قراءات نقدية

رزق فرج رزق: جماليات التلقي في "فهرس الملوك" لليلى عبد الله

عوالم السلطة والمرايا المكسورة.. سيرة كاتبة تتحدى الأطر

ليلى عبدالله، أو "ليلى البلوشي" كما عُرفت سابقًا، ليست مجرد اسم في خريطة الأدب العماني، بل هي ظاهرة ثقافية متعددة الأبعاد، كتبت في صحف ومجلات عربية مرموقة، وأصدرت كتبًا تنوعت بين المقالات والنقد والقصة والرواية وأدب الطفل، حاز كتابها "هواجس غرفة العالم" على جائزة أفضل إصدار في مسقط عام 2015، ومجموعتها القصصية "كائناتي السردية" على جائزة أفضل كتاب قصصي عام 2016، كما ترشحت روايتها "دفاتر فارهو" لقائمة الشيخ زايد، وترجمت أعمالها إلى لغات عدة، منها البولندية والإسبانية والمالايالمية، هذه المسيرة الثرية تشي بكاتبة لا تهادن في بحثها عن أشكال تعبيرية جديدة، وهو ما يتجلى بوضوح في مجموعتها الأخيرة "فهرس الملوك".

(1) العتبات الأولى: عتبات تفتح أبوابًا للتأويل

عتبة الغلاف:

تطالعك عتبة بصرية خادعة وتأسيس لتلقي الانزياح حيث يقدم غلاف مجموعة "فهرس الملوك" للكاتبة ليلى عبدالله عتبة بصرية-نصية شديدة الخصوصية، تضع القارئ منذ اللحظة الأولى في فضاء الانزياح واللعب الذي سيسيطر على نصوص المجموعة ككل.

يعتمد الغلاف على تباين الأبيض والأسود، وهو تباين يحمل دلالات واضحة على الثنائيات التي تتناولها المجموعة: (الخير والشر، الظاهر والباطن، الحاكم والمحكوم).

غلاف "فهرس الملوك" هو عتبة ذكية ومحفزة، تعلن منذ البداية أن القارئ أمام عمل لا يقبل التلقي السلطي، إنه يدعوه إلى المشاركة في فك الشفرات، ومواجهة الانزياح، وإعادة بناء المعنى في مواجهة محاولات التشويه والتفكيك التي تمارسها السلطة – سواء كانت سلطة الحكم أو سلطة اللغة نفسها، الغلاف، بذلك، ليس مجرد غلاف، بل هو نص موازٍ يضع أسئلة المجموعة كاملة قبل أن نقلب الصفحة الأولى.

(2) رؤية في نصوص المجموعة: السلطة بين السخرية والتراجيديا

تقدم ليلى عبدالله في هذه المجموعة عوالم متخيلة تنتقد فيها أنظمة الحكم والسلطة بكل تجلياتها، مستخدمة تقنيات سردية تتراوح بين الرمز والفانتازيا والسخرية السوداء.

- نقد السلطة والطغيان:

في قصة "ذواق الملك" (من ص 9 إلى 12)، تقدم الكاتبة نقدًا لاذعًا لعلاقة الحاكم بالمحكوم. الملك الشكّاك الذي يجبر أحد الفقراء على تذوق طعامه خوفًا من السم، ينتهي به المطاف ميتًا بسبب سوء التغذية، بينما يعود الذواق إلى أسرته مصابًا بداء النقرس. المفارقة هنا تكمن في أن الخادم نجا من السم لكنه سقط ضحية النظام الفاسد. القصة تطرح سؤالًا عن من هو الضحية الحقيقية: من يموت جوعًا أم من يموت خوفًا؟

- صناعة الأيديولوجيا وتزييف الوعي:

في "حاملو اللواء" (من ص 19 إلى 22)، تتعرض الكاتبة لآليات ترويض الشعوب عبر الخطاب، الكاتب الذي يبيع "آراءه" للملك ليتمكن من ترويج خطاب طاعة الملك بين البسطاء، هو صورة عن المثقف الانتهازي الذي يصبح أداة في يد السلطة لتزييف الوعي وجعل الناس "حاملو لواء" الطاغية.

- السلطة والمرايا: الوهم والحقيقة:

قصة "لعنة المرآة" (من ص 39 إلى 42) تقدم استعارة قوية للعلاقة بين الصورة والحقيقة، الأميرة التي تخفي وجهها خلف لعنة وهمية، تكتشف في النهاية أن "اللعنة" كانت مجرد وهم، وأن الوباء الذي يشوه الوجوه يجعل الجميع متساوين في القبح، المرآة هنا ترمز للحقيقة التي تخشاها السلطة، والتي عندما تظهر، تسقط كل الأقنعة.

-  تفكيك أسطورة البطل:

في "مدونو التاريخ" (من ص 55 إلى 59)، تسخر الكاتبة من صناعة "البطل" عبر التاريخ. الملك الذي يجبر المدونين على كتابة مآثره الوهمية، تتهاوى سيرته بعد موته، لكنها تعود لتباع كسلعة ثمينة في المتاحف! النص يهزأ بفكرة "الحقيقة التاريخية" ويظهر كيف تُصنع بطولة الحكام بالأكاذيب والتزييف.

- السلطة والجنون:

في "ملكة القلوب" (من ص 77 إلى 80)، نرى استعارة فنتازية لسلطة مطلقة تقود إلى الجنون، ملكة قلوب "أليس" التي تأمر بقطع رأس كل من يغضبها، تنتهي بأن يأمر ابنها بقطع رأسها هي نفسها، الدورة المفرغة للعنف والسلطة المطلقة تؤكد أن الطغيان يلتهم أبناءه في النهاية.

(3) جماليات التلقي وتحرير القارئ

"فهرس الملوك" للقاصة ليلى عبدالله ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي مشروع نقدي وجودي، لغة المجموعة تتراوح بين الشاعرية والسردية المكثفة، مستخدمة الرمز لخلق طبقات تأويلية متعددة، القارئ هنا ليس متلقيًا سلبيًا، بل شريك في فك شفرات النص وإعادة بناء عوالمه.

الكاتبة تضعنا أمام مرايا متعددة، مرآة السلطة، مرآة التاريخ، مرآة الذات، ومرآة اللغة نفسها، وفي كل مرة، تدعونا إلى كسر هذه المرايا لنرى ما وراءها، هل نرى الحقيقة؟ أم نرى انعكاساتنا نحن؟ هذا الانزياح الدائم بين الواقع والمتخيل، بين الجد والهزل، بين الأسطورة والواقع، هو جوهر جمالية التلقي في هذا العمل الاستثنائي.

"فهرس الملوك" تأتي كخلاصة لمسيرة كاتبة مجرّبة، تضع كل أدواتها في خدمة رؤية نقدية جريئة، تذكرنا بأن الأدب الحقيقي هو ذلك الذي يضع إصبعه على الجرح، ويدفعنا إلى التساؤل، وإلى كسر كل المرايا المزيفة.

***

رزق فرج رزق

 

في المثقف اليوم