أقلام فكرية
غالب المسعودي: نقض الفطرة الأخلاقية وبناء الكائن المعياري

التأصيل الفلسفي للأخلاق الطبيعية
إن مهمة نقض الفطرة الأخلاقية كمصدر للمعيارية تقتضي فهماً عميقاً لجذور هذه الفكرة الفلسفية وتأثيرها التاريخي. فالفطرة الأخلاقية تستند إلى فرضية وجود مبادئ قبلية كامنة في الطبيعة البشرية، يمكن للعقل أو الروح اكتشافها.
كان مفهوم الفطرة موضع خلاف فلسفي جوهري منذ العصور الكلاسيكية. وقد اعتُبر عنصراً أساسياً في حل قضايا رئيسية تتعلق بالأخلاق، والدين، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقيا. على سبيل المثال، اتفق الفيلسوف لايبنتز مع أفلاطون على أن مسألة الفطرة هي موضع الخلاف الأكثر أهمية بينه وبين لوك. وقد شكك لايبنتز في أن معارضة لوك لمذهب الفطرة كانت هجوماً غير مباشر على الروحانية، وتحدياً لفكرة الحياة الآخرة والخلود، مما يهدد الدين والأخلاق والنظام العام. وهذا يكشف أن تأييد الفطرة الأخلاقية كان يعني تأسيس الأخلاق على مبادئ كونية غير قابلة للتساؤل، مما يربطها بالثبات الميتافيزيقي ويضفي الشرعية المطلقة على النظام القائم. تعززت هذه المرجعية من خلال المدارس الكلاسيكية، كالأخلاق الأفلاطونية التي تُعد مثالاً أولياً للأخلاقيات المبنية على أساس التعالي/السمو. فقد تأثر أفلاطون بالفيثاغورثيين في تبنيه فكرة أن النظام الإلهي الذي يهيمن على الكون ذو طبيعة رياضية، وأن الروح حبيسة في الجسد، ولا تتحرر إلا عن طريق حياة منسجمة مع هذا النظام (مثل الطهارة، والتنسك، والعدالة). وعليه، كانت الأخلاق الفاضلة عند أفلاطون عملية اكتشاف للنظام الكوني المنسجم عبر العقل، وليست بناءً أو إنشاءً بشرياً.
تعريف الكائن الأخلاقي المعياري والنسبية الأخلاقية
بعد تحديد الفطرة كمرجعية قبلية ميتافيزيقية، ننتقل إلى توضيح ما يعنيه بناء "كائن أخلاقي معياري"، والنسبية الأخلاقية. يُعرّف المعيار فلسفياً بأنه "نموذج أو مقياس مجرد لما ينبغي أن يكون عليه الشيء". ويتوقف تقييم السلوك على وجود هذا المعيار المُبرَّر أخلاقياً بشكل كافٍ، والذي يشترط الوضوح، والدقة، والثبات، والاستقلالية. تمثل النسبية الأخلاقية النتيجة العملية المترتبة على ضعف الأسس المطلقة التي كانت تدعمها الفطرة. النسبية الأخلاقية هي وجهة نظر برزت في القرن العشرين (وإن كانت لها جذور قديمة)، وتقول بأن جميع الأحكام الأخلاقية ومبرراتها ليست مطلقة أو موضوعية، بل نسبية؛ وتتعلق بتقاليد ومعتقدات وممارسات مجموعة من الأشخاص، بل وتتغير هذه المعايير بمرور الزمن حتى في الثقافة الواحدة.
أدت حقبة ما بعد الحداثة، بنقضها للسرديات الكبرى والمبادئ الأخلاقية المطلقة، إلى ظهور سيولة أخلاقية وفقدان الأسس الصلبة والمرجعية الموجهة. ففي حين كانت الفطرة الأخلاقية تزعم بوجود قيم إنسانية كونية مطلقة يستشعرها كل إنسان سويّ، فإن النسبية الثقافية تعتبر التنوع والاختلاف دليلاً على أن القواعد الأخلاقية مُصنَّعة اجتماعياً، لا مكتشفة فطرياً. إن نقض الفطرة بفضل حجج هيوم ومور يخلق فراغاً في الأساس المطلق، مما يفتح الباب أمام النسبية كإطار لوصف وتبرير التنوع الأخلاقي. يرى النقاد أن هذا التفكك يشكل تهديداً خطيراً؛ إذ إنه إذا لم يوجد معيار أو مبدأ مطلق أو موضوعي واحد لتطوير نظام أخلاقي موضوعي، فـ "عندها يصبح كل شيء مباح" (في إشارة إلى العدمية الأخلاقية). هذا الوضع يضع ضغطاً هائلاً على النظم المعيارية المُصنَّعة لإثبات قدرتها على توليد معيار كوني وملزم رغم انطلاقها من أسس غير طبيعية.
النفعية كآلية حسابية للأخلاق
تنقل النفعية مركز التفكير الأخلاقي من مبحث يتركز حول الواجبات (كما عند كانط والرواقيين) إلى مبحث يتركز حول الخير الأسمى (والذي يُعرّف عادةً بأنه السعادة أو المنفعة)، حيث يتم تحديد صواب وخطأ الفعل بناءً على النتائج التي يحققها. النفعية هي نظام معياري مُصنَّع تجريبياً بامتياز. فبدلاً من البحث عن أساس ميتافيزيقي للخير (كالفطرة)، أو أساس عقلي (ككانط)، تقوم النفعية بصياغة القوانين الأخلاقية من خلال حساب النتائج الواقعية. الفعل الصحيح هو الذي يحقق أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الناس. وهذا يعني أن المعيار ليس ثابتاً بشكل مطلق، بل يتطور ويتم تعديله بناءً على المآلات التجريبية. هذا التحول الفلسفي يفصل الأخلاق تماماً عن أي أساس ميتافيزيقي أو فطري، ويعتبر أن المسائل الأخلاقية قابلة للحل عبر تقييمات واقعية تتعلق بالطبيعة والسلوك البشريين.
العقد الاجتماعي كآلية إجرائية للبناء الأخلاقي
في سياق بناء الأنظمة المعيارية، يمثل العقد الاجتماعي آلية إجرائية لتوليد القواعد الأخلاقية والسياسية بالاتفاق، بعيداً عن أي أساس فطري. لا تعتمد المقاربات المعاصرة للعقد الاجتماعي بالضرورة على بديهة فطرية، بل تستخدم آليات مثل المساومة أو التجميع للوصول إلى اتفاق يحدد القانون الأخلاقي والاجتماعي. يهدف العقد الاجتماعي إلى تحقيق الشرعنة العامة للقوانين، مما يجعله بناءً إجرائياً ناتجاً عن تفاوض بين الأطراف المفترضة، بدلاً من أن يكون اكتشافاً لقانون طبيعي. هذا المنهج يوفر بديلاً لنظريات القانون الطبيعي أو الحقوق الطبيعية القائمة على البديهة. ومع ذلك، فإن نقض الفطرة يؤدي إلى نقد النفعية والعقد الاجتماعي، حيث يبرر كلاهما الحقوق الفردية بناءً على مبدأ المنفعة. وإذا فشلت الفطرة في توفير أساس مطلق للحقوق، فإن الكائن الأخلاقي المعياري المبني على أسس نفعية يواجه خطر أن تكون حقوقه عرضية ومرهونة بالمنفعة العامة.
البناء بدلاً من الإيقاظ والتحديات الحديثة
في ظل النقض الفلسفي للفطرة، تتحول التربية الأخلاقية من مجرد "إيقاظ" لمبادئ فطرية إلى عملية "تشكيل" مستمرة للوعي الأخلاقي والسلوك. وهي عملية تنموية مستمرة تهدف إلى تعزيز القيم الإنسانية الإيجابية لدى الأفراد وتكوين شخصية متوازنة ومسؤولة. ففي الإطار البنائي، يتم غرس هذه القيم بما يتوافق مع المعايير الأخلاقية والاجتماعية السائدة في المجتمع. وهذا يؤكد أن المعيار الأخلاقي ليس مبدأً جوهرياً مكتشفاً، بل نموذجٌ يتم تركيبه وتطويره عبر عملية تعليمية شاملة، بدءاً من الأسرة وصولاً إلى المدرسة والمجتمع ككل. ويشدد هذا التوجه على أهمية التفاعل والتدريب بدلاً من الاعتماد على مصدر فطري.
تُثبت النماذج المعيارية المبنية فعاليتها في مواجهة تحديات لم تكن متوقعة وقت صياغة نظرياتها، مما يدل على قوة المنهج الإجرائي مقارنة بالاعتماد على الفطرة المحددة. على سبيل المثال، لا تخلق القضايا البيئية مبادئ أخلاقية جديدة، لكنها تلزمنا باستخلاص عواقب جديدة من المبادئ القديمة، وإعادة تصورها. يمكن تطبيق مبادئ كانط، مثل الأمر المطلق، على علاقتنا بالطبيعة والأجيال القادمة من خلال تعميم القواعد على مستوى الكوكب والأزمنة. كذلك، تجد مبادئ كانط (كاحترام الاستقلالية ومعاملة الإنسانية كغاية) تطبيقات متطورة في الأخلاقيات التطبيقية الحديثة (مثل الأخلاقيات الطبية الحيوية)، حيث يعكس مفهوم الموافقة المدروسة مبدأ احترام استقلالية الشخص.
الخلاصة
إن عملية نقض الفطرة الأخلاقية كمصدر لبناء كائن أخلاقي معياري هي عملية فلسفية مزدوجة، تتطلب تفكيكاً ميتاأخلاقياً للأساس الطبيعي، وإقامة بناء منهجي بديل للأساس المعياري. يتم النقض بنجاح عبر الأدوات التي قدمها ديفيد هيوم (إشكالية الكينونة والواجب، والتي تفصل الواجب عن أي حقيقة وصفية)، وعبر جورج إدوارد مور (مغالطة المذهب الطبيعي، الذي يثبت استقلالية مفهوم الخير عن أي تعريف تجريبي)، وهذا يرسخ استقلال الأخلاق عن الطبيعة. إن هذا النقض يترك فراغاً يستوجب عملية "بناء" للكائن الأخلاقي المعياري. وأخيراً يُنظر إلى نقض الفطرة على أنه ضرورة منهجية لإقامة علم أخلاق مستقل وكوني. غير أن هذا النقض يورث الأنظمة المبنية تحدي إثبات أن الإلزام الناتج عن العقل البشري أو الحساب التجريبي يمتلك قوة الإلزام المطلق والشمولية التي كانت تُنسب في السابق للمبادئ الفطرية والكونية.
***
غالب المسعودي
.........................
المصادر
الخلافات التاريخية حول مفهوم الفطرة - مجلة حكمة
الفلسفة/الأخلاق/الأزمنة القديمة/أخلاق افلاطون - ويكي الكتب