قراءات نقدية

حبيب ظاهر حبيب: قراءة في عرض مسرحية "نحن من وجهة نظر قط"

ضمن فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح / الدورة السادسة. يوم الاثنين 13/ 10/ 2025. على مسرح الرشيد عرضت (مسرحية نحن من وجهة نظر قط) تأليف وإخراج (أنس عبد الصمد)

الشفرة الأولى

قبل رفع الستار عن العرض أوصى المخرج متلقيه بتصوير (الباركود) الموجود على ستارة المسرح عن طريق الإسقاط الضوئي، على أن يفتح الباركود بعد العرض، وفي هذا حرص على أن يأخذ المتلقي شيئا من شفرات العرض ويخزنه في ذاكرة جهاز الهاتف النقال إلى أجل ما.

بعض من صور العرض

تقف ثلاث شخصيات (فتاة - امرأة - رجل) على سلم، على اكتافهم اغصان يابسة، ينزلون الى قبو او بيت بلا جدران، يسكنون في فضاء مفتوح، الفتاة تجلس إلى منضدة تحرك (ماوس/ فأرة) حاسوب بلا شاشة، تتناول  دواء، تنظر باتجاه الجمهور بديلا عن شاشة الحاسوب ويتزامن مع عملها ظهور رسوم وكتابات على الشاشة العملاقة في السايك الخلفي، يتحكم الماوس (الفأرة) بمسح الكتابة والصور وكل شيء، صوت جرس الباب المغلق على كومة هائلة من أكياس النفايات، ينظر الرجل للخارج من خلال العين السحرية، تظهر صورة الطارق على الباب على الشاشة العملاقة، ثم تمحى او تشوه بخطوط يرسمها الماوس.

لا تنطق الشخصيات بأي كلام، لا توجد بينهم لغة مشتركة، يصدرون أصوات وصيحات مبهمة، يتفاهمون وينفعلون عبر لغة الحركة وإيماءات الجسد.2039 stage

تدخل شخصية غامضة، تحضر هدية مغلفة يستقبلون الهدية، لأن أوراقهم يابسة، يريدون تغييرا يروي أغصانهم ويرمم مشاعرهم وعلاقاتهم، يفتح غلاف الهدية التي أحضرها الرجل الغامض المتلفع بالسواد، تظهر دمية قط صغير يعلو رأسه أغصان يابسة، وبعد أن يتضخم حجمه تختفي الأغصان اليابسة. بعدها يظهر قط آخر أكبر دون أغصان، ثم يكبر ويتغير شكله، ويكبر، وتظهر صوره على الشاشة/ إسقاط ضوئي. وتكتمل قوة وسلطة القط عندما يتأنسن، وحين تنزل من السلم شخصية القط الانسية، تتسيد المكان والزمان والنفوس، يتناسل قطط صغيرة بأشكال عديدة مصنوعة من مواد مختلفة.

فجأة تدحرجت كمية كبيرة من التفاح من الخارج إلى فضاء الشخصيات، وأخذ حيزا من مساحة الخشبة وسط ذهول الشخصيات الثلاثة، الفتاة اكلت من التفاح ولفظته، رمزية التفاح بهذا الكم تحمل دلالات بكم الخطايا التي يرتكبها بنو آدم، تفاحة واحدة أغوت آدم وأنزلته من الجنة إلى الأرض، ماذا عن هذا العدد الكبير من التفاح؟

يحضر الرجل ميكروفونات ولكنها لا تكبر الصوت، لأن أصوات الشخصيات اختفت تماماً، فهم بلا حول ولا قوة.

تفتح المرأة خزانة ملابس، تخرج منها عددا كبيرا من السترات، وتضعها على الارض، ترتدي الشخصيات الثلاثة سترات.

في المشهد الأخير تضع الشخصيات الثلاث مجموعة سترات على كتف القط الانسي، الذي جلس على الكرسي، وشرع بالتحكم بالجميع بواسطة ماوس الحاسوب نفسه الذي كانت تجلس قبالته الفتاة في بداية العرض، تتهاوى الجدران على السكان، يحاولون إقامتها ورفعها عن كواهلهم، إلا أنها في النهاية تسقط عليهم.

إن محور رؤية ومعالجة (انس عبد الصمد) هو استغلال الأغصان اليابسة في الإنسان، من قبل شخصية غامضة تعمل على تسلل القطط بطريقة ناعمة، وتتضخم أحجامها وفي النهاية تمسك بمقاليد الأمور.

الشخصيات

جميع الشخصيات سيكوباتية (تعاني من اضطرابات نفسية) فهي ذات سلوك غير متزن ولا يمكن التنبؤ بأفعالها وانفعالاتها، ذلك لأنها نتاج العصر المضطرب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بفعل سيادة القطط التي تنظر للـ (نحن) وتركب نفوسنا وعلاقتنا من وجهة نظرها. 

الفتاة مريضة، يوحي منظرها وهي صلعاء وتتناول الدواء بإصابتها بالسرطان، تعمل على كمبيوتر متخيل، تحرك الماوس، تظهر صور على الشاشة العملاقة، الفتاة تعمل على مسحها أو تشويه جزء منها. حركتها أقرب إلى الرقص، في النصف الثاني من زمن العرض، تسقط غطاء رأسها (صلعاء) ويظهر شعرها.2040 stage

الرجل ذي انفعالات هستيرية، يمارس العنف على شخصية الفتاة والمرأة، ويقوم بتحريك شفتيه وعينيه باستمرار مما يجعل وجهه مشوها إلى حد ما. أما المرأة فإنها تبدو قوية وصلبة، ولكنها سرعان ما تنكسر تستسلم.

ذهب العرض إلى صناعة لغة ثقافية عامة بلا حدود، إذ لم يستخدم لغة حوارية، فقد اعتمد لغة الأصوات والحركة والجسد والإيماءات، ولم يؤثث فضاءه بأي مفردات محلية، إذ اندمجت مفردات مادية (خزانة ملابس، باب، منضدة، مغسلة، كراسي) مع مفردات رقمية/ افتراضية (السُلّم) والصور والكتابات على شاشة الإسقاط الضوئي.

غموض العرض

إحدى أهم جماليات عرض (نحن من وجهة نظر قط) هو  الغموض الذي غلف الصور الدرامية وعلاقات الشخصيات وتحديد مكان وزمان الأحداث، وهذا يشكل حافزا للمتلقي للتركيز ودفعه للتعمق ومتابعة الآتي من زمن العرض. وثمة فرق كبير بين الغموض والإبهام، فالأخير (الإبهام) تشويه وعدم دراية وبُعد عن الإفهام.

يرى (سامي عبد الحميد) في كتابه (المسرح جديده قديمه وقديمه جديده ص٩٢) أن أسلوب ما بعد الحداثة يتميز "بربط الأشكال الى بعضها حتى وإن اختلفت في المضامين وبذلك ترجع إلى التعبير عن كابوسية التعبيرية ويعتمد أسلوب ما بعد الحداثة في الفنون البصرية على ما يسمى (الكولاج) أي جمع أشكال وعناصر مختلفة بشكل عشوائي ووضعها في الصورة […] ويدعو فن (ما بعد الحداثة) إلى التشظي بدلا من الوحدة باعتباره سمة من سمات الفن. لقد دعت حركة ما بعد الحداثة إلى تعدد في وسائط التعبير والى الاستعارات اللفظية والى تشتيت البؤرة" فلا شيء في العرض تقليدي او عادي أو طبيعي، انه عرض لمجموعة حالات وصور لا مركز لها، ولا مرجعية ثابتة، كل شيء متحرك، الصور المتلاحقة، والمونتاج الدرامي، ومفردات التكنولوجيا الحديثة، كلها من مظاهر التوجهات نحو أسلوب الما بعد حداثي. يقع أمر قراءة الصور والأصوات والانفعالات على المتلقي بعد صهرها في بوتقة واحدة مع مدركاته الفكرية والحسية بغية الخروج بتأويل من عندياته،  ويفترض أن يقوم هذا المتلقي بإعادة تركيب حكاية وفكرة العرض التي عمل القائمون على المشروع الجمالي بتفكيكها ونثر تصوراتهم لها في الفضاء المسرحي.

بعد أن كان المؤلف مخرجا في عصر فجر الدراما المسرحية، يجدد (انس عبد الصمد) ظاهرة المخرج المؤلف، ولم يكتف بذلك، بل أضاف لها المخرج مؤلفاً وممثلا، فهو يمثل في معظم عروضه مثل (يس گودو و بيت أبو عبدالله) وقد سعى إلى العمل مع ممثلين من ثلاث ثقافات، ممثلة فرنسية وأخرى تونسية، وممثلين من العراق (محمد عمر) و (ماجد درندش) وعمل على إشراك ممثلين من ثقافات/ جنسيات متعددة مخرجون كثيرون منهم جيرزي كروتوفسكي، وروبرت ويلسون، وهذا ديدن الذين يخرجون العرض من الإطار المحلي إلى الفضاء العالمي.   2041 stage

ختاما عنوان العرض

عادة ما يكون تحليل عنوان في مطلع المقالات والابحاث، ولكن هذا العرض جعل استجلاء العنوان يسيرا عندما تكتمل صورة العرض الكلية. وضع عنوان العرض المتلقي أمام تساؤل: من المقصود بالـ (نحن) أهي الشخصيات؟ أم الشخصيات والمتلقي معا؟ أم أن العرض يقدم الناس جميعا من وجهة نظر قط؟ يعمم المخرج/المؤلف الأمر بإدخال مجموعة شباب للخشبة ليكونوا امتداد للشخصيات الثلاث، وجزءا من صورة العرض. ومن ثم يذهب التركيز على الــ (القط)، ولماذا القط تحديدا؟

من أهم ما يمتاز به القط هو الاستشعار القوي والحساسية الشديدة، فهو يرى في الظلام وسمعه للترددات الصوتية اعلى من الإنسان، كما انه يمتاز بخفة الحركة وقياس المسافات بدقة وخفة حتى في الظلام الحالك، فضلا عن أنه كائن أليف، يصدم التأليف/ والإخراج جمهور المتلقين بتقديم سردية تكشف عن إيغال القط (اللطيف ذي الملمس الناعم) في نفوس (نحن) وتغوله عليهم.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب 

 

في المثقف اليوم