قراءات نقدية
جودت هوشيار: أغنية النبي.. الرواية الفائزة بجائزة البوكر لعام 2023
منذ أن نشر الكاتب الروسي يفغيني زامياتين روايته الديستوبية الموسومة «نحن» عام 1924 في نيويورك، صدرت عشرات الروايات على غرارها، التي تعبّر عما يجري في عالمنا اليوم، رغم أن أحداثها غالبا ما تقع في المستقبل، لعل أهمها «عالم جديد شجاع» (1932) لألدوس هكسلي و«1984» (1949) لجورج أورويل و«فهرنهايت 451» (1953) لراي برادبري، و«حكاية الخادمة» (1985) لمارغريت أتوود، و«الطريق» (2006) لكورماك مكارثي. وهي روايات تتناول العديد من التهديدات والكوارث التي ستواجه البشرية، سواء كانت طبيعية أو من صنع الإنسان، أو تغييرا قاسيا في النظام السياسي يفضي إلى الرقابة والاستبداد والشمولية، أو حربا عالمية. ما يجعلنا نفكر في كيفية منع وقوعها.
قبل أن يبدأ لينش بكتابة «أغنية النبي» الفائزة بجائزة البوكر لعام 2023، نشر فكرتها الرئيسية، التي تدور حول تنامي القوى اليمينية في أوروبا والحرب الأهلية في سوريا وأزمة اللاجئين في أوروبا. يقول لينش: «فكرت في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفي ترامب والقوى التي تتجمع في الأفق: حزب الحرية في النمسا، الجبهة الوطنية في فرنسا، حزب الشعب في الدنمارك، الفجر الذهبي في اليونان، حركة جوبيك (الحق) في المجر، القانون والعدالة في بولندا، حزب الحرية في هولندا، والتحول التكتوني الذي يحدث في الديمقراطيات الغربية. فكرت أيضا في انهيار سوريا واستجابة الغرب الضعيفة لأزمة اللاجئين، أردت أن أفهم إلى أين قد يؤدي كل هذا. بدأت أتساءل كيف ستبدو أيرلندا مع حكومة شعبوية. وتساءلت أيضا كيف سيكون العيش في ديمقراطية تنجرف نحو الاستبداد. سألت نفسي، ما نوع القوة التي يمكن أن يتمتع بها الإنسان عندما يجد نفسه محاطا بمثل هذه القوى الهائلة؟ لقد تشكلت «أغنية النبي» كرواية ديستوبية تدور أحداثها في عصرنا». هل نجح لينش في تحويل أفكاره المعلنة إلى رواية مشوقة ناجحة؟ وما الجديد الذي أضافه إلى رصيد الرواية الديستوبية؟ وهل كانت «أغنية النبي» أفضل رواية ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2023، من حيث القيمة الفنية والجمالية، وعمق التعبير». تختلف «أغنية النبي» اختلافا كبيرا عن أعمال لينش الأخرى، التي هي في معظمها روايات تاريخية تدور أحداثها في الريف الأيرلندي. روايته الأولى «السماء الحمراء في الصباح» (2013)، تحكي قصة مزارع مستأجر يعيش في القرن التاسع عشر. تدور أحداث رواية «الثلج الأسود (2014) في عام 1945، وبطلها مربي ماشية. رواية «غريس» (2017) قصة أشقاء يحاولون النجاة من المجاعة في أيرلندا. وفي «على الجانب الآخر من البحر» (2019)، الشخصيات الرئيسية هم الصيادون الذين تقطعت بهم السبل خلال عاصفة في المحيط الهادئ. وفي جميعها التقى القارئ بأبطال خائبين يعانون في الحياة، لكن «أغنية النبي» تفوق كل ما كتبه لينش سابقا من حيث عمق التعبير، فهي تعكس بحيوية كبيرة، المخاوف الاجتماعية والسياسية في اللحظة الراهنة، وتتسم بالسرد الديناميكي والدرامي والعاطفي، عبر رؤية قاتمة ومؤلمة لبلد ينحدر نحو الهاوية، وصورة إنسانية عميقة لكفاح أمٍ للحفاظ على أسرتها.
الحبكة
بعد عامين من وصوله إلى السلطة، أصدر حزب التحالف الوطني في أيرلندا قانون سلطات الطوارئ «استجابة للأزمة المستمرة التي تواجه الدولة»، ما أعطى سلطات لا حدود لها على ما يبدو لمكتب الخدمات الوطنية التابع للشرطة، وهو في الحقيقة قوة شرطة سرية جديدة. بالنسبة لهذا المكتب، فإن الأشخاص الذين يمارسون الحقوق الدستورية، التي كانت في السابق أساسية للديمقراطية الليبرالية – الحق في الاحتجاج، على سبيل المثال – هم مثيرون للفتنة. لكن تركيز لينش لا ينصب على صعود حزب التحالف الوطني إلى السلطة، أو على الآليات الداخلية للدولة الاستبدادية، بل على التجربة القاسية المؤلمة لإحدى العائلات في دبلن، خلال انحراف الحكم في أيرلندا نحو النظام الشمولي..
السيدة إيليش ستاك عالمة في البيولوجيا من دبلن، وأم لأربعة أطفال، مشغولة بالعمل والأسرة ووالدها المسن، ولا تهتم كثيرا بالتقارير الإخبارية المثيرة للقلق بشكل متزايد، ثم يأتي الواقع المرير يطرق بابها: في أمسية مظلمة ورطبة في دبلن يصل ضابطان من الشرطة السرية المشكلة حديثا لاستجواب زوجها، لاري، حول عمله كزعيم نقابي، الذي اختفى مع العديد من زملائه والناشطين الآخرين، في دولة الفوضى، بعد اشتراكه في مسيرة تطالب بحقوق المعلمين. يريد أطفال إيليش المراهقون النزول إلى الشوارع والاشتراك في المسيرة الاحتجاجية – ولكن كل ما تريده إيليش هو إبقاؤهم مخفيين وآمنين. مع اندلاع الحرب الأهلية، وامتلاء شوارع دبلن بحواجز الطرق والقناصة، ظلت مجمدة في حالة من الإنكار.
يغرق لينش القراء في هذا الكابوس بجمله المتعرجة المليئة بالرهبة، ودون فواصل بين الفقرات، ولا يوفر لهم أي مساحة لالتقاط الأنفاس.. يحاكي أسلوب لينش تطور مواجهة إيليش انجراف بلادها إلى الحكم الشمولي والحرب الأهلية، ومع ما يجب عليها فعله للحفاظ على تماسك عائلتها. تتأرجح مشاعر إيليش بين الذعر والإنكار، بين الخضوع للأمر الواقع والرفض العنيد للانصياع لمنطق النظام، بغض النظر عن اختيارات إيليش، يستمر الرعب دون توقف، وهناك إحساس حقيقي بالأزمة والهلاك الوشيك طوال الوقت.
أيرلندا البائسة في رواية لينش تعكس واقع البلدان التي مزقتها الحرب: لجوء اللاجئين إلى البحر هربا من الاضطهاد على الأرض، وأعمال العنف في فلسطين وأوكرانيا وسوريا، وتجربة كل أولئك الذين فروا من تلك البلدان. إنها قصة سفك الدماء والألم، التي تفضح وحشية ردود أفعال السياسيين الغربيين تجاه أزمة اللاجئين. وحسب لينش، فإن أحد أهداف الرواية كان إيقاظ التعاطف لدى القارئ، الذي أخذ يعتاد على الأخبار الصادمة، وينظر إلى تقارير المعاناة والكوارث على أنها أمر عادي. تصبح الأخبار مملة، أكثر من كونها مرعبة، وتجعل الناس غير مبالين، وربما لهذا السبب فإن نهاية «أغنية النبي» بعيدة عن التفاؤل.
في بعض الأحيان، كانت قتامة الرواية التي لا هوادة فيها، تجعل قراءتها غير محتملة تقريبا، ومع ذلك، فإن صدقها يجعل القارئ يستمر في القراءة. هناك مقاطع في الرواية يتردد فيها صدى حملات القمع الوحشية، التي قامت بها الشرطة في عام 2020 على مسيرات «حياة السود مهمة»، ولغة الرئيس السابق دونالد ترامب الاستبدادية والمروعة بشكل متزايد. وتبدو بعض المشاهد المروعة كأنها مأخوذة من التقارير الحالية عن القصف الإسرائيلي الإجرامي على قطاع غزة وقتل المدنيين الأبرياء، ومن مآسي الغزو الروسي لأوكرانيا. لم يكن أي من هذه الأحداث قد وقع بعد، عندما بدأ لينش كتابة «أغنية النبي». وقال إنه كان يفكر آنذاك في «الاضطرابات في الديمقراطيات الغربية ومشكلة سوريا – انهيار دولة بأكملها، وحجم أزمة اللاجئين فيها، ولامبالاة الغرب». ومع ذلك، يؤكد لينش أن الرواية ليست سياسية بقدر ما هي «ميتافيزيقية»، وأنه شعر بأن «عمل الأدب الجاد يجب أن يكون بدلا من ذلك، الحزن على الأشياء التي لا نستطيع السيطرة عليها، والحزن على ما لا يمكن فهمه، والحزن على ما هو أبعد منا».
إيليش تركز على ما حدث لعائلتها وحياتها، بدلا من التركيز على ما حدث لبلادها، فهي تهتم في المقام الأول بالأعمال المنزلية والحياتية، مثل ملء الثلاجة بالحليب، ونقل الأطفال الأكبر سنا إلى المدرسة، وتهدئة لثة الطفل أثناء التسنين، حتى عندما يفرض النظام حظر التجول في دبلن، وتقصف الطائرات الحي الذي تعيش فيه، ويقوم البلطجية بتخريب سيارتها. في مرحلة ما، عندما كانت تنظف المطبخ بعمق حدث انفجار هز الأرض لذا اضطرت إلى التمسك بحوض المطبخ بكلتا يديها. يجب عليها اتخاذ قرارات مستحيلة لحماية عائلتها. في أحد المشاهد المؤلمة، تضطر إلى الركض عبر المنطقة الحرام لرؤية ابنها المصاب في المستشفى، معرضة لخطر الإعدام على يد القناصة، الذين يطلقون النار على المدنيين. إن مغادرة المنزل إلى حياة مجهولة خارج حدود أيرلندا هو خيار أصبح أكثر خطورة بالنسبة إلى إيليش، حيث يصر والدها سيمون، الذي يعاني من الخرف، على البقاء في المنزل». «إيليش» تسعى جاهدة لجعل والدها يفهم مدى خطورة الموقف، لكن عقله يتجول بين الماضي والحاضر، مستحضرا ذكريات كاذبة عن زوجته المتوفاة منذ فترة طويلة. أحيانا يكون مدركا لواقع الصراع، وعندما يكون كذلك، فهو حاد للغاية: «أنتِ يا إيليش تؤمنين بحقوق غير موجودة، الحقوق التي تتحدثين عنها لا يمكن التحقق منها، فهي محض خيال». يطلب منها أن تتركه وتذهب إلى كندا، أو إلى أي مكان آخر. شقيقتها التي تعيش في مدينة تورنتو الكندية تتوسل إليها عبر الهاتف القيام بمحاولة الهروب من أيرلندا، وتحذر إيليش بأن «التاريخ هو سجل صامت للأشخاص الذين لم يعرفوا متى يرحلون»، لأنه ليس من السهل معرفة متى يتوجب عليك الرحيل».
أسلوب لينش
أمضى لينش أربع سنوات صعبة طويلة، شملت زمن كوفيد، في كتابة رواية «أغنية النبي» التي تقع في 320 صفحة، وهو يتأنى في كتاباته، ويهيم بالصدق والوضوح، ويطلب حتمية اللفظ. أقتبس: «كتابة الرواية ليست عملا سهلا على أي حال. إنه بطيء. أنا كاتب ربما سأكون سعيدا بـ 200 كلمة في اليوم. إذا وصلت إلى 400، فسيبدو ذلك يوما رائعا. أنا بطيء. أنا مجتهد. أنا دقيق، أبحث عن إيقاعات عميقة، أبحث دائما عما تحت السطر، أبحث عن إحساس بالحتمية في الكتابة، وأعتقد أن الكتاب الحقيقي يشبه المعادلة التي يجب إثبات صحة السطر الأخير فيها من خلال كل ما سبقه، ولذا، بينما كنت أكتب، كنت أفكر: «هذا، بسبب هذا، وهذا بسبب هذا». وبالتالي فإن الحقيقة هي الضوء المرشد عبر الكتاب الذي لم أستطع الحيد عنه، أو أي شيء لا يبدو صادقا للقصة، وهو ما يعني الذهاب إلى بعض الأماكن المظلمة جدا بالطبع.
الرواية الأكثر جدارة بجائزة البوكر لعام 2023
ربما لعبت المصادفة دورا في ترجيح كفة رواية بول لينش على بقية الروايات المتنافسة ضمن القائمة القصيرة. ففي عشية الإعلان عن توزيع الجوائز في دبلن، هاجم رجل مجهول المارة بسكين. وأصيب خمسة أشخاص، من بينهم امرأة وثلاثة أطفال. وتم اعتقال المهاجم، لكن لم يتم الكشف عن اسمه. وبعد ساعات قليلة، بدأت الاضطرابات في المدينة، وخرج الناس إلى الشوارع وهم يرددون شعارات ضد المهاجرين، ووقعت اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة. من الصعب تحديد مدى تأثير التظاهرات العفوية في دبلن على قرار لجنة التحكيم، على الرغم من أنه لا يمكن تجاهل الصدى المذهل لما تناوله لينش في «أغنية النبي». بطبيعة الحال، ليست هذه الحالة فحسب، ولكن واقع اليوم بشكل عام: الصراعات العسكرية، والشعبية المتزايدة للأفكار القومية، فضلا عن صعود الأنظمة الشمولية، التي تخدم كإطار لديستوبيا بول لينش. وهو نفسه يعترف بأن الأحداث المأساوية في السنوات الأخيرة، التي غيرت أوضاع العالم، أثرت في فكرة الرواية.
كان المنافس الرئيسي لبول لينش على جائزة البوكر لهذا العام، هو الكاتب الأيرلندي المعروف بول موراي وروايته الأخيرة «لدغة النحلة». وهي قصة ملحمية تمتد إلى ما يقرب من 650 صفحة. تبدو الأمور في الرواية مروعة للغاية بالنسبة لعائلة سيئة الحظ من بلدة أيرلندية صغيرة، والعلاقة الصعبة بين الآباء والأطفال، والنضال من أجل أن تكون شخصا جيدا عندما ينهار العالم.
عائلة بارنز في ورطة. وكالة بيع السيارات التي كان يعمل فيها رب الأسرة ديكي على وشك الانهيار، في أعقاب الركود والعديد من القرارات التجارية المشكوك فيها بشكل متزايد. يعتزل ديكي، ويقضي أيامه في الغابة، حيث يبني مخبأ مقاوما لنهاية العالم مع عامل ماهر. تبيع زوجته إيميلدا مجوهراتها على موقع» إيباي» بينما تبدو ابنتهما المراهقة كاسي، التي كانت في السابق الأولى على صفها، مصممة على الإفراط في الشرب خلال امتحاناتها النهائية. ابنهما بي جي يضع اللمسات الأخيرة لخطة الهروب من المنزل. أين حصل الخطأ؟ قصة عن تقلبات القدر، عن الحوادث (مثل نحلة تطير تحت طرحة العروس، أو الحفر على الطريق) التي تقلب الحياة رأسا على عقب، وتغير مسارها بشكل جذري. كل شخصية من شخصيات الرواية يسرد القصة من وجهة نظرها. يسمح التركيز على الأجيال المتعددة لموراي في تصوير الهوة الآخذة في الاتساع بين تجارب الآباء والأبناء، وما يتعلق بحياتهم الفردية، وكذلك أيرلندا التي عرفوها – وأيرلندا التي ظنوا أنهم يعرفونها. «لدغة النحلة» هي الرواية الأكثر إثارة للإعجاب بين روايات القائمة القصيرة للجائزة وتستحق الاهتمام في كثير من النواحي.
***
د. جودت هوشيار