قضايا
اياد الزهيري: الإسلام ومجال أشتغالاته في السياسة (2)
قلنا في مقدمة الموضوع أن في الأسلام فلسفة سياسية لأن ما قدمه هو أحكام وقواعد كلية في أكثره، وهذا هو طابع الفلسفة وأختلافها عن العلم، فالفلسفة تهتم بالنظرة العامة بالتعبير عن فكرة معينة، والعلم يهتم بالقوانين والفنون في التعامل مع الموضوع أو القضية التي يُتَعامل معها، فمثلاً فلسفة الأقتصاد شيء وعلم الأقتصاد شيء آخر، فنرى هناك فلسفة أقتصادية أشتراكية وأخرى رأسمالية، وثالثة مختلطة وهكذا، في حين أن علم الأقتصاد واحد عند كل المدارس الأقتصادية، فمثلاً قانون العرض والطلب، قانون الغلة المتناقصة وقانون باركنسون، وغيره من قوانين علم الأقتصاد . .
تعريف القاعدة الكلية: (قضية كلية منطبقة على جميع جزئيتها) (قواعد الفقه الكلية:إبراهيم علام). ومن المهم الأشارة الى أن القاعدة الكلية في الأسلام تستند الى مصادرها الخاصة، وهي القرآن والسنة النبوية، والعقل والعرف . والقواعد الكلية في الأسلام مُقسمة حسب الميدان الذي تشتغل عليه، ومنها ما تشتغل على أكثر من ميدان، فهناك ميدان عبادي، وهناك عقدي وأخلاقي، وأقتصادي وأجتماعي وسياسي. فالفقه السياسي يُبين للحاكم والمحكوم، وللعاملين في الدولة والحزب السياسي الأسلامي أحكام الأسلام في المجال السياسي، ومن خلالها يتعين المنهج والهدف في ميادين العمل والسلوك السياسي، لكي يكون له أطار يميزه عن غيره من الأحزاب والأنظمة السياسية، كما أن هذه القواعد تمنح الفقهاء والعاملين في الحقل السياسي الأسلامي مرونة كبيرة للتعامل مع المتغيرات والتحولات والمشاكل المستحدثة، والمتسارعة، ومن ميزات القواعد الكلية في الفقه السياسي المرونة، والسعة الكبيرة ومنها مايقع ضمن منطقة الفراغ التي تتيح للفقيه أو المفكر الأسلامي أن يضع الكثير من الأحاكم في المجال السياسي، بشرط أن تدور مدار القواعد والضوابط العامة التي سنذكرها في هذا البحث، وهي تختلف عن كليات العبادة التي تختص بالعبادات، وهي تتصف بالمحدودية والصلابة. .
أن سعة الحقل السياسي وما يتصف به من مرونة عالية، وتندرج تحته الكثير من المستجدات والوقائع المستحدثة، والحاجات المتجددة للأنسان، هو من أكسبها هذه الطبيعة المرنة، وجعل من الأداة العقلية في أستنباط الأحكام المتعلقة بالمجال السياسي أحد الأدوات المهمة، ولهذا السبب، وتقدير لهذه المهمة وما تتطلبه من مرونه، جعل الأمام الصادق (ع) يقول في هذا الصدد ( إنما علينا أن نُلقي أليكم الأصول، وعليكم أن تفرعوا )(وسائل الشيعة ج27،ص62 )، وقد قالها أيضاً الأمام الرضا (ع) (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع) (وسائل الشيعة: الحر العاملي)، فالقواعد الكلية حقل يفتح آفاق واسعة في إيجاد أجوبة شافية ووافية للمشاكل والمواقف والحاجات المستجدة، ضمن الأطار التي حددتها هذه القواعد، والتي تجعل من الحلول ذات طابع، وضمن أطار ولون أسلامي يميزه عن غيره من الفلسفات والأنظمة الغير أسلامية،.
وهنا ينبغي أن نذكر هذه أو بعض القواعد الكلية في الفقه السياسي، والتي تعتبر الأصول والمرتكزات التي نبني عليها الفروع، ومن خلال هذه القواعد الكلية للفقة العام والسياسي يستطيع العلماء والمفكرون الأسلاميون والمتخصصون أن يؤسسوا نموذج سياسي يلبي حاجات الناس، وما يفرضه مقام الحال السياسي في بُعديه المحلي والدولي، وسوف نقدم بعض الشرح لهذه الكليات، وبشكل مختصر لأن المقام لايسمح بأعتبار مانقدمه في هذه الورقه كمقالة ترتقي لمستوى البحث، لكي نحيل الباحث والقاريء الكريم للأطلاع على كتب كثيرة تخوض في هذا المضمار يمكنهم من خلالها التوسع والأطلاع. .
من القواعد الكلية في الفقه السياسي الآتي:
1- قاعدة لاضرر ولا ضرار، وتحت هذه القاعدة تندرج عدة عناوين ثانوية منها
أ- الضرر لايزال بمثله
ب- الأصل في المنافع الحل، وفي المضار المنع
ج- الضرورات تبيح المحضورات
د- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف
ذ- التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
هذه القاعدة الكلية يمكن تطبيق عليها الكثير من الجزئيات، وتتسع للكثير من التطبيقات، ولكن نحن نختصر لبعض تطبيقاتها هنا . كلمة الضرر لا تحمل أكثر من معنى ألحاق الأذى، وهو أما أن يكون ضرر معنوي أو مادي، والضرر قد يقع على الفرد، ويشمل الضرر بكرامته، وماله، وجسده، وكذلك على الجماعة، بالأضافة على البلد، ويشمل الضرر على سيادته وحرمة أراضيه، وثروته، ومسؤولية الحاكم،والنظام السياسي أن لا يسمح بوقوع الضرر على المواطن والوطن، ويمنع كذلك وقوع الضرر على البلدان الآخرى، وهذا ما يُعلق عليه اليوم بمصطلح (حُسن الجوار )، وهو مبدأ سياسي تحرص الدول على تطبيقه، وكذلك تدعو له هيئة الأمم المتحدة وتحث الدول المنتمية أليها، وهو مبدأ يساهم في أستتاب الأمن، وأحلال السلام في المنطقة والعالم. فهذه القاعدة الكلية تشتمل تطبيقاتها في الفقه العام، والفقه السياسي الخاص، وتعتبر قاعدة ذهبية لما تشتمل من رعاية للحقوق، ومنع للتجاوزات . وأن لهذه القاعدة أصل في النص الديني، وهو الحديث النبوي (لاضرر ولا ضرار) رواه أبي سعيد الخدري عن رسول الله، ورواه مالك في مسنده، وأبن ماجه، وهنا نُشير الى العهد الذي عهد به علي بن أبي طالب ع الى واليه في مصر (مالك الأشتر) حيث أشار الى هذه القاعدة الكلية في الحكم، فجاء بوصيته لمالك الأشتر (ولاتنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، وأجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن ..) ويقول في نفس وصيته لمالك (وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع)، وهذه وأن كانت تعبير عن سياسة أقتصادية، ولكنها في نفس الوقت فيها ما مايدفع الضرر لكل الأطراف سياسياً، وهناك الكثير من الجزئيات التي ينطبق عليها هذا المبدأ سياسياً، إلا أننا نكتفي بما يسمح به المقام في هذا البحث.
2- قاعدة المساواة:جاء عن النبي ص في خطبة الوداع (أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد،كلكم لآدم وآدم من تراب، أن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت)، وفي حديث نبوي يقول (الناس سواسية كأسان المشط).
كما يمكننا الرجوع الى النص التأسيسي الأول، وهو القرآن الكريم، حيث تنص الآية وبشكل واضح وجلي على أصل المساواة في القيمة الإنسانية بين بني البشر، جميعهم، وبين الجنسين من ذكر وأنثى (يا أيها الناس اتقوا رَبكم الذي خَلقَكم من نفسٍ واحدة..)(النساء:1 )، كما أن النص القرآني واضح بالمساواة بين كل البشر والمجتمعات (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شُعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم...)(الحجرات:13)، هذا على مستوى النصوص، أما على مستوى التطبيق، فهناك الكثير من الوقائع التي تشهد على تطبيق مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع، ولعل ذكر واحده منها، وذلك في طلب أخ خليفة المسلمين عقيل من أخيه علي بن أبي طالب ع زيادة في حصته من الحنطة فأبا عليه ذلك، والتاريخ نقل لنا أمتعاض أخيه منه لمساواته مع الرعيه، فهجره الى معاوية بن أبي سفيان، ولايسعنا ذكر الكثير من الوقائع لضيق المقام . فالمساواة أمام القانون مبدأ أسلامي واضح، ويمكن سوق حادثة الأمام علي ع في تنازعه مع اليهودي وتقدمُهما للقضاء معاً على حد سواء، وأعتراض أمير المؤمنين علي ع على القاضي حين كناه لدليل صارخ على تأكيد وحرص الأسلام على المساواة بين بني البشر، فالمساواة أمام القانون أنجاز عظيم لحقوق الإنسان حققته البشرية، حيث جاء في المادة الأولى في الأعلان العالمي لحقوق الإنسان مايلي ( يولد جميع الناس أحراراً في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يُعاملوا بعضهم بعضاً بروح الأخاء)، وجاء في المادة العاشرة من الأعلان العالمي (لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين...)، فالأسلام له قصب السبق في إقرار مثل هكذا قوانين، وتطبيقها على أرض الواقع . يتبع
***
أياد الزهيري