أقلام فكرية

اسعد شريف الامارة: التفكير وترسباته!

(ثمة صوت لا يستخدم الكلمات .. أنصت إليه)... جلال الدين الرومي

هو ما نحمله في دواخلنا من تكوينات فرضية، ربما تتحول إلى سلوك وربما تذهب إلى عوالم القارة الواسعه الخفية وهي اللاشعور – اللاوعي، تستدرجنا هذه الأفكار، وهذا الصوت إلى مختلف التأويلات، جميلة كانت أم غير جميلة، ترجع تلك إلى تأويلنا لها، أو لنقل تفسيراتنا وربما نؤسس لها بناءًا جديدًا كلما فكرنا بها فتكون متباينة ومتنوعة تأخذ سياقات الفكرة التي كونها الفرد، وبالتأكيد تأخذ التبدل الوضعي وهي في عالم اللاشعور – اللاوعي، تفكيرنا يترك ترسبات حتى وإن بدا أنه ذهب ورحل عنا، وهربنا منه، ولنقل عالجناه . بقايا التفكير لها فعل التفكير وقوته، أتحدث لكم عن بقايا التفكير، الفضلات التي يتركها التفكير فينا ونحن لا ندرك ماذا ترك فينا، أنه مدخل للاضطراب النفسي والعقلي وحتى الانحرافات مثل النرجسية والسيكوباثية وإنحرافات الشخصية والإنحرافات الجنسية، إذا ما أشتد وأصبح حينئذ التفكير هويتنا المعلنة، سمات شخصيتنا. ومن السمات التي تلازم وجودنا ونحن أسوياء مثل البخل والكرم، الأنانية والتسامح، العصاب الوسواسي، المخاوف وتوهم المرض، هو المدرك الذي لا يتغير، وإن لبس ثوب آخر مثل اكتساب العلم، أو التدين المفرط، ويمكننا القول هو يقودنا في كل سلوكنا في حالة الوعي. ومثل ما يحدث في حالة الأعصبة ومنها الإفراط في التذكر، فعودة التفكير النتن المؤثر في النفس هو مثل حالة الصدمة حينما تترك أثارها في البعض ويرى " عدنان حب الله" إن كلمة فرط تذكري تحيل على واقعة مؤقته هي تثبيث الحدث في الذاكرة التي تظل الذات متعلقة بها، والتي يتبين أن دورها يكون حاسمًا في متتالية الإضطرابات النفسية المرضية، وميزة هذا العصاب هي تثبيت الذاكرة وتعلقها، فالأفكار التي نتحث عنها وتركت ترسباتها ستؤدي حتمًا للعصاب، وهذا العصاب منشأه يعود إلى الطفولة الأولى من حياة الإنسان . فترسبات التفكير وما يتركه من بقايا تؤثر وقول "سيجموند فرويد : تحل الخيالات محله في كل مرة، يكتسب فيها القوة اللازمة لتحطيم مقاومة الأنا، كل أعراض ومظاهر الحصر - القلق – الفوبيا – الرهاب، تنبثق عن التخييلات .

يقول " فرويد" عن التخييل في خطاب فليس أنه بناء دفاعي هو أعلاء وتجميل الواقع، وهو يقوم أيضًا بدور تبرير الذات كما دونته " نيفين زيور " في كتابها المهم التخييل دراسة في التحليل النفسي" وتضيف " نيفين زيور" وظيفة التخييل إنما هي خلق موقف يشبع الرغبة، وبما أننا نتحدث في هذه السطور عن الترسبات التي يتركها التفكير في دواخلنا، فإن التأكيد يدلنا على أن التنازل عن اللذات كان على الدوام أمرًا شاقًا، تألمت له نفس الإنسان، فهو لا يقدر على الحقيقة دون أن يعوضه على وجه من الوجوه، لذا أخرج الإنسان لنفسه لونًا من النشاط النفسي يتيح لمصادر اللذة المهجورة ولوسائل طلبها أن تبقى، وأن تحتفظ بوجودها في صورة تجعلها بمنجاة من مطالب الواقع، وتعفيها من اختيار الواقع " نيفين زيور، التخييل، ص17"، ولكن هذه الأفكار التي دفنت في عالم اللاشعور – اللاوعي لا تلبث كل رغبة أن تلبس اللبوس التي تبدو فيه راضية مشبعة، وهذا هو عودة إلى الترسبات من الأفكار غير المرغوب فيها، أو حتى المرغوب فيها تعود عن طريق الإعلاء– التسامي . هذه الترسبات لا تنتهي لأنها فضلات التفكير ورواسبه، ويعلم الجميع أن رواسب الأكل التي تطرحها المعدة إلى القولون وتخرج كبراز لكي يتخلص منها الإنسان فهي تحمل مختلف الروائح، ومختلف الأشكال الصلبة أحيانًا، والسلسة اللينة أحيانًا أخرى، ومرات تكون عسيرة ومزعجة، كذلك هو الحال في ترسبات التفكير وما تحمله من أشكال ربما تكون قوية على قدرتنا في التحمل فتذهب بنا إلى شيءٍ من اللاسوية.

يقول " سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي في كتابه ما فوق مبدأ اللذة في الفصل الرابع أن الشعور لا يمكن أن يكون أعم خصائص العمليات النفسية، بل أنه لا يعدو أن يكون وظيفة خاصة لهذه العمليات، ويضيف " فرويد" بأن كل عمليات الاستثارة التي تقع في المنظمات الأخرى تخلَّف وراءها آثارًا باقية تكون أساسًا تقوم عليه الذاكرة، وليس لمثل هذه البقايا في الذاكرة أية صلة بالشعور، أما إذا كانت هذه الآثار لاشعورية فلسوف تواجهنا، من الناحية الأخرى. وبناء على ذلك فإن مرض التفكير ليس لَهُ علاج حتى لو أستطعت أن تنام، ستحلم بما تُفكر به كما دون ذلك " آل باتشينو" وهو كلام صحيح تمامًا، ليس فيما نفكر به، بقدر ما يترك هذا التفكير فينا نزعات لا ندري مدى تأثيرها، رغم أن التفكير هرب إلى الحلم ليعبر عن ما يريد، طالما أن الحلم تحقيق مُقنع عن رغبة مكبوتة كما قال سيجموند فرويد، وهو أيضًا رغبة عند جاك لاكان، ونقول إنها رغبة غير متحققة في الواقع، فظهرت لاشعوريًا في مسارات أخرى ومنها الحلم، أو ربما الهفوات، أو زلة لسان، أو خاطرة " عَنتْ – مخيلتنا " عند البعض منا، هذا الخاطرة لن ولم تكون بلا معنى، أو صدرت عشوائيًا، إنها من بقايا التفكير وترسباته في لاشعورنا – لاوعينا، ويقول جاك لاكان نحن مسؤولون عن لاوعينا – لاشعورنا، ويضيف أيضًا قوله : الذات مسؤولة عن لاوعيها – لاشعورها، فهذه الترسبات في التفكير هي التي تنطلق من اللاشعور – اللاوعي فينا دون إستئذان، أو تَحكم منا، هي دواخلنا التي تحرك سلوكنا، هي مدركاتنا في الشعور – الوعي وتركت الأثر فينا، وحاولنا محو بعضها بوعينا، وإن نجحنا عادت مرة أخرى في ترسبات تفكيرنا حتى وإن استخدمنا محو المحو معها، لابد أن تعود وتشغل بالنا ووجودنا وحياتنا اليومية المعاشة . سؤالنا هي لغة غير معبر عنها بالكلمات ؟ أم هي أفكار لا يمكن السيطرة عليها؟ وربما نتفق مع جلال الدين الرومي بقوله: ثمة صوت لا يستخدم الكلمات .. أنصت إليه" .  

ونعيد تساؤلنا كيف يستطيع الإنسان أن يتخلص من رواسب التفكير التي علقت في لاشعورنا – لاوعينا ؟ هذا السؤال يقودنا إلى إجابة واحدة وهي نحن بحاجة إلى تداخل نفسي ليس جراحي بقدر ما هو علاج مرهون بما يبذله الفرد من جهد وبما يبديه من استبصار ومثابرة وقدرة على التكيف كما يقول "فرويد " في كتابه محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، ص 1" ويضيف " فرويد" ففي وسع المرء أن يتعلمه أولا بتطبيقه على نفسه إذ يقوم بدراسة شخصيته، إذن نتفق مع "فرويد" بأننا يمكن معرفة تلك الترسبات إذا استطعنا أن ندخل في جهاد مع أنفسنا لمعرفة ما لايمكن معرفته، وهي طريقة فرويد في التخلص من هذا الذي نعاني منه في بعض الأحيان حيث يقول : نريد من الشخص أن يكلمنا عما لا يعرف " فرويد، معالم التحليل النفسي، ص 110- 111". وتبقى هذه الكلمات والأصوات والأفكار، وما عنَّ لنا من خاطرة، في دواخلنا مخزونة، محفوظة في هذا الأرشيف غير المنته بالسعة، وهو اللاشعور – اللاوعي، يداهمنا في أية لحظة ولو كانت في أفكار مترسبة في أعماقنا.

***

د. اسعد شريف الامارة

في المثقف اليوم