودٍ، وَتَضْغَطُ عَلى المَشاعرِ والأفكارِ، وَالوَقْتُ دائمًا طَوِيلٌ عَلى الشخصِ المُعَذَّبِ، حَيْثُ إنَّهُ يُعَاني في كُلِّ لَحْظَةٍ، وَيَتَمَنَّى لَوْ يَمَرُّ الوَقْتُ سريعًا وَيَنْقَضِي كَي يَرتاحَ مِنَ الألَمِ والعَذابِ، فالثَّوَاني بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالدَّبَابيسِ المَغروسةِ في جِلْدِه. وَشِدَّةُ الوَخْزِ تَمْنَعُهُ مِنَ الاستمتاعِ بِعُمْرِهِ، وَشِدَّةُ الألَمِ تَجْعَلُهُ عَاجِزًا عَن قَضَاءِ الوَقْتِ مَعَ أحْبَابِه. حَتَّى هَؤلاء الأحباب لَيْسَ لَهُمْ وُجُود في الواقعِ، فَهُمْ غَائبونَ أوْ مُغَيَّبُون. وَالمَنْفَى قَادِرٌ عَلى تَوليدِ الاغترابِ بشكلٍ مُستمر في الإطارِ الزَّمَانيِّ، وإنتاجِ الغِيَابِ بشكلٍ دائم في الحَيِّزِ المَكَانيِّ. لذلك، كانَ المَنْفَى هُوَ الغِيَاب الذي لا يَغِيب، والمَاضِي الذي لا يَمْضِي.

يَقُول درويش: (مَاذَا جَنَيْنَا نَحْنُ يَا أُمَّاه؟ / حَتَّى نَمُوتَ مَرَّتَيْن / فَمَرَّةً نَمُوتُ في الحَيَاةِ/ وَمَرَّةً نَمُوتُ عِنْدَ المَوْتِ !).

إنَّ المَنْفَى صِنَاعَةٌ مُستمرة لِلْمَوْتِ، فَالمَنْفِيُّ يَمُوتُ في الحَيَاةِ، وحَيَاتُهُ مَوْتٌ في انتظارِ المَوْتِ النِّهَائيِّ الحَاسِمِ، لذلكَ كانَ عُمْرُهُ مَوْتًا مُتَّصِلًا بلا انقطاعٍ، وَفَنَاءً مُتَوَاصِلًا بِلا وُجُودٍ، وغِيَابًا دائمًا بِلا حُضورٍ.

يَقُولُ درويش: (مَا قِيمَةُ الإنْسَانِ/ بِلا وَطَنٍ/ بِلا عَلَمٍ/ وَدُونَمَا عُنْوَان/ مَا قِيمَةُ الإنْسَانِ؟).

يَسْتَمِدُّ الإنسانُ قِيمَتَهُ مِنْ أرْضِهِ وَوَطَنِهِ وَرُمُوزِ دَوْلَتِه، فَهِيَ التي تَمْنَحُ الشَّرعيةَ الوُجوديةَ لَه، وَهِيَ التي تُوَفِّرُ لَهُ المَشروعيةَ الأخلاقيةَ كَكَائِنٍ حَيٍّ وحُرٍّ، قادرٍ عَلى الحَيَاةِ والتَّفكيرِ والإبداعِ.

وَعَلى الصَّعيدِ الفِكْرِيِّ نَجِدُ أنَّ المَنْفَى صَارَ حُضُورًا مَركزيًّا وَوَعْيًا قائمًا بِذَاتِه، فَالمُفَكِّرُ الفِلَسْطِينيُّ الأمريكيُّ إدوارد سعيد (1935 القُدْس _ 2003 نيويورك) في سِيرته الذاتية (خارج المكان) قامَ بِأنْسَنَةِ المَاضِي في اللامَكَان، وَتَحويلِ أحلامِ الطفولةِ السَّحيقةِ إلى تَيَّارِ وَعْيٍ دَائِمِ الجَرَيَانِ، وَدَمْجِ المَنْفَى الداخليِّ معَ المَنْفَى الخارجيِّ. المَنْفَى الداخليُّ هُوَ الغُرْبَةُ عَن العَناصرِ المُحيطةِ، وَالغَرَقُ في مُحْتَوَى الذاتِ والهُوِيَّةِ، وَتَكْوينُ رُؤيةٍ وُجوديةٍ للعَالَمِ تَخْتَلِفُ عَن السَّائِدِ. وَالمَنْفَى الخارجيُّ هُوَ الانفصالُ عَن التاريخِ والجُغرافيا، وَمُغَادَرَةُ حُدودِ الزَّمَانِ والمَكَانِ في مُحاولةٍ لإيجادِ فَضَاءٍ مَفتوح بَيْنَ الانتماءِ والذاكرةِ، وَصِناعةِ أُفُقٍ وَاسعٍ بَيْنَ الأرضِ السَّلِيبةِ وَوُجُوهِ الضَّحَايا.

أعادَ سعيد بِنَاءَ تَجْرِبته الشَّخصية الشُّعُورية في الكَلِمَاتِ باعتبارها وَسيلةً ثقافيةً للاندماجِ بالأرضِ البَعِيدَةِ (الفِرْدَوْس المَفقود)، وطَريقةً مَعنويةً لِجَمْعِ شَظَايا المَكَانِ المَنثورةِ في ضَبَابِ الطُّفُولَةِ، ومَنهجيةً مَعرفيةً لِوِلادةِ الإنسانِ مِنْ نَفْسِه، ومُوَاجِهَةِ مَصِيرِه وَحِيدًا.

ومَشروعُ سعيد قائمٌ عَلى إعادةِ صِياغةِ المَنْفَى بِوَصْفِه أرشيفًا هُلاميًّا للأحلامِ المَنْسِيَّةِ والذكرياتِ المَقموعةِ والأزمنةِ الوِجْدَانِيَّة الضائعة، مِنْ أجْلِ رَبْطِ المَكَانِ بالإنسانِ، فالمَكَانُ كِيَانٌ وُجوديٌّ مُستقِر في كَينونةِ الإنْسَانِ، وَلَيْسَ وَاقِعًا مَادِيًّا مُنْفَصِلًا عَن الوَعْي وَالحُلْمِ والفِكْرِ.

وإذا كانَ سعيد يَتَعَذَّبُ شُعوريًّا وِوِجْدَانِيًّا خارجَ المَكَانِ،فَإنَّهُ اكْتَشَفَ مَكَانًا جَدِيدًا في ذَاتِهِ الإنسانيةِ وَهُوِيَّتِهِ الحَضَارِيَّةِ. وَهَذا المَكَانُ الجَدِيدُ يُحَاوِلُ تَطهيرَ المَنْفَى مِنْ حُدُودِ الجُغرافيا، وَتَنْقِيَةَ المُدُنَ الأسْمَنْتِيَّةَ الكَئيبةَ مِنْ شَوَائبِ النظامِ الاستهلاكيِّ الماديِّ الذي يَكْسِرُ رُوحَ الإنسانِ، وَيُحَوِّلُهُ إلى سِلْعَةٍ ضِمْنَ ثُنائيةِ العَرْضِ والطَّلَبِ. وَالمَنْفَى رِحْلَةُ اكتشافِ الذاتِ بِكُلِّ تَنَاقُضَاتِهَا، وإعادةُ تأويلِ بَرَاءَةِ الطُّفُولِةِ وَبَكَارَةِ الأفكارِ وطَهَارَةِ الأمْكِنَةِ.

وَشُعُورُ المَنْفِيِّ بِأنَّهُ في غَيْرِ مَكَانِهِ يَفْرِضُ عَلَيْهِ أنْ يُعِيدُ اختراعَ المَكَانِ وَتَرْمِيمَ الذاكرةِ بَعِيدًا عَن الهُوِيَّاتِ المُزَوَّرَةِ والأيديولوجيَّاتِ المُزَيَّفَةِ. ولا شَكَّ أنَّ إحساس سعيد بالاقتلاعِ مِنَ المَكَانِ، وعَدَم القُدرة على العَوْدَةِ إلَيْه، قَدْ سَبَّبَ لَهُ شُعورًا بأنَّهُ وَحِيدٌ وأعْزَل، وأنَّ الوَقْتَ يَتَسَارَعُ ويَضْغَطُ عَلَيْه بِلا نِهَايَةٍ. لذلك لَيْسَ غريبًا أن تَكُونَ سِيرَتُهُ الذاتيةُ استعادةً لِتَجْرِبَةِ المُغَادَرَةِ وَالفِرَاقِ وَالشُّعُورِ بِالخَسَارَةِ: (وَلَمَّا كُنْتُ قَدْ عِشْتُ في نيويورك بإحساسٍ مُؤقَّت عَلى الرَّغْمِ مِنْ إقامةٍ دَامَتْ سبعة وثلاثين عامًا، فَقَدْ فَاقَمَ ذلك مِنْ ضَياعي المُتَرَاكِم، بَدَلًا مِنْ مُرَاكَمَةِ الفَوائدِ).

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في المثقف اليوم