قراءات نقدية

محمد علي محي الدين: سنية عبد عون رشو... راوية الأنوثة المتأملة

ومفاتيح الغموض العراقي

في مدينة المسيب، تلك البلدة الموشومة بنهر الفرات وعبير القصب، ولدت القاصة سنية عبد عون رشو عام 1956، وتفتحت عيناها على مشهد تتقاطع فيه الذاكرة الشعبية مع الحلم الشخصي. كانت المسيب بالنسبة لها ليست مكانًا فقط، بل أفقًا شعريًّا، وبيئة سردية غنية بالتفاصيل والمفارقات.

تخرجت في قسم اللغة العربية بكلية الآداب – جامعة الموصل سنة 1978، وبدأت مشوارها المهني كمدرّسة، لكن ما خفي وراء هذه المهنة كان نهرًا آخر لا يقل عن الفرات عنادًا وتدفقًا: نهر السرد. كتبت القصص والمقالات، وبدأت في نشر نتاجها في الصحف الورقية، ثم تنوع حضورها في المواقع الثقافية العربية مثل "المثقف"، و"مركز النور"، و"فراديس العراق"، و"الأنطولوجيا"، و"كتابات".

"غريد القصب": النصوص المغسولة بندى الجنوب

كان عام 2012 إيذانًا بظهور المجموعة القصصية الأولى بعنوان "غريد القصب"، صادرة عن مؤسسة المثقف العربي – أستراليا، بطبعة أنيقة من دار العارف – بيروت. حملت المجموعة طابعًا مكانيًّا واضحًا، حيث يبرز الجنوب كرمز ومسرح وأسطورة.

عن هذه المجموعة كتب الدكتور عبد الرضا علي: "قصص المبدعة الموهوبة سنية عبد عون رشو ليست تقليدية، لأن معظمها تشاكس الأداء السائد وتخالفه في المنحى والمبنى قصديًا، إذ تشدد على جعل المخيلة السردية قسيماً للرمز، وتبتكر طقسًا لغويًا أشبه بالمستهل الشعري الذي يعلن الدخول إلى عوالم مدهشة هي هموم الناس، ولا سيما العراقيين في حقب متتالية من الألم."

"زيارة غامضة": سرد بصوت باطني

في مجموعتها الثانية "زيارة غامضة" الصادرة عن دار الفرات – بابل عام 2022، تمضي سنية نحو تخليق مساحة غموض سردي، حيث تصبح القصة تمرينًا على الحيرة الوجودية، وعلى إنقاذ الذات من ركام التفاصيل.

قدّم لهذه المجموعة الشاعر والناقد عبد الستار نور علي، الذي رأى في قصصها تجوالًا واعيًا في أزقة الواقع الاجتماعي العراقي، واحتفاءً خفيًا بنماذج المرأة العراقية المثابرة وسط النكران والتهميش. كما كتب عنها الشاعر سامي العامري، مشيدًا بقدرتها على التغلغل في تفاصيل المجتمع بعين صدوقة وقلب نابض، حيث تنقذ شخصياتها من التلاشي وتجعلهم شهودًا على زمنهم بلغة جذابة مؤثرة.

أنوثة مقاومة لا ترفع الصوت

في كتاباتها، لا تسعى سنية عبد رشو إلى إصدار بيانات احتجاج نسوي، لكنها تقدم نموذجًا سرديًا لأنثى تعرف كيف تختبئ خلف الكلمات، وكيف تقول دون أن تبوح. المرأة في قصصها ليست ضحية فقط، بل صانعة معنى، تواجه مصيرها بشيء من العناد الهادئ، وتتمسك بكرامتها وسط هزائم متكررة.

وقد كتب عنها الدكتور سردار محمد سعيد: "تجعل من الحب محورًا أساسيًا، غالبًا ما يدور داخل العائلة الواحدة، برؤية تربوية تنطلق من عمق الواقع، وتتناول الأسرة كجوهر إنساني متكرر في تنويعاتها القصصية."

قراءات نقدية في تجربتها

عالج تجربتها السردية عدد من النقاد المعروفين، منهم: الدكتور عدنان الظاهر، كاظم الشويلي، رسمية محيبس زاير، سلام كاظم فرج، سردار محمد سعيد، توفيق حنون المعموري، مهدي الأنبارّي، والشاعر سامي العامري.

كتب جمعة عبد الله عن قصصها قائلاً: "الجمال الفني يتجسد في شفافية اللغة وانسيابها، في حيوية الصور، وتوهجها بمشاعر إنسانية صادقة، تعكس اختناق الواقع وتضاربه مع الحلم النقي." أما الناقد توفيق حنون المعموري فقد أشار إلى "أن عوالمها السردية مشحونة برموز الحلم والموت والحرية، مستخدمة لغة موسعة تمنح المفردة بعدها الحقيقي والرمزي."

الناقد علي جابر الفتلاوي يرى أن نصوصها تتفاعل مع المتلقي لا كمفاتيح مغلقة، بل كعوالم تتغير باستمرار حسب الزمان والوجدان، مما يمنحها بعدًا خالدًا.

الناقد كاظم الشويلي أشار إلى "أن نصوصها القصيرة جدًا تملك رسالة واضحة، تنتقد انغلاق الإنسان على ذاته وتعرّي الاستبداد، بأسلوب قصصي مباشر لا يخلو من العمق الرمزي."

أما رسمية محيبس فقد التقطت من كتاباتها سؤالًا نسويًا عميقًا حول الموهبة النسائية المكبوتة، ووضعت القارئ أمام أنموذج مزدوج لامرأة تتأرجح بين وهج الإبداع وضغط الواقع.

وكتب الدكتور عدنان الظاهر عن قصتها التي تتوازى مع قصيدة له عن "خضر الياس"، مشيدًا بتوظيفها الذكي للرموز القرآنية من سورة يوسف ومقاربتها المصائر الفردية بالأسطرة الحديثة للواقع العراقي.

كما كتبت الناقدة رحاب حسين الصائغ عن قصيدتها "موحش هو البكاء"، مشيدة بقدرتها على صوغ همّ فردي بطابع كوني يختزن الرمزية والعمق الوجداني.

المرتقب: "الرقصة الأخيرة"

ضمن مشاريعها المقبلة، تستعد القاصة لإصدار مجموعة جديدة بعنوان "الرقصة الأخيرة"، في استمرار واضح لمسار فني لم ينقطع، حيث تستبدل القصيدة هنا برداء القصة، وتغدو "الرقصة" استعارة أخيرة لما تبقى من أمل، أو عزف خافت على وتر الحياة.

إن سنية عبد عون رشو ليست فقط كاتبة قصة، بل شاهدة زمن ومهندسة سرد، تختزن في لغتها بوح الجنوب، ومفارقات الإنسان العراقي، وترسم من صمت البطلات خريطة أمل. اتفق النقاد على فرادة صوتها، وخصوصية سردها، وصدق تجربتها، معتبرين إياها امتدادًا ناضجًا لتقاليد السرد الأنثوي الذي يتسم بالعمق والشفافية والمثابرة. لقد برهنت سنية على أن الكتابة الجيدة لا تحتاج إلى ضجيج، بل إلى موهبة تتنفس بهدوء وتتكلم بصدق.

***

محمد علي محيي الدين

في المثقف اليوم