أقلام فكرية

رحموني عبد الكريم: الفلسفة فريضة التفكير

التفكير الفلسفي المعطيات والعلامات

للتفكير الفلسفي علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكي، يحوكها العالم وينسج على منوالها، يعشقها الفيلسوف، ويتشبث بها كل محب للحكمة الفلسفية والباحث عن الحقيقة المعرفية.

هذه العلامات صفاء في الفكر، واستقامة في التأمل، وإثارة للسؤال المنقب في حيثيات الموضوع بغية إشباع الفضول، وخلخلة للمفاهيم الجاهزة بغية إصلاح الذات المفكرة.

تلك وظيفة الفلسفة التي أتى عليها حين من الدهر لم تكن مذكورة، أو كما أرادها الدهماء ألا تذكر أبدا، لأنها قطعت ردحا من الزمن تبهرهم بإشكالاتها وتقلقهم بتساؤلاتها، وتجعلهم في مرية وحيرة.

ألم يتجرع سقراط كأس المنون في سبيل إثارته السؤال؟

ألم ينقلب الخليفة العباسي المتوكل بالله سنة (232 م) على المعتزلة وهم كالطود الشامخ في سبيل طرح سؤالهم الفلسفي الجريء: هل كلام الله قديم أم مخلوق؟

ألم يبعد الوليد بن رشد وتؤلب العامة عليه ويكفر بسبب تساؤله الفلسفي؟

وفي عصرنا وأد الفكر واغتيال الرأي وتحريم التفلسف، قتل فرج فودة سنة 1992 بسب كتابه " الحقيقة الغائبة " الذي طرح فيه سؤال فلسفي لماذا المسلم يقتل المسلم؟

متتبعا كرنولوجيا محنة القتل بين المسلمين منذ سقيفة بني ساعدة إلى غاية عصره، يقول فرج فودة: « ما حدث لعثمان عند مقتله، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم، وقد تتصور أن قتلتة عثمان قد أشفوا غليلهم بمصرعه على أيديهم، وانتهت عداوتهم له بموته....»1

يضف فرج فودة قائلا وهذا الكلام سبب اغتياله:« تقبل منهم دعوتهم للدولة الدينية وهم لا يتمسكون من الدين إلا بالقشور، ولا يعرفون من العقيدة إلا مظهرها الذي لا أصل له في كتاب الله، ولا سند له إلا التأسى بالرسول في مسايرته لعصر غير عصرنا، ولمجتمع يختلف جملة وتفصيلا عن المجتمع الذي نعيش فيه، وليتهم تأسوا به وهو يدعو للرحمة، ويستنكر قتل المسلم للمسلم، ويدعو لطلب العلم ولو في الصين، ويستنكر اعتزال العمل للعبادة...هؤلاء قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرها بكره، ولفظوه فحق له أن يلفظهم، وأدانوه بالجاهلية فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغلاق الذهن...»2

كذلك لم يخلو عصرنا من محنة التكفير فتخطف شبح الإرهاب الشهيد سعيد حسين مروة سنة 1989 نتيجة سؤاله حول التراث الإسلامي في مشروعه الضخم " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، وتراثنا كيف نعرفه؟

كما اعتبر ناصر حامد أبو زيد زنديقا مرتدا ومحمد أركون كافرا، نتيجة تساؤلهما حول الخطاب الديني وطرح سؤال النقد الابستيمي لهذا الخطاب.

الدور اليوم على يوسف الصديق صاحب مؤلف " هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها " وفي القراءة الواعية من طرف المفكر يوسف الصديق التدبر؛ وفي التدبر إثارة السؤال وفي السؤال خلخلة الخطاب الديني المحاط بترسانة دغمائية فقهية، بعيدة عن سبر الأغوار.

من هنا وجب العقل المؤول في الفكر الإسلامي، لا عقل مفسر محكوم بمرجعية سطحية تقدم تفسيرات لا تتماشى والعصر، وعليه ما هو هذا العقل الذي يضفي على تفسيراتنا وتأويلاتنا طابع اليقين؟

رشيد أيلال السؤال الفلسفي، الشك بغية اليقين:

رشيد أيلال صاحب كتاب " صحيح البخاري نهاية أسطورة " يطرح سؤالا فلسفيا نقديا في علم الحديث، فبقدر ما كان التساؤل الفلسفي قويا، كان البحث أيضا قويا في الحديث الصحيح من الحديث المعتل؛ سؤال البحث عن المقدس من المدنس فلا غرابة أن يكفر اليوم رشيد ويهدر دمه.

كثيرا ما يكون لصوق الكفر بالذي طرح السؤال حول الخطاب الديني في سياق المساءلة النقدية، مساءلة القراءة الواعية في فك معاني الخطاب، وفهم فحواه وتفسير دلائله، وحول الأساس المعرفي لتلك القراءة المتعدية إلى خلخلة الخطاب الفقهي، وجعل منه خطابا يبتعد عن النمطية المتكلسة في التفسير، ويتعدى ذلك إلى تأويل المعاني البعيدة التي تختفي وراء دلالات الخطاب، فكان طرح الكاتب رشيد نموذجا للبرهان العقلي الفلسفي اليقيني يقول الوليد بن رشد :« إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل.»3

والتأويل من سيمة الحكمة الفلسفية؛ والحكمة الفلسفية من سيمة الفيلسوف، فلا غرابة أن يكون التكفير لصوق بالفلسفة التي تقلق الفقيه القابع على سطحية التفكير دون سبر الأغوار، تاركا النظر في الأمور الجليلة الدقيقة، لا يغوص في بحر الفكر يستخرج درره المغمورة ونفائسه الدفينة يلمعها، يصقلها لتسر الناظرين يقول إسحاق بن وهب:« فإذا تفكر الإنسان وتدبر ونطر واعتبر وقاس ما يدله عليه فكره بما جربه هو ومن قبله، تبين له ما يريد أن يتبينه وظهر له معناه وحقيقته.»4

وعليه ليست الفلسفة مجرد أفكار ونظريات جاهزة، بل هي قبل كل شئ نشاط وفعالية يقوم بها عقل له أسسه وقواعده ومعاييره في التفكير؛ يمارسها العقل المفكر بناء على مناهج واستدلالات، تستنطق الفلسفة وتمدها بالتربة الصالحة لإنتاج مدلولات جديدة هي أصل التفكير، إذن الفلسفة فريضة للتفكير لا محنة التكفير.

***

رحموني عبد الكريم - باحث من الجزائر

.................

فرج فودة: الحقيقة الغائبة، ص 27.

فرج فودة: الحقيقة الغائبة، ص 34-35 .

ابن رشد: فصل المقال، ص 13 .

إسحاق بن وهب: نقد النثر، ص 9.

قائمة المصادر والمراجع:

1- إسحاق بن وهب: نقد النثر، مطبعة المكتبة العلمية، طبعة أولى سنة 1980، بيروت، لبنان.

2- الوليد بن رشد: فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال، مطبعة دار الآفاق الجديدة، طبعة أولى سنة 1978، بيروت، لبنان.

3- فرج فودة: الحقيقة الغائبة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة سنة 1988،  القاهرة، مصر.

في المثقف اليوم