قراءات نقدية

ليلى تبّاني: لن أذهب إلى كانوسا.. رمزية تاريخية وحداثة رفض

قراءة في رموز واسقاطات النص

من بين الوجوه الأدبية التي لفتت انتباهي في الآونة الأخيرة، يبرز اسم رضوان علوي بوصفه أحد الاكتشافات الإبداعية المدهشة التي تعرفت إليها خلال ملتقى الشعر عن غزة الجريحة. لقد كان حضوره هناك أشبه بشعلة داخل عتمة، إذ قدّم عرضاً ذا طبيعة مسرحية تقترب من روح المونودراما، عرضاً ترك في نفسي أثراً لا يزول، بما حمله من حرارة الأداء وصدق الانفعال وقدرته على تحويل الجرح الفلسطيني إلى طاقة درامية نابضة. ولعل هذه القدرة ليست وليدة اللحظة، فالرجل ينشط منذ سنوات في المسرح والمونودراما والسيناريو، ويُتقن تحويل الكلمة إلى فعل مسرحي، واللحظة إلى مرآة تتقاطع فيها الذات مع صدى العالم. ولم يكتفِ علوي بالخشبة، بل اتجه إلى الكتابة، فكان من آخر أعماله كتاب مشوق بعنوان «مذكرات رجل خمسيني» الذي يبدو أقرب إلى السيرة الذاتية، وقد أثار فضولي بالتوازي مع الكتاب الذي نحن بصدد قراءته الآن: «لن أذهب إلى كانوسا» الصادر عن دار هيبوريبجيوس سنة 2025. عنوان هذا الكتاب وحده كان كافياً ليشدّني قبل القراءة، لما ينطوي عليه من موقف، ولما يستدعيه من رمزية تاريخية، ولما يحمله من إيحاءات سيادية تتعلق بعلاقة الدولة بذاتها وبالآخر. وقد دخلت عالم النص وأنا أحمل قناعة مسبقة بأنني أمام عمل مشبع بروح الأنفة والاعتزاز، تلك الروح التي عبر عنها رئيس الجمهورية في إحدى تصريحاته حين أكد أن كرامة الشعب والجزائر، أرض الشهداء، خط أحمر لا يُمسّ.

ومع التوغل في النص، تتبدى منذ الصفحات الأولى بنيته العميقة، بنية تقوم على خطاب درامي متوتر، يتخذ شكل المونودراما التي يواجه فيها البطل ذاته، وصوراً غامضة، وأصواتاً تتخلل ذاكرته. في الصفحات 7 إلى 15 يفرض النص نفسه باعترافٍ ممتدّ تتصارع فيه صورتان: صورة الذات المتشبثة بالذاكرة الوطنية، وصورة الصوت المتقنع بحجة الانفتاح والتسامح وهو في جوهره امتداد ناعم للاستعمار. يقول السارد في الصفحة 10: «أنت وطن، والوطن لا يُباع ولا يُخدع»، وهي جملة تكثّف الصراع الوجودي الذي يشكل هيكل الكتاب: صراع الذاكرة ضد النسيان، الهوية ضد التلاشي، الكرامة ضد الخضوع. بهذه الثنائية، يعلن النص منذ بدايته أنه ليس مجرد خطاب سياسي، بل سرد وجودي يتجاوز الحدث نحو ما يسميه فلاسفة التأويل بالبنية العميقة للمعنى.

من خلال هذا البناء الدرامي، تنفتح القراءة السيميائية لتكشف شبكة العلامات التي ينسجها الكاتب بعناية. فالجزائر هنا ليست جغرافيا، بل أمّ حقيقية ورمزية في آن واحد. في الصفحة 8 أتت العبارة: «كانت أمي ترضعني معنى الكرامة مع اللبن»، لتجعل من الأم دالاً مزدوجاً يشير إلى الأم البيولوجية كما يشير إلى الوطن بوصفه حضناً للمعنى. أما فرنسا، فهي ليست دولة بل ظلّ يلاحق الذاكرة، وصوت يطالب بالنسيان. في الصفحة 20 يتجلى هذا التوتر حين يقول الصوت: «دعنا نفتح صفحة جديدة»، فيجيبه السارد: «دفتر التاريخ امتلأ بالدم، لم تبق فيه صفحة بيضاء». هنا لا تكون الصفحة البيضاء مجرد ورق، بل رمزاً لطلب محو الألم، في حين يتحول الدم إلى رمز للذاكرة الحيّة التي لا تقبل المساومة.

ويمتد الخط السيميائي ليشمل صورة الرئيس الذي لا يظهر كشخص بل كرمز. ففي الصفحات 30 إلى 35 يبدو الحاكم بوصفه امتداداً لروح الجزائر لا كفرد، فيرد وصفه بأنه «الابن الشرعي للأم الجزائرية» (ص 31)، مما يجعله داخل النص تمثيلاً لوحدة الشعب والسلطة في المعنى الوطني. ويحضر بومدين كطيف لا يغيب، كقيمة أكثر منه حدثاً، حين يرد في الصفحة 33: «ظلّ الجزائر الذي لا يغيب». وفي هذه الإحالات، ينسج الكاتب سلطة رمزية تتجاوز السياسي نحو الأسطوري.

غير أن الرمز الذي يشكل قلب النص هو «كانوسا». الامتناع عن الذهاب إليها ليس رفضاً لحادثة تاريخية، بل رفضٌ لجوهر الذلّ. في الصفحات 12 إلى 14 يتحول هذا الرمز إلى دعامة وجودية: فالذهاب إلى كانوسا ليس فعلاً سياسياً فقط، بل سقوط في الوجود الزائف عند هيدغر، في حين يصبح رفض الذهاب إليها إعلاناً لوجود أصيل، وجود لا يتخلى عن ذاته أمام ضغط الخارج.

وإذا كان القسم الأول من النص مشبعاً بالبعد السياسي والرمزي، فإن القسم الممتد بين الصفحات 40 و60 يأخذ طابعاً شعرياً يتأمل هشاشة الإنسان وقوة الكلمة. هنا يتصدر الشاعر المشهد بوصفه علامة سيميائية قائمة بذاتها، فهو ليس راوياً فقط، بل حامل ذاكرة. في الصفحة 43 يقول: «الكلمة أضعف من الرصاصة، لكنها تصنع موتاً أبقى»، وهي عبارة تشخص جوهر الكتاب: مقاومة بالكلمة، وأسطرة للشهادة، وتقديس للذاكرة. وتبلغ الرمزية أوجها حين تظهر فلسطين في الصفحة 58 بأنها «وطن في السماء»، وطن يتجاوز الخرائط، وطن يصنعه الجرح والحلم معاً.

وعند مقاربة النص مقارنةً بأعمال أخرى، يتضح انتماؤه إلى ثلاثة عوالم أدبية كبرى: عالم أدب المقاومة كما لدى درويش، عالم المسرح السياسي كما عند سعد الله ونوس، وعالم الالتزام الوجودي كما عند سارتر. لكنه يقترب أيضاً من رؤية فانون في «معذبو الأرض» حين يتحدث عن الاستعمار الذي لا يموت إلا إذا مات في الذاكرة، وهو ما نجده في الصفحات 18–25 حيث يحذّر السارد من محاولات «تبييض» التاريخ. ومع ذلك يختلف نص علوي في كونه يمنح الكلمة دوراً يعادل الفعل، والشعر مرتبة توازي المقاومة، وفلسطين مكانة سماوية ليست للتفاوض بل للإقامة الروحية.

وبعد هذا كله، يبدو أن «لن أذهب إلى كانوسا» ليس نصا خطابيا بل بناءً رمزياً معقداً، تحكمه شبكة من العلامات المتشابكة: الأم التي ترمز إلى الوطن، والوطن الذي يصبح ابناً، والرئيس الذي يتحول إلى مرآة، والشاعر الذي يتخذ شكل شهيد آخر، وفلسطين التي تطفو فوق الأرض، وكانوسا التي تغدو نفيًا وجوديًا. إنه كتاب يكتب الجزائر بوصفها ذاكرة لا تُنسى، ويكتب فلسطين بوصفها فكرة لا تنطفئ، ويكتب الإنسان بوصفه كائناً يرفض أن يتخلى عن جراحه لأنها شواهد وجوده.

***

ليلى تبّاني - الجزائر

في المثقف اليوم