قضايا
عبد السلام فاروق: مات الربيعي.. وماتت معه سردية هشة بلا جذور!

للأسف الشديد، رغم رحيل فاضل الربيعي، رحمه الله تعالى، لن يغلق ملفه الذي اشتعل بالتناقضات كالنار في الهشيم.. أسئلته التي حولها إلى حقائق مطلقة تذكرنا بخطاب الديماغوجيين الذين يصنعون اليقين من فراغ.. فكيف يختزل تاريخ الأنبياء وحضارات الشرق إلى مجرد خرائط يمنية متخيلة؟
فخ التلفيق..
ليس الخلط بين صموئيل النبي والسموءل الشاعر سقطة عابرة.. بل هو تعبير عن منهج يطحن الوقائع لينتج منها مسحوقًا لأسطورة يمنية تبتلع كل شيء.. ألف وخمسمائة عام تلغى بنفس واحد.. وكأن الزمن كرة طينية يشكلها الربيعي كيفما شاء.. ثم يأتي إنكار السبي البابلي والصراعات الآشورية ليكتمل المشهد.. فهل كل المؤرخين والأركيولوجيين الذين أثبتوا هذه الأحداث عبر قرون من البحث مجرد خونة للحقيقة؟
عندما يصر الربيعي على أن اليمن هي الهند القديمة.. وأن الرومان غزوا اليمن بدل فلسطين.. وأن رسائل تل العمارنة مزورة.. فإنه لا يقلب الجغرافيا فحسب.. بل يمحو الهويات.. كيف لليمين أن تكون مهد اليهودية بينما آثارهم وقصصهم منقوشة في كل حجر فلسطيني؟.. وكيف ينكر وجود الهيكل في القدس بينما قبور الأنبياء في الخليل تشهد على عمق التاريخ الفلسطيني؟.. أليس في هذا إعادة إنتاج للرواية الصهيونية التي تبحث عن جذور وهمية خارج فلسطين؟
لا يكفي أن ننقد الربيعي.. بل يجب فضح آلية تلاعبه.. فهو يستند إلى الهمداني كما لو أن كتاباته قرآن نزل من السماء.. ويتجاهل أن الهمداني نفسه كان يؤرخ لليمن لا لسرقة تاريخ الشعوب الأخرى.. فلماذا لا نسأل الربيعي عن السر في غياب أي دليل أثري يمني يدعم نظريته؟.. أين آثار هيكل سليمان المزعوم في السراة؟.. وأين شواهد غزو الإسكندر لليمن؟.. لماذا لا نرى إلا كلامًا مرسَلًا يتحوَّل إلى "حقيقة" بمجرد تكراره على الشاشات؟
من يحمي التاريخ من التشويه؟
مدرسة الربيعي وديب وأحمد الداوود ليست امتدادًا لكمال الصليبي.. بل هي نسخة مشوهة.. فالصليبي كان يملك منهجًا يقترب من العلم رغم اختلافنا معه.. أما هؤلاء فيحولون التاريخ إلى لعبة بلا قواعد.. يرفضون علم الآثار حين يعارضهم.. ويستدعون التوراة حين يحتاجون إليها.. وينتقي الربيعي من الباحثين الغربين ما يعزز روايته.. ويتناسى أن هؤلاء أنفسهم لم يجرؤوا على نقل أحداث التوراة إلى اليمن.. فلماذا يسبقهم هو إلى هذه المغامرة المجنونة؟
أسئلة حائرة.. تنتظر إجابات
لو وقف الربيعي أمام مرآة النقد الحقيقي.. لسقطت كل أقنعته.. كيف تتعامل مع نفي وجود الكنعانيين في فلسطين رغم أن أسماء مدنهم مذكورة في رسائل تل العمارنة؟.. وكيف تفسر وجود لغة كنعانية في النقوش الفلسطينية؟.. ولماذا ترفض أن يكون فرعون مصريًا بينما أهرامات الجيزة شاهدة على عظمة حضارته؟.. أليس إنكارك للكنعانيين إلغاء لتاريخ فلسطين نفسه؟
كاتب لا مؤرخ!
لا ينكر أحد على الربيعي براعته السردية.. لكن الرواية الأدبية غير البحث التاريخي.. فالأولى تلهو بالخيال.. والثاني يقيده الدليل.. خطورته تكمن في تزييف الوعي عبر خلط الأوراق.. فالشاب الذي يسمع أن الهيكل في اليمن.. وأن فلسطين ليست أرض الأنبياء.. سينسلخ عن تاريخه دون أن يدري.. وكأن الربيعي يكتب رواية بوليسية.. يمحو فيها الجريمة وينقلها إلى مكان آخر..
الفلسطينيون ليسوا بحاجة إلى منقذ يخترع لهم تاريخًا بديلًا.. فترابهم ينطق بالكنعانيين.. وحجارة مدنهم تحكي قصص الأنبياء.. الربيعي ومن على شاكلته يحاولون إنقاذنا بوهم.. لكن الأمة التي تهزم ذاكرتها تهزم حاضرها.. التاريخ ليس ساحة لتصفية الحسابات.. بل هو جذور ننتمي إليها.. أو نندثر بلا هوية.
تحريف روايات التاريخ..
اليوم رحل الدكتور فاضل الربيعي تاركا وراءه إرثا فكريا يثقل كاهل النقاش التاريخي بأسئلة ملحة: هل يمكن اختزال جغرافيا التوراة وقصص الأنبياء في رقعة ضيقة من الأرض؟ وهل يصح أن نعيد كتابة التاريخ عبر تخيل يلغي آلاف السنين من التراكم الحضاري؟
لم يكن الربيعي مجرد باحث يطرح فرضيات قابلة للنقاش، بل تحول إلى ظاهرة ثقافية ترفض العمل تحت سقف الشك العلمي. أخطاؤه الفادحة، مثل خلطه بين النبي صموئيل (القرن العاشر ق.م) والشاعر السموءل (القرن السادس ميلادي)، ليست مجرد هفوات، بل مؤشر على منهجية تتعامل مع التاريخ كـ"بازل" يفكك ويعاد تركيبه وفق هوى النظرية. فكيف يعقل أن تختزل 1500 سنة من الزمن في شخصية واحدة؟!
تتسع فجوات الربيعي عندما ينفي وقائع تاريخية مجمعا عليها، كالسبي البابلي أو الصراع الآشوري-المصري، مصرا على أن كل الأحداث التوراتية جرت في اليمن، والتي يسميها "الهند القديمة"! هنا، لا يكتفي برفض الآثار الكنعانية المنتشرة في فلسطين، بل يمحو دور حضارات الشرق الأدنى لصالح سردية يمنية ضيقة. فهل يعقل أن تكون رسائل تل العمارنة – التي تتحدث عن ممالك كنعانية – "مُزورة" أو "يمنية الأصل" دون دليل؟
الأخطر في أطروحات الربيعي هو نزع القداسة عن فلسطين كأرض الأنبياء، وإعادة تركيز كل شيء في اليمن، ما يخدم – ولو غير مقصود – روايات تهمش البُعد العربي الفلسطيني. فقوله إن اليمن هي مهد اليهودية، وأن هيكل سليمان بني في سراها، ليس مجرد تحريف جغرافي، بل إنكار لتاريخ فلسطيني متجذر.
بين كمال الصليبي وفاضل الربيعي: أيهما نصدق؟!
إذا كان كمال الصليبي نقل أحداث التوراة إلى عسير، فإن الربيعي حولها إلى اليمن، معتمدًا على المصدر نفسه: الهمداني. لكن هل تكفي إشارات الهمداني – رغم أهميتها – لإعادة تشكيل تاريخ ضارب في القدم؟ أليس في إغفال التنقيبات الأثرية، واستبعاد علماء مثل: إسرائيل فنكلشتين الذي يشكك في التطابق التوراتي-الفلسطيني، تناقض منهجي؟ فحتى المشككون في التوراة لا ينقلون أحداثها إلى اليمن!
أسئلة تبحث عن إجابات
لو أجري حوار جاد مع الربيعي، لكانت هذه الأسئلة جمرًا تحت الرماد:
- كيف تفسر وجود قبور الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب في الخليل إن كانت قصصهم حدثت في اليمن؟
- إذا كان جالوت هو "جاليوس الروماني"، فكيف نوفق بين زمن داود (1000 ق.م) والوجود الروماني (القرن الأول ق.م)؟
- أين الدليل الأثري اليمني على غزو الإسكندر أو الحملة الرومانية عام 70م؟
لا ننكر على الربيعي جرأته في تحدي السرديات، لكن الفرق بين التحدي العلمي والانزياح التخيلي هو الدليل. التاريخ يبنى باللقى الأثرية، والنصوص الموثقة، والقراءة النقدية، لا باليقين المطلق الذي يلوي عنق الحقائق. قد يكون الربيعي كاتبًا ملهِمًا، لكن الباحثين الحقيقيين مطالبون بحماية التاريخ من أن يصير أسير نظريات تختزله إلى خرائط وهمية.
في النهاية، لا تصلح قراءة الماضي إلا بالاعتراف بتعقيده، فالحضارات لا تنبع من بئر واحدة، ولا تختزل في قرية ضائعة.
***
د. عبد السلام فاروق