قضايا

ضياء خضير: نظرية الصفر اللغوي للدكتورة سناء حميد البياتي

قبل أيام بعث لي صديقي الشاعر جواد الحطاب بفيديو تظهر فيه الزميلة الدكتورة سناء البياتي مع الأستاذ باسم الجمل ببرنامج تتحدث فيه عن نظرية خاصة بها في اللغة وتيسير النحو العربي تحت عنوان (نظرية الصفر اللغوي). وهي دون شك نظرية مثيرة للاهتمام، وتبدو جديدة في طريقة عرضها وحديث السيدة البياتي الفخور والمتكرر عن توفيقها بإنجاز ما أنجزته منها. وهي عندها لا تقف عند حدود اجتهادات في نحو العربية وتعديل الميل في مناهجها التعليمية المعقدة، بحيث تكون مكمّلة لما سبقها من جهود لغويين ونحاة عرب في هذا الباب، وإنما تبدو عندها كما لو أنها من الاكتشافات العلمية التي لم تُسبَق إليها من قبل اللغويين العرب والأجانب، وتعادل في وزنها الاكتشافات العلمية الكبرى في هذا العصر. وهي تقول بثقة تحسد عليها إنها فتحت الصندوق الأسود للدماغ الذي عجز الآخرون عن فتحه وعرفت طرائق اشتغال اللغة وعلاقتها بالفكر فيه. ولكنها لم تحدثنا عن الطريقة ولا الوسائل التي استطاعت بها التوصل إلى هذا الفتح أو الاكتشاف سوى القول بأن هناك صفرا أو منطقة فراغ تتشكل بها المعاني في هذا الدماغ قبل أن تمرّ في علاقتها باللغة بمراحل تحددها بثلاث:

تتصل الأولى منها بتحديد المعنى العام للفكر، والثانية بالربط بين مكوناته الدلالية وما يتصل بها من إسناد، ثم مرحلة اختيار الدوال المناسبة للمدلول في المعجم اللغوي للمتكلم.

وهو، كما نرى، تقسيم يبقى احتماليا. وفي أفضل حالاته قائم على تصورات ذهنية مجردة ليس هناك دليل علمي محسوس وملموس على صحتها. إذ أنه يستند إلى المنطق الصوري أو الشكلي الذي هو علم يبحث في صورة الفكر أو بنيته الشكلية دون النظر إلى محتواه، أي بكيفية بناء الحجة أو الاستدلال الصحيح من حيث الشكل فقط، وبعض الفلاسفة الرياضيين (مثل فينغنشتاين) رأوا أن اللغة الطبيعية لا يمكن اختزالها تمامًا في منطق صوري. لأن هذا المنطق يهتم بصورة الحجة لا بمضمونها.

ورغم قوة هذا النوع من المنطق في ضبط الاستدلالات العلمية والرياضية، فهو يحتاج إلى التكامل مع أشكال التفكير العملي والسياقي لفهم الواقع والتواصل البشري.

والمشكلة أن منطقة الصفر اللغوي التي صارت عنوانا لهذه النظرية لا علاقة وثيقة لها حتى إذا صحّت بالصيغ اللغوية التي تقول الباحثة إنها تتشكل بدءا منه. لأن الأمر قائم فيها على مجرد الظن. وصاحبة النظرية تشبه بذلك النظّام المعتزلي الذي كان يقول عنه تلميذه الجاحظ إنه كان يظنّ الظن ويبني عليه، وينسى أنه كان في بدء أمره ظنا.

وحين قال لها الدكتور محمد حسين آل ياسين رئيس المجمع العلمي العراقي الحالي في إحدى المحاضرات التي عرضت فيها هذا الاكتشاف بحضوره منذ سنوات: ألّا صفرَ فكريا أو لغويا بمعنى (خلاء) أو (عدم) في الدماغ، موجود على الحقيقة وأن هذا العدم لا وجود له لأنه يعدم نفسه، وإن الأمر يتصل بنوع من الاستعارة أو المجاز الذي انتهى إليه العلم الرياضي في القرون الوسطى العربية للتفريق بين الإيجاب والسلب في الأعداد الرياضية، صارت تقول إن هذا الصفر اللغوي، مثل الصفر الرياضي، منطقة ربط ولقاء بين الفكر واللغة لا منطقة خلاء تتشكل فيها المعاني والأفكار قبل أن تأتي الجمل اللغوية ذات المفاهيم الكلية لاستيعابها والتعبير عنها بطريقة تفصيلية أو جزئية تبعا لنظرية الجشتالت في الإدراك الكلي للمفاهيم. الأمر الذي يبدو بحاجة إلى إثبات حتى إذا كان صحيحا، لأنه مبني، كما ذكرنا، على تصورات واعتقادات نظرية مجردة، وليس على حقائق علمية رياضية أو تجريبية مؤكدة يمكن تصوّرها أو رؤيتها بطريقة منطقية ثابتة، أو صحيحة صحة مطلقة. وهي تقول إنه منذ نظرية العامل في النحو لا يوجد غير هذه النظرية الخاصة بالصفر اللغوي على الرغم من أنها تضيف إلى ذلك في موضع آخر أنها جعلت من نظرية عبد القاهر الجرجاني الخاصة بالنظم ومعاني النحو منطلقا لها، واستخدمت نفس اعتراضات النحاة الذين اهتموا بتيسير النحو وشواهدهم في معالجة التعقيد الذي أدخله المنطق ونظرية العامل على القواعد الخاصة بكلام العرب.

وقد كان لدينا من قبل "صفر" كتابي آخر، طرحه الناقد الفرنسي رولان بارت في كتابه (درجة الصفر في الكتابة) للتعبير عن حلم الكاتب للوصول إلى درجة النقاء والشفافية في الكتابة التي لا تنتمي إلى زمن أو أسلوب محدد. لكنها تبقى، كما نعلم، كتابة مستحيلة التحقق، لأن اللغة محمّلة دائمًا بالثقافة والأيديولوجيا، واستخدام الآخرين لها.

والغريب في أمر السيدة البياتي أنها لا تتورع عن القول إن نظريتها تحتاج من أجل إثباتها تعاون علماء الأعصاب لرؤية "مساقط" الأفكار وكيفية تشكّلها وطبيعة حركتها وعلاقتها باللغة في المناطق المخصصة للفكر وللغة من الدماغ البشري. أي أنها تقوم بنوع من المصادرة على المطلوب لإثبات ما هو ثابت، أو دعم نظرية مقررة جرت الفتوى فيها وتثبيتها منذ زمن طويل، وتحدثت بها صاحبتها في عشرات المحاضرات واللقاءات تحت عنوان (الصفر اللغوي)، بوصفها النظرية التي لم يأت بها أحد قبلها، بما في ذلك اللغوي الأمريكي تشومسكي الذي لم يعرف الطريق إلى الربط بين الفكرة وقالبها اللغوي كما فعلت هي.

وبما أن كل شيء جديد ويبدأ مع السيدة الباحثة حيث تبدأ الأشياء من الصفر، فإنها تبدو غير عارفة بجهود علماء الأعصاب المخصصة

لاكتشاف المناطق الخاصة باللغة والأفكار في الدماغ، وأن علماء الأعصاب ينتظرون إشارتها لإثبات ما تقوله نظريتها في الصفر اللغوي، ولم يفعلوا شيئا من قبل في هذا المجال، وأن هذا الصندوق الأسود الذي هو الدماغ البشري قد بقي مقفلا على سواده قبل أن تتوجه هي بنظريتها لفتحه.

وهي تعرف ربما أن العلاقة بين الفكر واللغة في الدماغ البشري واحدة من أكثر المواضيع تعقيدًا وإثارة للبحث في علم الأعصاب الحديث. ومع تطور تقنيات تصوير الدماغ والتقنيات الإدراكية، توصل العلماء إلى عدد من الاكتشافات المهمة التي أعادت تشكيل الفهم التقليدي لهذه العلاقة، منها مثلا أن الفكر واللغة ليسا الشيءَ نفسه، وأن اللغة، التي هي أداة للتعبير عن الفكر، ليست مرادفة له. وأن الدماغ يمكنه التفكير دون استخدام اللغة، كما يظهر ذلك في الحساب الذهني والتصورات المجردة والموسيقى، والحدس أو اتخاذ القرار السريع.

وقد وجد هؤلاء العلماء أن الأشخاص الذين يعانون من حبسة لغوية (فقدان القدرة على الكلام) يحتفظون بقدرات تفكير وتجريد تمكنهم من الفهم دون استخدام الواسطة اللغوي؛ مثلما وجدوا أن اللغة تعزز الفكر المجرد والمعقد وتمكّن الدماغ من التعبير عن الأفكار وتوضيحها. وربط المفاهيم وبناء سرديات معقدة يمكن للغة أن تساعد على تنظيمها، ولكنها لا تحددها بصورة نهائية. كما أن دراسات التصوير العصبي أظهرت أن التفكير اللفظي يستخدم شبكات دماغيةً مختلفة عن التفكير غير اللفظي..إلى آخر ذلك من هذه المعلومات التي ليس لي غير نقل ما هو موجود منها في مواقع البحث الخاصة بها، ولكن حصيلتها هي أن من فتح هذا الصندوق الأسود ليس السيدة سناء بوسائلها وتصوراتها النظرية المجردة، وإنما هم هؤلاء العلماء بوسائلهم العلمية الخاصة. فيما تعتمد هي بشكل أساسي على نظرية الجشتالت في الإدراك الكلي للظواهر والتبصر الذهني الخاص بعلم النفس الإدراكيّ، ولا تلتفت إلى ما وجه لهذه النظرية التي ظهرت في ألمانيا مطلعَ القرن الماضي من نقد بأنها غير قابلة للقياس التجريبي بدقة. وأنها تُركز على الإدراك البصري، لكنها أهملت العمليات العقلية الأخرى كالذاكرة والانتباه واللغة. وأنها لم تُقدم تفسيرًا كافيًا للأساس العصبي للإدراك (وهو ما بدأت علوم الأعصاب الإدراكية بتفسيره لاحقًا).

هذا من الجانب العلمي الصرف أو نقطة الانطلاق العصبية لما تسميه (نظرية الصفر اللغوي).

وثمة جانبان آخران تم إغفالهما أو لم تجر الإشارة إليهما بأمانة علمية وموضوعية كافية في حديث الدكتورة البياتي عن هذه النظرية:

الأول هو علاقة جهودها الخاصة بتيسير النحو العربي وتركيب الجملة العربية ومنهج القدماء ذي الطبيعة المنطقية الصورية في دراستها، بما سبقها من جهود عربية قديمة وحديثة في هذا الباب.

والدكتورة سناء تعرف بالتأكيد أكثر مني بحكم اختصاصها، بعلماء اللغة العرب المعاصرين الذين دعوا قبلها إلى تيسير النحو مثل إبراهيم مصطفى (1888–1962)، صاحب كتاب “إحياء النحو” (1938)، ويُعد من أوائل من نادوا بضرورة تحرير النحو من قيوده التقليدية، واقترح تبسيط المصطلحات، وإلغاء التعليلات المعقدة، والاكتفاء بما يخدم الفهم. وأمين الخولي (1895–1966) الذي دعا إلى ضرورة فهم النحو في ضوء وظيفته لا بنيته الصورية، وربطه بالبلاغة والتفسير. وشوقي ضيف (1910–2005) في كتبه التعليمية، التي سعى فيها إلى تقديم النحو بطريقة مبسطة وحديثة، وقلّل من عرض الشواهد النادرة والخلافات المذهبية. وعبد العزيز الميمني، ومصطفى الغلاييني اللذين قدّما كتبًا نحوية مبسطة للطلبة، واهتما بـ”الوظيفة التعليمية للنحو”. وتمّام حسان (1918–1990) في كتابه “اللغة العربية: معناها ومبناها”، حيث قدّم رؤية بنيوية لسانية جديدة للنحو، تعتمد على السياق لا على الإعراب التقليدي. واقترح اعتماد النحو الوظيفي القائم على المعنى والسياق، وتجاوز التصنيف النحوي القديم. وعبده الراجحي (1937–2010) أحد أبرز علماء النحو المحدثين الذين دعوا إلى تجديده من الداخل، وإعادة ترتيب أبوابه بطريقة تعليمية مبسطة. ورمضان عبد التواب، الذي تناول طرق تعليم النحو، وركّز على وظيفية القاعدة النحوية بدلًا من تعقيدها بالشواهد والمذاهب. ومهدي المخزومي عالم النحو العراقي في جهودة الخاصة بنقد نحو القدماء وتوجيهه هذا النحو بطريقة منهجية ليست بعيدة عما تقول به الدكتورة البياتي، خصوصا في كتابه المهم (في النحو العربي: نقد وتوجيه) (١٩٦٤) الذي قدّم فيه نقدًا شاملًا للمنهج النحوي العربي الكلاسيكي، ورأى أنه قد أصبح عائقًا أمام تعلم العربية بسبب من التوسع في التعليلات العقلية التي لا تفيد المتعلم. والخلافات المذهبية بين البصريين والكوفيين التي ترهق الطالب دون طائل والتمسك بالشواهد الشاذة والنادرة. وقد دعا إلى الابتعاد عن النحو القائم على الجدل والمنطق الصوري، واقترح العودة إلى الوظيفة اللغوية للعنصر النحوي، أي أن يُفهم النحو من خلال السياق لا من خلال الإعراب الشكلي. الأمر الذي تكرره الدكتورة البياتي في محاضراتها أمام المختصين وغير المختصين في أحيان كثيرة بنفس الطريقة تقريبا.

الثاني يتصل بجهود علماء اللغة الغربيين

إذ تُعدّ مسألة العلاقة بين الفكر واللغة من القضايا المركزية في الفلسفة واللسانيات الحديثة، وقد شغلت حيزًا واسعًا من التأملات المعرفية. وفي هذا السياق، تتقابل رؤيتان متميزتان: الأولى يمثلها اللساني الأمريكي نعوم تشومسكي، والثانية الفيلسوف النمساوي البريطاني لودفيغ فينغنشتاين، وخاصة في مرحلته الفلسفية المتأخرة.

يرى تشومسكي أن الفكر سابق على اللغة ومتجاوز لها، إذ يؤمن بأن الإنسان مزوّد منذ الولادة بما يُعرف بـ”الملكة اللغوية” (Language Faculty)، وهي بنية معرفية فطرية تُنتج “لغة داخلية” تُسمى أحيانًا language أو mantles. وفي ضوء هذه الرؤية، يُفترض أن الأفكار تنشأ داخل الدماغ بمعزل عن اللغة المنطوقة، وأن اللغة ما هي إلا وسيلة لاحقة لصياغة هذه التمثيلات الذهنية وتوصيلها. وبذلك، يقرّ تشومسكي بوجود فكرة مجردة في الدماغ غير مرتبطة بالضرورة بالقالب اللغوي الظاهر، ويمنح الفكر استقلالية نسبية عن اللغة في مستواه التكويني الداخلي.

في المقابل، يُقدم فينغنشتاين المتأخر، في كتابه “بحوث فلسفية” (Philosophical Investigations)، موقفًا مغايرًا يقوم على أن اللغة ليست فقط أداة للتعبير عن الفكر، بل هي الإطار الذي يتشكل فيه الفكر ذاته. فالكلمات، في نظره، تكتسب معناها من خلال الاستخدام داخل ما يسميه بـ”ألعاب اللغة” (language-games)، وهي ممارسات لغوية ذات طابع اجتماعي وثقافي. ووفقًا لهذا التصور، لا يمكن الحديث عن “فكرة” مستقلة عن اللغة، إذ إن ما نسميه “تفكيرًا” ليس إلا جزءًا من فعل لغوي وسلوكي مشروط بسياقات الاستعمال.

وعليه، فإن الفارق الجوهري بين الرؤيتين يكمن في أن تشومسكي ينطلق من منظور معرفي – عقلاني يرى الفكر كيانًا سابقًا ومتعاليًا عن اللغة، في حين أن فينغنشتاين ينظر إلى الفكر باعتباره نشاطًا لغويًا غير ممكن خارج شروط الاستخدام والسياق الاجتماعي. هذا التباين لا يعكس مجرد اختلاف في المنهج، بل يؤسس لرؤيتين متباينتين في فهم طبيعة العقل البشري وحدود اللغة ودورها في تشكيل الوعي والمعرفة.

كل هذه الجهود تتجاوزها الدكتورة البياتي أو أنها تختار منها ما يتناسب مع نظريتها الجديدة وتترك ما توصل اليه هذا العالمان وغيرهما من جهود في هذا الباب. وهي ترى مثلا أن تشومسكي في النحو الكلي أو النحو التوليدي لم يستطع أن يتوصل إلى ما توصلت إليه من معرفة بمراحل اللقاء بين اللغة والفكر في الدماغ البشري بالطريقة الآلية التي حددتها وفق تصوراتها النظرية دون أسانيد علمية كافية. أما الشواهد القرآنية وغير القرآنية التي اعتادت الدكتورة البياتي الاستشهاد بها في محاضراتها ولقاءاتها المتعددة، فليست جديدة، وأغلبها مما جرى التمثيل والاستشهاد به من قبل من ذكرت من علماء النحو المتقدم ذكرهم. وليس لها، هي الأخرى، كبيرُ علاقة بنظرية الصفر اللغوي المفترضة.

غير أن ما يسجل للدكتورة البياتي بالارتباط بهذه النظرية أو بدونها هو فهمها الصحيح لضرورة التغيير في المناهج الخاصة بنظرية العامل في النحو، والحاجة إلى إقامة تصنيف جديد لتعليم النحو على أسس منهجية جديدة تُعنى بملاحظة تركيب الجملة العربية وطريقة الإسناد فيها وما يتصل منها بحركات الإعراب وأدوات الربط، ونوع الزمن الناتج عن تركيبها.

وهي، كما نرى، أمور ليست جديدة تماما إللهمّ إلا في طريقة عرضها، فضلا عن أن علاقتها بالصفر اللغوي التي تعني الدكتورة سناء أكثر من غيرها تكاد تكون معدومة.

***

د. ضياء خضير

 

في المثقف اليوم