قراءات نقدية
محمد حسين الداغستاني: قراءة في نصوص حسين ابو السعود الشعرية
الفرار الى اللامكان
ولد في حي شعبي مكتظ بالناس يقع في قلب مدينة كركوك وأكمل دراساته الأولى في مدارسها لكنه وحالما إشتد عوده لم يختار الإقامة فيها طويلاً، رحل عنها ليعيش في المهجر، فهو دائب الحركة والترحال والسفر، كأن سيلاً من الذكريات والوقائع الأليمة تطارده، فكلما طال مكوثه في مكان ما كان شوقه المحموم لمغادرته وحافز الهروب منه يتآكله من الداخل فيشرع بالتنقل بين مدن العالم تاركاً وراءه في كل منها فيضاً من التأملات والكلمات التي تؤرخ لحزن ما أو لربما لحبٍ آفل، أو لفكرة عميقة تؤطر له أسرار الحركة فإستساغ السير في حواري وطرقات اماكنٍ نادرا ما إستقر فيها طويلاً لتتلقفه موجة جديدة تقذفه الى نقطة اللاعودة في بحرٍ متلاطم .
هكذا تنبئنا نصوص الرحالة الشاعر الدكتور حسين ابو سعود عن اماكنه المعلنة، فقبل ايام كان في كمبوديا، وقبلها كان في النرويج ماراً بنيروبي وعجمان وتنزانيا ومصر والعشرات من الدول والموانئ والمدن القصية وبعضها لم نسمع بها، حاملاً حقيبة اسراره وعابرا الفيافي والجبال والسهول والمحيطات متنقلاً بين القارات، وفي كل هذه الاماكن يتأمل في فلسفة الحياة ومعاناة الإنسان فيعيد الى ذاكرتنا المنسية تداعيات كتابات البير كامو او سارتر، ويتشبث بحلم مستحيل عن حرمانٍ مر أوغائب راحل او موعد لن يتحقق، ويترك بصمته الموجوعة فيكتب شعراً ونثرا وانطباعات عن الإنسان والطبيعة والاسرار الدفينة والمعالم الشهيرة والمجهولة لو ضمها في كتابٍ لكان نجماً في عالم الرحلات والسفر:
للحرمان جلبة تسمعها اضلعي
وبكائي مثل نهر هامد
يشتهي ان يعود من الحزن
الى منابعه في جنح الظلام
ويترك الأعشاش في هزالها
على الضفاف
عرضة للريح والظلمة
وعمري ذلك الهارب مني قد أعياه الجفاف
فلا قمر يزين الليل ولا شمعة تحترق معي
وكل ما هنالك غربة كبرى تطوقني
ولي في وحدتي طقوس
لا تعرفها حتى الجدران
التي تحيط باسراري !
لم تكن أسفار أبو السعود مجرد نزوة أو تحرق لمغامرة، بل إنها كانت حاجة نفسية ملحة تتطلب شجاعة القرار والتحدي والجَلد، لذا فإنه عندما كان ينفلت من القيود التي اثقلت روحه وتداعيات الواقع الحزين التي كتمت على أنفاسه وتوقه العارم الى الحرية، إختار الفرار الى المنافي ليجد خلاصه وكان بجانب مكابداته الدفينة ومثل أغلب الشعراء لابدّ له أن يتأبط قلبه الموجوع المترع بذكريات إمرأة ملهمة، تلك التي أرقت ليله واطاحت بهدوءه النفسي وقدرته على الاحتمال، يدعو طيفها، لينغمس في اتون تلك الأيام الملتهبة، لكنه يدرك قساوة اليأس فيشيح عنها أيضاَ نحو أرض الله الواسعة، في حالةٍ من الدوران اللامجدي حول نفسه خادعاً ذاته بالبعد الذي ليس سوى دنو وقرب، ليحملها أينما حل بين اهدابه غالقاً عليها لكن التكرار يقوده احياناً الى الجنون:
ملفوفا في ورق
ودعيني أعود الى ايام القلق
وليالي الأرق
وأقضي باقي أيامي في العراء
إنصرفَ الذين تعبوا من الوقوف
غيبتهم الظلمة الداكنة
والمطر سيزيل ما تبقى من آثارهم
قريبا ستغيب كل الشموس
وتترجل كل النجوم
وتظلُ وحيداً بين الناس
لا ترى احدا
ونفسك تأخذك طائعا نحو الجنون. !
وشاعرنا الرحال يدرك أن تفريغ موجبات الصراع الداخلي تتطلب لغةَ للتعبير وتوظيفاً مدهشاً لتحويل الكلمة الصامتة الى لغة مقروءة، فأضحى لا يجيد الترحال فحسب وإنما يتقن فنون توظيف التضمين الشعري في بنية نصوصه المخضبة بالوجع والأسى فحفلت بالصورة الشعرية والكناية والرمز بأسلوب سلس خالٍ من الغموض والمرادفات المركبة، فرمزَ للأحداث المؤلمة التي تلاحقه بالعاصفة اما الحارس الهزيل فلم يكن سوى تلك القيود التي تحيل الحياة الى جحيم، والمقاعد الاسمنتية المطلة على البحار الى مكمن الانتظار لفرح لا يأتي:
في وريد المدينة، يصرخ غضبٌ باهت
ينم عن حقد صدئ وضغينة
يحث النزلاء على إخلاء المقاعد الإسمنتية
وثمة حارس هزيل يلوح بسوط طويل
يضرب به ظهر الهواء
يطلق صوتا مزيجاً بين البكاء والغناء والهراء
وأنا عندما تيقنت من مجئ العاصفة
وضعت أوجاعي على قارعة الطريق
وصرت أتصنع الفرار واقفا في مكاني
فظنوا باني لست أني
وذلك الذي في داخلي يغني
مجرد شبح يشبهني
فطووا أوراقي
وأدرجوا اسمي ورسمي وروحي وجسمي
في عداد الراحلين .
وهكذا فإن الشاعر ابو السعود وجد خلاصه من أثقال الواقع المر بالترحال العنيد، فمثلما شبه البير كامو حياتنا المغلفة بالرتابة كحركة صخرة سيزيف الشاقة التي يدفعها لأعلى القمة لكنها تعود وتتدحرج نحو الاسفل دائما، ويتكرر ذلك الفعل إلى الأبد.. فإنه وجد أن الحل يكمن في مفهومه الفلسفي أي في التمرد على الواقع وعدم الخضوع للرتابة وهذا ما فعله فأختار حقيبة السفر لتكون رفيقته الاثيرة مادامه قادرا على ذلك !
مدي يدكِ اليمنى
تلقفي ريشةً خائفة ً من الغرقِ
عرضيها للشمس الدافئة
اغسلي عن نهايتيها
آثار القلق
لم يبق عندي الشغل الشاغل
سوى اعداد حقيبة السفر !! .
لكن حمل الحقيبة من مطارٍ الى آخر ومحطةٍ الى أخرى يثقل الكاهل، فيبدأ نسغ من الغضب والإحساس بالتعب يتصاعد رويدا رويدا في الجسد المنهك، حينئذ يثب الوطن الجريح بكل مآسيه ومظاهره السياسية والاجتماعية السلبية وتجربته العرجاء الى واجهة الشعور بالغربة وإلى ثنايا النص وفي لحظة غضب مفعم بتداعيات الغربة والبعد استعان الشاعر في نص موجوع يقطر أسى بحرف الروي الباء الساكنة ليعطي المتلقي ايقاعاً موسيقيا يذكرنا بفخامة الشعر الكلاسيكي الذي يتسم عادة بأسلوب مباشر وتقريري، هادفاً جوهر المعاناة ومتخطياً جماليات المظهر أو الشكل، ويقول لنا ان التعب الجسدي لا يرتقي الى مستوى التعب الحقيقي الذي يعدد مظاهره دون ان يتجاوز محنته في البعد عن الوطن:
التعب ان يمارس الطغاة معنا قلة الأدب
وتكون اعراضنا في أيديهم نهب
وان نُؤذى صباح مساء بلا سبب
التعب هو ان يشبع الحكام ويجوع الشعب
التعب شيء أمره عجب
التعب ان نُنسى في السجون حتى نصاب بالجرب
التعب ان يتساوى التراب والذهب
وان ننادي العرب فلا نجد العرب
التعب ان تجتمع الدنيا كلها
لتطفيء فينا ثورة الغضب
التعب هو ذاك اللهاث في الانفاق
ومنظر الميتين في الشاحنات المحكمة الإغلاق
التعب هو ان يضنينا الفراق
ونشتاق الى العراق
ونبعث اليه باشواقنا
فتعود الينا الاشواق!
في أغلب الاحيان كان السفر عند ابو السعود فرصة للتغيير وتلاقح الذوات وتبادل الثقافات وفهم الإنسان في كل مكان يحل فيه، بل كانت عملية إكتشاف مدهشة للغور في أعماق النفوس وزيادة المعارف أو محاولة تجاوز لمعاناة حدث أليم، لكن معه كان السفر بحثاً دؤوباً عن حلول مستحيلة على امتداد القارات، بل أنه في نهاية المسار المضني يختصرها ببساطة متناهية في حلم يسعى للغرق في لجة نهر!
وقبل أن انشد علنا ً أغنيتي الأخيرة
وقبل أن تصل الروح إلى النزع
انتزع روحي من قفصها
اضعها على حافة النهر
كي ترحل مع اي حلم يهوى الغرق.
ونحن إذ نقلب صفحات الحزن السرمدي في نصوص شاعرنا الدكتور حسين ابو السعود قد يكون هو الآن على ظهر باخرة تمخر عباب المحيطات أو داخل طائرة تتجه نحو مكان قصي لا يتسع هو الآخر لأحلامه فيبدأ رحلة آسرة من هناك حيث المجهول!
***
محمد حسين الداغستاني
أنقرة







