قضايا
خالد اليماني: العرب ظاهرة ماضوية

ثمّة سكون فكري يعتري مجتمعاتنا منذ مدّة طويلة، ودراسة هذه الظاهرة تُعدّ عملية مفتوحة لا تنتهي، مهما كثرت مشاريع الإصلاح السياسي والثقافي ونقد التراث. كلّها تحاول فهم الظاهرة والإتيان بحلّ، دون تشخيص دقيق لأنمط التفكير أو (الرؤية الوجودية) (Worldview) لدى العقل العربي.
ولهذا، نجد أن أغلب الجهود المبذولة في نقد التراث ومحاولة إعادة بنائه، سواءً بأدوات عصرية أو بأدوات داخلية تراعي السياق، غالبًا ما تدور في دائرة مفرغة من إعادة إنتاج ما هو مألوف لدى ذهنيّة العربي دون أن تُقدّم قيمة نقدية جوهرية، فضلًا عن العجز عن صياغة حلول فعَّالة أو تطبيقها عمليًا. وهنا يتجلّى التحدي الحضاري الأكبر: كيف نُحدث تحولًا في بنية التفكير قبل أن نطمح إلى اصلاح ما ينبثق عنها؟
ومما لا شك فيه أن المجتمعات المنغلقة والمتأخرة، غالبًا ما تعيش حالة خوفٍ عام. من جهة هو خوف من أي تغيير ثقافي قد يهدد توازنها الموروث، ومن جهة اخرى، هو تمسّك قلق بالموروث ذاته، مدفوعًا بمحاولات دؤوبة لتبريره فلسفياً بدلًا من تشخيصه بعقل متجرد، يشعرنا بالمسؤولية تجاه ما شكل وعينا الجماعي. إن جوهر هذا الخوف، ليس الحفاظ على التراث، بل التمسّك العصابي به، إذ يحوّله إلى صنمٍ منزّه عن النقد، رغم النتائج المتردية التي باتت فادحةَ الوضوح.
عندما وصف المفكر عبد الله القصيمي العرب «كظاهرة صوتية»، يتحدثون أكثر مما ينصتون، ويجيدون التفوه لا الفهم. فالخطاب في هذا السياق، يُصبح وسيلة لتأكيد الهوية لا لتطويرها أو أختبار المجهول. رفضه للتراث لم يكن نابعًا فقط من اعتبارات إيمانية أو منطقية، بل من رفضه لتحوّل التراث إلى سجنٍ ناعم يمنع الانسان من الانفتاح على نفسه والعالم.
من ناحية أخرى، قدّم محمد عابد الجابري مشروعًا في نقد العقل العربي ودراسة بنيته، وخلص إلى تقسيمه إلى نظم معرفية: البرهانية (العقلانية)، العرفانية (الذوقية/الصوفية)، والبيانية (اللغوية/النقلية). وانتهى إلى أن البيان هو ما استقرّ عليه العقل العربي في النهاية، عقلٌ يبحث عن الاتساق مع المرويات والاخبار، على حساب التفكير العقلي واختبار الواقع. ويسعى إلى الانسجام مع الجماعة، لا إلى مواجهة الاسئلة الصعبة. فعند الجابري، يصبح الموروث هو المرجع الأعلى، بينما يُهمَّش العقل وتُقصى كل المناهج والأدوات الحديثة التي تعتبر نتاج العقل!
قد تختلف منطلقات ولغة القصيمي عن الجابري، لكن كليهما اشار إلى ملامح ازمة واحدة: الجمود عند حدود المألوف، وتقديس الماضي دون مسائلته. إنهما يلتقيان في تشخيص الحالة العربية التي، في العموم، تركن إلى فهم السلف على حساب إجتهاد المعاصرين، وترفض الاعتراف بأننا النتاج الحقيقي لهذا الموروث، كونه المدخل الأول الذي عشّش في اذهاننا منذ نعومة اظفارنا.
على ضوء ذلك، يمكن تشخيص الحالة بشكل أكثر شمولية على أنها «ظاهرة ماضوية»، أي حالة ذهنية ومعرفية تنطلق من الماضي، وتعود إليه. الماضوية ليست حنيناً للماضي أو مجرد فكر بحقبة زمنية كان عليها "أجدادنا"، بل موقفًا وجوديًا من الحياة يرفض أبسط ابجديات طبيعة الأشياء: التجدد والمغامرة والتطوّر. فحين يصبح الماضي هو المرجع الأول، لا العقل، تنغلق الذات داخل حلقة رتيبة من التكرار، ويصبح الحاضر إعادة تحضير الماضي بأشكال وأقنعة مختلفة لكن بنفس الجوهر. وبات التفكير مجرد أداة تزيينية للموروث على طريقة "أسلمة المعرفة". فالنتيجة: يُختزل الموروث من كونه مجالًا للفهم، إلى كونه سلطةً أولية تتحكم بوعي الإنسان وكينونته.
ليست المسألة في عيشنا الذهني في الماضي، بل في أن الماضي يعيش فينا! يُسيّر لغتنا، ويُشكل رؤيتنا لأنفسنا والعالم. والمشكلة لا تكمن في احترامنا للماضي، إنما عجزنا عن تشخيصه، وتحويله إلى مادة للفهم لا إلى معبدٍ للتقديس.
وحين يغيب السؤال، يغيب النمو. المجتمع الذي لا يجرؤ على مجاوزة أسلافه معرفيًا، لا يراكم خبرة، ولا يبتكر جديداً، ولا يصغي للعالم إلا من وراء حُجُب تحيل بينه وبين الفهم الحقيقي والتقدم.
وعليه فالعربي ليس مجرد ظاهرة صوتية، أو وعقلًا بيانيًا، إنما هو تمظهر حيّ لظاهرة ماضوية، تنظر إلى العالم بروح مشدودة إلى الوراء، وتعجز عن تصور المستقبل خارج أطر الموروث. أنها أزمة وعي مأزوم، يراكم الرماد ويحسبه جمراً، لذلك فإن كل محاوله للتجديد تُقابل بالريبة وتُصنف كخيانة، لا لأنها تُخطئ، بل لأنها تجرؤ على السؤال؛ سؤال المستقبل والوعي والحقيقة.
***
خالد اليماني