قراءات نقدية
حبيب ظاهر حبيب: قراءة في مسرحية (الجدار) - الغلبة للمهرجين
(المسرح كالطاعون، ازمة تنتهي بالشفاء او الموت، والطاعون داء اسمى لأنه ازمة كاملة لا يبقى بعدها سوى الموت او اقصى التطهير، كذلك المسرح، لأنه التوازن الاعظم الذي لا يكتسب بلا هدم).. أنتونان آرتو.
قدم العرض الافتتاحي لمسرحية (الجدار) مساء يوم السبت ٩/ ١٠/ ٢٠٢٤ وبزمن قياسي مدته ساعتان ونصف، وهو زمن لم يشهده المسرح العراقي -ربما- منذ عقود، وحرص فريق العرض على ارساء وإحياء بعض تقاليد المشاهدة المحمودة مثل عدم دخول اجهزة الهاتف النقال، والحجز المسبق ودفع ثمن تذكرة الدخول.قدم العرض بسردية منطوقة من قبل المخرج سنان العزاوي والمؤلف حيدر جمعه، مع التدعيم بسردية مكتوبة/ مقروءة على شاشة، بقصد تهيئة المتلقي للدخول في أجواء العرض، في مكان يتم التعرف عليه تدريجيا على انه سجن او مصحة، ذلك أن جميع شخصيات العرض من غير الأسوياء نفسيا، حتى عازفة البيانو التي أغنت العرض بالعزف الحي لديها عقدة، حتى القائمين على السجن/ المصحة مملوئين بالعقد الناتجة عن ظروف معيشية قاهرة أو نتيجة تعرضهم لعملية الاغتصاب والتعذيب.
العرض مجموعة حكايات تجري في فضاء أبيض، بجدران شاهقة، وصورة التكوين الأول للعرض يشير بوضوح بأن أي محاولة لتسلق الجدار تبوء بالفشل، وأن ثمة من يراقب الأمور، وتوجد شخصيات تراوح مكانها (تكرر الحركة ذاتها) برفقة موسيقى البيانو.
جميع شخصيات بلا اسماء، ولكل شخصية حكاية أغلقت عليها الأبواب وسورتها الجدران، غلب على الحكايات طابع الجنس ( المثلية، زنا المحارم -اخ مع اخته - اب مع بنته، تبادل زوجات، اغتصاب طفل في الرابعة من العمر، ام قتلت بناتها …) أما شخصيات الجلادين فقد أعطاها الإخراج ملامح حيوانية (قرد، خنزير، فيل) اما سيد المكان الذي يحكم الجميع، ويتلاعب بمقدرات الناس ومصائرهم فهو (الجوكر/ المهرج) الذي يتلون بحسب المكان والزمان وحسنا فعل المخرج والمؤلف في انهم لم يجعلوه ينطق بكلمة ليبقى في إطار صورة تجريدية متحرك ومتناسب بقوة حضوره كما هو ورق اللعب، مع الإشارة إلى أن (الجوكر/ المهرج) رمز دخيل ووافد على الثقافة المجتمعية.طرح العرض محورا فكريا هاما هو: مواجهة الوقائع والتصدي لها - حتى وإن لم تشكل ظاهرة- أم التزام الصمت وتغطيتها والهروب منها؟ وقد اختار المؤلف والمخرج المواجهة الصادمة لظواهر قد تكون فردية، ولكن لابد من دق ناقوس التحذير على الاقل، وصرح وصرخ فريق العرض بأن الفن يكشف المستور ويعلن عن القضايا المهمة المسكوت عنها ويتصدى لما في أعماق المجتمع ويظهرها بقصد معالجتها، والمعالجة هنا لا تعني وضع الحلول بقدر ما تعني تقديم طروحات فكرية بالوسائل الدرامية (الصوت والانفعال والأزياء والسينوغرافيا والموسيقى …) ذلك أن الفنان يرى ما لا يراه الآخرون او يغمضون عيونهم عنه، ولان الفنان يمتلك وسائل وأدوات ومهارات فإنه يقدم ما يراه (رؤيته) للآخرين.
توازن البصري والسمعي
تضافر عمل المنظومة البصرية مع المنظومة السمعية لدرجة التعشيق، فلا فكاك بينهما، فالكلمة المنطوقة تداخلت مع الفعل الحركي للممثلين، وكتلة الجدار الضخم التي تحركت للأمام والخلف والى الجانب وانفتاح الأبواب وإغلاقها المحكم، إلى جانب قطع التأثيث القليلة ذات الواسع والمتنوع والمؤثر، فالكرسي الدوار -مثلا- بلا مسند، صغير الحجم متعدد الاستخدامات (يستخدم للجلوس في حالة التحقيق مع القادم الجديد للسجن/ المصحة، وللتعذيب، وللوقوف، ينتقل من اليمين إلى الوسط إلى الأسفل) حيث لا توجد قطعة جامدة باستخدام واحد، الديناميكية تسيدت جميع مفاصل الفعل الدرامي، ومنها الفتحات المربعة الشكل الصغيرة الحجم في الجدار، استخدم للتسلق الجدار في بداية العرض وانتهت بظهور الأيدي من خلالها لتنهي محاولة خرق نظام السجن/المصحة، كل هذا بالتزامن مع حوارات ذات وقع شاعري قاسي وصادم مثل جملة (هل نحن بشر، هل نحن حيوانات … ملائكة … ) التي كررتها الشخصيات كثيرا بتنويع صوتي وأسلوب إلقاء لم يتشابه قط حتى يخيل للمتلقي انه يسمعها لأول مرة، رغم أنه سمعها من الدقائق الأولى وتكررت حتى في نهاية العرض. ودعمت المنظومة السمعية (لغة الحوار) بعزف البيانو الحي والتأليف الموسيقي والمؤثرات الصوتية، ويضاف إلى ذلك استخدامات عروض الفيديو بطريقة الشاشة المجزأة منحت العرض امتدادًا جماليا من خشبة المسرح إلى التقنيات الحديثة. توكيد الفعل البصري للمسموعات وتوكيد الفعل السمعي للمرئيات ليست عملية تكرارية، بقدر ما هي عملية صناعة دهشة وإبهار للمتلقي، إزاء ما يحدث وتزايد شغفه بالمتابعة والتواصل، فضلا عن ان تزامن الفعل السمعي والمرئي قبض على إيقاع العرض بإحكام عبر تقديم الفعل ونقيضه بالوقت نفسه، شخصية الفتاة - كمثال- التي أجبرتها ظروف النزوح والتهجير والفقر على الرقص في الملاهي تحكي قصة تحولها من البراءة إلى الفجور بانفعال يستدر العواطف ويثير الشفقة وبالوقت نفسه لم تتوقف عن الرقص، وتصف ابتزازها لرجل السياسي الذي بدوره انتهكها وابتزّها ببشاعة، دون أن تتوقف عن الرقص، وقد نسج المخرج فعل مساند للممثل صاحب الفعل الرئيس من قبل الممثل أو الممثلين الآخرين، شخصية البنت تسرد حكاية حريتها المفتوحة بلا حدود ودون والد ناصح ولا والدة تراقب، اندفعت البنت لممارسة كل الفواحش حتى وصلت إلى المخدرات والزواج من أخيها باحتفال مع الأصدقاء ومباركة منهم، ساندتها بالتزامن الحركي شخصية الخنزير بالتعبير عن الشهوانية والإيغال بالحيوانية، تبلور عنه اشباع فكرة الفعل ووصوله لجميع المستويات الجمهور الثقافية. مؤشرات فريق التقنيات
أسهم تولى مسؤولية مهام التقنيات فنانون متخصصين، لهم خبرات واسعة في التصميم والتنفيذ في خلق التكامل الفني للعرض، سينوغرافيا (علي السوداني) صنعت بيئة الأحداث وعمل على تحريكها بيسر رغم ضخامة قطعة الجدار، موسيقى (رياض كاظم) تناغمت مع مشاعر الممثلين وعملت على تأجيج انفعالات المتلقين، أزياء (زياد العذاري) نسجت تحولات الألوان من سيادة الأسود طوال العرض إلى بدلة الإعدام الحمراء في نهاية العرض، كيروكرافيا (علي دعيم) أخرجت الشخصيات من الانتقالات اليومية العادية إلى جماليات الحركة الايقاعية، ماكياج وأقنعة (بشار فليح) الوجوه الواضحة النظيفة للضحايا مع وضع تشوهات ترسمها يد القساة، وإضافة ملامح صغيرة تغير الوجه العادي إلى وجه حيوان مثل أنف الخنزير وإذن وخرطوم الفيل ووجه القرد، عروض سلايدات الكتابة والفيديوهات (هشام كاظم) اسهمت في دعم المجريات على الخشبة والتحمت بالمتن الحكائي للعرض.غلب حضور الشخصيات النسوية في العرض لأنهن يتعرضن للانتهاك عادة أكثر من الرجال، وكان مستوى الأداء يكاد يكون متماثل الاتقان، إذ لا توجد ممثلة متميزة في هذا العرض نهائياً لأن الجميع قدم صورة متكاملة (بالصوت والحركة والانفعالات) للشخصية المسندة اليه، مع الإشارة إلى الشخصية الرجالية الوحيدة (يحيى ابراهيم) التي قدمها بجرأة قل نظيرها في المسرح العراقي وامتلك مغايرة أدائيّة وتحولات من حالة الميول (المثلية) إلى ممارسة العنف على من تقع بين يديه من النساء، إلى حالة انفعالية تدعو للرثاء والتعاطف حين باح بموقف اغتصابه عندما كان في الرابعة من عمره.
وإن ثقلت وطأة السعة الزمنية للعرض بسبب ضعف الاعتياد على العروض الطويلة نسبيا، وقد خفف المؤلف والمخرج من ذلك بواسطة توالي الحكايات المضطردة وتصاعد وتيرة ايقاعها، حتى تلاشت ضرورة أخذ استراحة لأنها ستُفقِد العرض خطوط التواصل الوجداني المنسوجة بين الصالة/ المتلقي والخشبة/ العرض.
انتهى العرض بثورة المظلومين المكلومين المقهورين وتضامن معهم بعض السجانين، وحاولوا تحطيم الجدران وكسر الخطوط الحمراء، إلا ان محاولتهم باءت بالفشل وأصبح الجميع عميان لا يبصرون، واعتراهم الصمم فلا ينطقون، ذلك بسبب وجود أيدي كثيرة امتدّت إليهم من فتحات الجدار ومنعتهم من تسلقه، هذه الايادي كانت مخبأة لمواجهة حالات التمرد والعصيان والرفض، ظهرت في لحظة محاولة كسر الجدار، يختتم العرض بظهور وانتشار أعداد كبيرة من المهرجين ذوي البدلات الأنيقة ليقولوا: (الغلبة لنا) ولم يتح المؤلف (حيدر جمعه) ولا المخرج (سنان العزاوي) أي أمل للخلاص من استيراد العادات السيئة واستفحال الظواهر الهابطة وغزو مظاهر الثقافات الفاسدة، لأن الخلاص يكمن بإثارة الحنق والغضب في الصالة وبالفعل الحقيقي وصناعة الوعي الاجتماعي في الشارع.
***
ا. د. حبيب ظاهر حبيب