قضايا

وسام حسين العبيدي: "نقد النقد" بين مؤتمرٍ ومُلتقى – قراءة موضوعية في المشتركات والفروق

لا يخفى ما للنقد من أهميةٍ فصّل في أثرها في تطوير الوعي والمعرفة في كل مجال من مجال الحياة، رعيلٌ يبدأ بالقدماء من العرب وغيرهم، وقد لا أكون مُغاليا في القول: لولا النقد لما تطوّرت الحياة في كل مجالاتها. ومن هذا المنطلق، كان للنقد الأدبي أثرُه في تطوّر الشعراء مما يطرحه النقّاد لهم سواء على مستوى السجالات النقدية التي جرت بينهم في مختلف العصور، أم على مستوى استفادتهم مما طرحه النقاد في كتبهم من تصورات نظرية عن الشعر في تصوّراتهم النظرية، وملاحظهم التطبيقية التي اشتغلوا فيها على نصوصٍ كثيرة من الشعر، وأبدوا فيها مختلف التصورات من زوايا مختلفة تعبّر عن سعة النقد في مجالات اشتغالاته، واختلاف مرجعياته.

وإذا كان للنقد من أهمّيةٍ وأثرٍ لا تُنكر، فنقد النقد بما يُعنى به من متابعة ما يصدر عن النقّاد من طروحات وأفكار، وإعادة ضبطها أو محاكمتها، أو بيان ما تقوم عليه من أسس فلسفية واستظهار الجيّد منها وعزل الضار أو المنفصل عن واقعها الراهن، أو غير ذلك من إجراءات يتّخذُها "ناقد النقد" حرصًا منه على أنْ يكون النقد سليمًا معافىً من الوقوع في شباك الأوهام، أو المصادرات التي تُحسب على النقد من حيث الإجراء أو التطبيق، يكون والحالة هذه – نقد النقد- هو الأساس في تقييم النقد، فالأهمّيةُ إن تمّ احتسابها للنقد، فهي من باب أولى تُحسب لمن يُتابعه ويسهر على جعله ضابطًا لما ينبثُّ فيه من أفكار ونظريات وتصوّرات.

ومن هنا، كانت الخطوةُ رائعةً من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق - المركز، أنْ أطلقوا خلال الأيام القليلة الماضية، المؤتمر التأسيسي الأول لمؤتمر "نقد النقد" وفي ذلك دلالة لأهمية ما يدعو إليه هذا المؤتمر في أهدافه وتوجّهاته وما يتبناه. ومن الصواب أنْ نشير إلى أنَّ اتحاد الأدباء والكتاب في بابل في الثامن من شهر أيار الماضي، كان أيضا قد أقام ملتقى تناول فيه نقد النقد، ولنا أنْ نقفَ على المشتركات بينهما، وما اختلفا فيه من بعض النواحي، فقد جمعهما أمران لا ثالث لهما: الأول أنَّ كلاهما برعاية اتّحاد الأدباء والكتاب في العراق، والأمر الآخر: كان كلاهما يتمحوران حول قضية (نقد النقد) أما الذي يختلفان فيه، ففي جوانبَ كثيرة، فالأوّل رعاه اتحاد الأدباء والكتاب في بابل، أمّا الذي عُقِد مؤخّرًا، فكان برعاية اتحاد الأدباء والكتاب في بغداد، ومعلومٌ أنَّ الفرق بالإمكانات والاستعدادات اللوجستية لكلا المؤتمرين، سيكون لهما الأثر في الإعداد والتحضير والترتيب والتنظيم، وهذا ما اتَّضح أثرُهُ بوضوح على مؤتمر نقد النقد الذي رعاه الاتحاد في بغداد الذي يمثِّل مركز الثقل من حيث الإعداد والتنظيم، ناهيك عن الأشخاص الذين كان لهم الأثر العلمي في رعاية المؤتمر، وأعني به اللجنة العلمية التي تقف وراء هذا التنظيم، ففي المؤتمر الذي عقد اتحاد أدباء بابل، لم يُعلن عن اللجنة العلمية التي تابعت أو نظّمت هذا النشاط، فلم يُعلن عن رئيس لجنته العلمية..؟ حتى يُتاح للمتلقّي أنْ يكوِّن تصوُّرا عن إمكاناته وخبرته في إدارة مثل هذا المشروع المعرفي المهم في مجاله، أما في اتحاد الأدباء المركزي في بغداد، فقد كان لرئيسه الأستاذ الأكاديمي الدكتور عبد العظيم السلطاني، المعروف باهتمامه الأكاديمي في هذا المجال، فضلاً عن مؤلفاته وبحوثه التي تناولت نقد النقد، الأثر الواضح في تنظيم كل ما له علاقة بمحاور هذا المؤتمر، مع ثلّة طيّبة لهم خبرتهم ودرايتهم في هذا المجال، وهم كلٌّ من الناقد الأكاديمي الأستاذ الدكتور علي متعب جاسم رئيس تحرير مجلة الأديب التي يصدرها الاتحاد، وقد شهدت له الأعوام الأخيرة انتقالة نوعية ناجحة لإدارة هذه المجلة ورصانتها، كذلك الناقد الأستاذ علي سعدون وهو رئيس تحرير مجلة الأقلام، وقبلها عمله الطويل في مجال النقد الأدبي منذ تسعينات القرن الماضي، تأليفًا ورصدًا للمشهد الأدبي والنقدي، وإذا كان شعار الملتقى الذي أقيم في بابل، بعنوان: (نقد النقد.. المفهوم وجدل التحوّل) فلنا أنْ نقارنه بعنوان المؤتمر الذي أقيم مؤخّرًا، بعنوان (نقد النقد – التنظير والإجراء) وهنا بحسب ما قرّ في ذهني عن مفهوم (الجدل) عمومًا أنّه يقتضي إشكالية حول مصطلح أو منهج أو قضية استوقفت فريقين أو أكثر من النقاد والباحثين يُدلي كلُّ فريقٍ منهم برأيه أو حجّته، وهذا ما لا أظنّهُ قد دار حول مفهوم "نقد النقد" إذ الآراء التي دارت حول هذا المفهوم لم يشتبك أكثرها – إن لم نقل كلُّها - في وقتٍ واحد، بل كانت تُطرح من قبل أصحابها في مختلف الأزمنة، وبالنتيجة تجد المتأخِّر منهم يُعيد النظر على ما أطلقه القدماء حول هذا المفهوم من اصطلاح، فيحاول تقشيره، أو إعادة النظر فيه، وهذا الحال لا يصحُّ وصفه بالجدل، في قبال ذلك أجد أنَّ العنوان الآخر للمؤتمر التأسيسي لنقد النقد، وهو (نقد النقد – التنظير والإجراء) أكثرُ استجابةً لواقع حال المصطلح، وما دار حوله من اشتغالٍ فكري، تمثّل بضبط المصطلح، وفحص مكوّناته، وبيان حدود اشتغاله سواء على المستوى النظري أو التطبيقي، وهذا الفهم أقرّه كثير ممن كتب في رصد هذا المجال الفكري ورسم حدوده وفك التباساته.

بقي لنا أنْ نعيد النظر في المشاركات أو المشاركين في هذين المؤتمرين، ولا ننكر أنَّ اسمًا قد نجده يتردّد في المؤتمرين، وهو الناقد الأكاديمي الدكتور جاسم حسين سلطان الخالدي، وباستثناء هذا الاسم، تبقى كفّة المؤتمر التأسيسي الأخير هي الأرجح، بعدّة أمور، منها: أنه تم تقسيمه إلى جلستين: صباحية ومسائية، وكل جلسة فيها محوران، ما عدا المحور الأول من الجلسة الأولى، فكانت محاضرةً افتتاحيةً للناقد العراقي الكبير الأستاذ فاضل ثامر، عن "نقد النقد – ضبط المصطلح والمفهوم" وبهذا يكون عددُ الباحثين الذين اشتركوا في هذا المؤتمر – ما عدا المحاضرة الافتتاحية التي نوّهنا بها آنفًا – خمسةً عشر باحثًا، فضلاً عن ذلك أنَّ بحوثهم كلُّها تصبُّ في دائرة نقد النقد ولم تخرج عن مداره، وقد انتظمَ عرضُها بحسب التسلسل المنطقي، فكان المحور الثاني في الجلسة الصباحية، قد تناول (نقد النقد/ تصورات نظرية) أما الجلسة المسائية، فكان كلا المحورين فيها يدوران حول الجانب التطبيقي من نقد النقد، وما يبعث على سلامة هذه الدراسات ورصانتها، ما أشرنا إليه سابقًا، من كفاءة اللجنة العلمية وحرصها أنْ تكون مدخلاته ومخرجاته لا تخرج عن دائرة موضوع المؤتمر، أما في ملتقى نقد النقد في بابل، فكانت قد اقتصرت على خمس أوراق/ أبحاث. ومثل هذا العدد من الأبحاث قد كان في محورٍ واحد من محاور مؤتمر النقد التأسيسي في بغداد.. ولا يعني ذلك أنْ نبخس الجهود في ملتقى نقد النقد الذي أقيم برعاية اتحاد الأدباء والكتاب في بابل، ولكن.. قد يتساءل القارئ وهو يطالع عنوان أحد تلك الدراسات التي قُدِّمت في ذلك الملتقى، وهو: (في النقد  المعماري - د . خالد السلطاني / بياضات الشعرية/  تكرارات التكرار) للدكتور محمد أبو خضير، بالقول: ما علاقتها – وهي دراسة محترمة بالطبع – بنقد النقد..؟ فضلاً عن كون الدراسات التي قُدِّمت إلى هذا الملتقى، لم تخرج جميعها عن "نقد النقد الأدبي" ما يفرضُ وحدة المجال المعرفي لكل الدراسات المقدّمة فيه، ناهيك عن اعتبارات أخرى محكومة بالمجال الأدبي الذي انطلق منه اتحاد الأدباء والكتّاب. ولعلَّ مزيةً أخرى تُحسب لمؤتمر نقد النقد في بغداد، أنَّ الدراسات قد تمَّ تدوينها وطبعها في كتاب بعنوان (المعوَّل عليه) يمكن للقارئ أنْ يُديم النظر فيها، ويُطالعها بصورة جيدة، مما يُتيح له فرصة في تثبيت سؤال أو إشكال على بعض ما في تلك الدراسات، ويطرحها خلال ذلك المؤتمر وبعده، أما الدراسات التي قُدِّمت في ملتقى نقد النقد في بابل، لم يُتح لها أنْ تُوثّق في كتاب، وبالنتيجة قد يفوتُ نفعُها لمن يريد أنْ يستفيد منها، أو يقف على ما ورد فيها من أفكار قد تكون صالحة وجيّدة، وقد تكون مثيرة للنقاش، فما أتذكّره سماعًا من ورقة الأستاذ عبد علي حسن، التي جاءت بعنوان (النقد المصطلحي بوصفه مفهوما مركزيا في نقد النقد) فقد ذكر أنه (ليس  لأحد أن يدعي التأسيس ولا التنظير في نقد النقد، بمعنى ليس هنالك تأسيس نظري ولا توجد نظرية) وهي عبارة تستدعي السؤال بهدوء: من الذي يدّعي التأسيس لنقد النقد، وكل من كتب عنه إنّما يبحث في المدوّنات السابقة من كتب النقد الأدبي والدراسات النقدية، باحثًا عن خيوط رفيعة تشتغل في مجال نقد الأفكار النقدية أو التطبيقات منها، فكيف يدّعي أحدٌ التأسيس والريادة في مجالٍ يكشفُ عن المشتغلين فيه، كلُّ ما هنالك يُمكن أنْ يُحسَب للناقد في تصدّيه لكشف تلك الممارسات في نقد النقد ومقاربته لها من مستويات متعدّدة، ولعلَّ الإنصاف – إذا وضعناه نصب أعيننا – يقودنا إلى أسماء مهمة عالميا وعربيا ومحلّيا عملت في مجال أرخنة تلك الممارسات ومقاربتها نقديًّا بمستويات، مثل تودورف عالميا، أو محمد مندور أو محمد برادة أو نبيل سليمان أو حميد لحمداني أو شكري عزيز الماضي أو محمد الدغمومي أو يوسف وغليسي عربيا أو محمد صابر عبيد أو عبد العظيم السلطاني عراقيًّا.. فكلُّ واحدٍ من هذه الأسماء، كان له إسهامة في إثراء هذا المجال المعرفي، وكشف أبعاده، وفكِّ التباساته، وترصين خطابه، بما يجعله مجالاً حيويًّا، ينفع الناقد ويُسدِّده فيما يريد أنْ يتجه إليه، ولأن اتجاهات النقد متنوِّعة فمن الطبيعي أنْ لا نجد نظرية في نقد النقد، فكلامُ الأستاذ عبد علي حسن (ليس هنالك تأسيس نظري ولا توجد نظرية) تحصيل حاصل؛ لأن نقد النقد ليس منهجًا يقف بإزاء المناهج النقدية المعروفة في الساحة الأدبية من سياقية أو نسقية، وغيرها من مناهج تُعنى بتحليل الخطاب السردي، بل يمكن أن نجد في كل منهج من هذه المناهج خطابًا نقديًّا – أي: نقد نقد – يتمحور حولها فيُناقش ما طُرِح في إهاب تلك المناهج من رؤى وتصوّرات نظرية أو اشتغالات تطبيقية، مُعيدًا النظر فيها، متفحّصًا خطواتها الإجرائية تارةً، وفارزًا لما وقع فيه ذلك الناقد من وهم في تمثيله لمصطلح، أو رؤية نظرية أراد تطبيقها ففهم خلاف ما يُراد منها،.. الخ من إجراءات أشار إليها من كتب في التنظير لنقد النقد، فالتأسيس النظري لا يُمكن أنْ يتوفّر لكل هذه المناهج، بقدر ما تكون هنالك خطوات وإجراءات يحرص الناقد المشتغل في مجال (نقد النقد) على النقّاد أنْ يلتزموا بها؛ لتعصمهم جهد الإمكان من الوقوع في الأوهام والتمثّلات البعيدة عن روح المنهج النقدي الذي يزعمون تطبيقه في قراءة نص وتحليله.

وختامًا تبقى مثل هذه المؤتمرات والملتقية نافعة لاسيّما في حال توثيقها كتابيًّا، فالدارس الذي يأتي بعد سنوات، سيبحث عن المكتوب، ناهيك عن جودته ومدى التزامه المنهج العلمي المتّبع في توثيق تلك الأفكار وتحليلها. وتكون مثل هذه الدراسات مادة ناطقة بأفكار أصحابها، أما المؤتمر أو الملتقي فينتهي صداه، وتبقى المادةُ المكتوبةُ شاهدةً عليه.

***

د. وسام حسين العبيدي

في المثقف اليوم