قراءات نقدية

علي حسين: موعد مع غابريل غارسيا ماركيز في شارع المتنبي

غابرييل غارسيا ماركيز يعود ليشغل القراء من جديد بعد عشرة اعوام على وفاته – رحل عن عالمنا في السابع عشر من نيسان عام 2014 - في روايته الأخيرة والتي اوصى بعدم نشرها " موعدنا في آب " – صدرت ترجمتها العربية قبل ايام ترجمة وضاح محمود -، يتناول غابرييل غارسيا ماركيز في روايته التي تبلغ ما يقارب المئة صفحة، حكاية " آنا مجدلينا باخ "، وهي امرأة في السادسة والاربعين من عمرها، عاشت حياة زوجيّة سعيدة طوال سبعة وعشرين عاما وليس لديها أيّ سبب للهروب من عالمها الذي بنته بيديها. مع ذلك، فإنها تسافر في السادس عشر من آب كل عام لزيارة قبر أمّها المدفونة في إحدى الجزر، لتتحول هناك الى امرأة مختلفة تماما لليلة واحدة فقط. :" كان شهر آب شهر الحر والعواصف المطرية المجنونة، المباغتة، لكنها اعتبرت زيارة قبر أمها كفّارة إضافية من الكفّارات التي يتعين عليها أن تؤديها في موعدها حتما " – موعدنا في شهر آب –.

 في معظم رواياته كان للنساء دور مهم،، إلّا أنّهن لا يؤدّين دور البطولة مثل آنا مجدلينا باخ، وهي امرأة قرّرت في لحظة ما من عمرها استكشاف حياتها الجنسيّة من جديد والبحث عن حريتها الفردية. وهذا الامر سيسبب لها صراعات في أعماق نفسها، لكنها تستمرّ في هذا الطريق، على الرغم من أنها كانت سعيدة في زواجها وليس لديها أسباب للقيام بما تقوم به. وصف روديغو الابن الكيبر لماركيز رواية " موعدنا في شهر آب " بأنها رواية نسوية بامتياز " واضاف في حديث لمحطة بي بي سي :" أعتقد أنّ هذه الرواية تعيد ترتيب جميع أعمال غارسيّا ماركيز وبخاصّة دور المرأة فيها، والذي يجب إعادة النظر فيه بعد هذه الرواية. ولهذا السبب بالذات أعتقد بأهميّتها البالغة ".

الرواية الأخيرة تفضح تعب الروائي الذي كان يبلغ " 72 " عاما عندما قرر كتابتها، بدأ التخطيط لكتابتها عام 1999 وانتهى منها عام 2002، لكنه تركها جانبا وانشغل بكتابة روايتة " ذاكرة غانياتي الحزينات " والتي كان تآخر عمل ادبي ينشره ماركيز في حياته، وفيها نتابع حياة رجل عجوز قرر أن يجعل من الحب المستحيل فرصته الاخيرة قبل الموت . يخبرنا محرر الكتاب " كريستوبال بيرا " والذي عمل مع ماركيز لسنوات وكان محررا لسيرته الذاتية " عشت لاروي " ان ماركيز فاجأ القراء قي آذار من عام 1999 بأنه يعمل على رواية جديدة من خمسة فصول وهي تعالج " موضوعة الحب لمن تقدم بهم العمر قليلا " . سينشر ماركيز الفصل الاول من الرواية عام 2003 في احدى المجلات الاسبانية وتشير سكرتيرته ان ماركيز استأنف العمل من جديد على الرواية في شهر تموز من عام 2003، وبنهاية عام 2004 كانت لديه خمس مسودات من رواية " موعدنا في شهر آب " . يخبرنا وفي المقدمة التي كتبها للرواية يخبرنا كريستوبال بيرا ان وكيلة اعمال ماركيز " كارمن بالثلس " اتصلت به عام 2010 لتخبرنه ان ماركيز " لديه رواية غير منشورة، لم يتمكن بعد من إيجاد خاتمة لها، فطلبت إليّ أن أحفزه على إنهائها "،وسيقوم بيرا بسؤال عن ماركيز عن الرواية وهل صحيح أنها تحتاج إلى خاتمة :" طلب من مونيكا النسخة الأخيرة منها، ثم قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختتم بها القصة ختاما مدهشاً..كان شديد التكتم على عمله، لكنه سمح لي بعد بضعة أشهر أن اقرأ ثلاثة فصول منها، والآن أتذكر ذلك الانطباع الذي خلفه في نفسي ببراعته المطلقة في معالجة موضوع مبتكر " – موعدنا في شهر آب - . من اخلال تتبع حكاية رواية " موعدنا في شهر آب" يتضح أنه كانت هناك لحظة شعر خلالها ماركيز بأن لروايته الاخيرة هذه يستحق النشر، حيث قرأ منها نهاية عام 1999 مقتطفات خلال ندوة مع صديقه الروائي خوسيه ساراماغو في مدريد. بعدها نشر مقتطفات منها في الصحيفة الإسبانية إلباييس"،. إلا أنه نحى مشروع الرواية جانباً، لكنه عام 2004 سيرسل مخطوطة إلى وكيلته كارمن بالثاس مع توصية بان ترتاح الرواية عندها .

كان فقدان الذاكرة الذي عانى منه ماركيز في سنواته الأخيرة سبب رئيسي في امتناعه عن نشر الرواية حتى أنه قال لزوجته :" هذا الكتاب لا نفع منه أبداً، ولابد من تمزيقه " .لكن العائلة لم تمزق الرواية تركته ضمن ارشيف ماركيز االذي انتقل الى جامعة تكساس بعد ان اشترته للحفاظ عليه .يقول الابن غونثالوا ماركيز، مبررا نشر الرواية :"لم يكن والدي في وضع يسمح له بالحكم على عمله لأنه كان يرى فقط العيوب وليس الأشياء المثيرة للاهتمام".، ويضيف :" بعد قراءة النص مرة أخرى مؤخرا، لم يجده كارثيا كما حكم عليه غابو" وقال رودريغو ماركيز في المقدمة التي كتبها للرواية " لقد قررنا بفعل يقارب افعال الخيانة أن ننشره مراهنين على مسرّة القراء قبل أي اعتبار آخر . فإن هم احتفوا بالكتاب وسُروا به، فعسى ان يغفر لنا غابو فعلتنا ويعفوا عنا " . وفي هذا العام كان ماركيز قد أدلى بتصريحات صحافية قال فيها إنه " راضٍ كل الرضى" عن مقاربته للأزمة التي كانت تعاني منها بطلة الرواية، لكن ناشره صرّح بعد عام على وفاته بأنه لم يكن مقتنعاً بالنتيجة النهائية التي آلت إليها الرواية على رغم السنوات التي أمضاها في كتابتها. والمعروف عن ماركيز أنه كان يعدّ كتابة رواياته ما لا يقلّ عن عشر مرات قبل أن يستقرّ على الصيغة التي يريدها، وهذا ما لم يحصل له مع " موعدنا في شهر آب " التي قرّر تنحية مخطوطها بين محفوظاته.

الذي يجعلنا نطارد كل ما كتبه ماركيز، سألت نفسي وانا استعد بالذهاب الى شارع المتنبي يوم امس الجمعة – الثالث من آيار 2024 – كان الجو ممطرا، وكنت انوي الذهاب مع صديق اعتذر في اللحظة الاخيرة مبررا :" ان الجو لا يشجع الذهاب الى المتنبي "، لكني منذ ان وضعت دار نابو قبل ايام قليلة اعلانا عن توفر رواية ماركيز، كنت استعجل الزمن لكي احصل على نسخة من الرواية .. واخذت اسأل نفسي هل شهرة ماركيز كانت وراء تلهفي على قراءة ىخر اعماله؟ يعتمد الحكم على الكتاب احيانا، على ما يكتب عنه من نقد او مراجعات في الصحف، واحيانا اخرى على رأي القراء .. ولكن علينا الإنتباه إلى ان الاعجاب بكتاب ما يعتمد على وجهة نظرنا فيه، فبعض الكتب نقول عنها عظيمة لانها حازت على هذه السمعة عبر العصور..كان برنادشو يقول اننا نقرأ احيانا بعض الأعمال الأدبية التي حازت على شهرة كبيرة بالطريقة التي نأكل بها الاطعمة الغريبة، فأنت لا تحبها تمامًا ولكن الجميع يقول عنها إنها أطعمة خارقة. .ولعل روايات ماركيز مثل الاطعمة الغريبة التي تحوي اشياء لم تخطر على بالنا.. ولهذا سواء كنت قرأت، او لم تقرأ كلمة من روايات غابريل غارسيا ماركيز، فانت بالتاكيد تجد نفسك مدمناً على الحديث عنها .. فالواقعية السحرية التي برع بها هي الوحيدة التي تجعل أغرب أحلامنا متاحة ويمكن تصديقها بشدة. فماركيز برع في ان يدمج عناصر خيالية في بيئة "واقعية"، نساء تطير في سماء طبيعية، جد يعيش على مدى قرون، ولكن لا أحد يلاحظ أن شيء تغير فيه، خلطة روائية غريبة فيها الشخصيات التي نحبها والتي نكرهها، القضايا الفاشلة في الحياة، الحب، والجنس، العنف، والخلافات التي لا نهاية لها، المأساة، والمؤامرات، الميلودراما، والواقعية، فقد قرر ماركيز أن تصل اعماله إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ليحقق المتعة والتسلية.. وعلى حد تعبير الناقد الادبي الشهير هارولد بلوم، فان مثل هذه الروايات يمكنك قراءتها اكثر من مرة لأنها لا تستنفذ اغراضها :" كل صفحة مليئة بالحياة تفوق قدرة أي قارئ واحد على استيعابها، لا توجد جمل ضائعة او زائدة، ولا مجرد انتقالات، في هذه الروايات، ويجب أن تلاحظ كل شيء في الوقت الذي تقرأ فيه." قال بابلو نيرودا عن ماركيز بانه افضل من كتب بالاسبانية منذ ان كتب ثيرفانتس ملحمته دون كيشوت .  

في معظم رواياته سيحاول ماركيز ان يخدع القارئ لكي يصدقه، وهو يستخدم مهارته الصحفية التي تعلم منها كيف يستخدام تفاصيل محددة للغاية عند وصف الأحداث الرائعة. وجد أن القراء كانوا أكثر ميلًا إلى تصديقه عندما وصف الاشياء الغريبة والخارقة، أصر على أنه كان يقدم الحقيقة ببساطة كما يراها:" الحقيقة ليست مجرد الطريق التي تحت قدميك. إنها أيضًا خرافات عامة الناس".

 قال يلينيو أبوليو مندوزا في حوار مطول نشر بعنوان " رائحة الجوافة :"   الحياة في حد ذاتها أكبر مصدر للإلهام، والأحلام ليست سوى جزء صغير جدا من هذا السيل الذي يمثل الحياة، أرى أن الأحلام جزء من الحياة بشكل عام، لكن الواقع أغنى بكثير".

في كلمتها امام لجنة جائزة نوبل قالت الكاتبة الجنوب أفريقية نادين جورديمر ان واجب الكاتب، هو أن يكتب بشكل جيد"

في مواجهة معركته مع المرض فعل ماركيز ذلك ايضا عندما قرر كتابة " موعدنا في شهر آب " فهذا العمل ثمرة صراعه مع المرض وفقدان الذاكرة، وهو شهادة على شكل حب ماركيز والتزامه بالأدب.

صحيحٌ أن الرواية ليست مصقولة مثل أعماله الأخرى كما يقول ابناه في المقدمة، لكنّ محرر الكتاب كريستوبال بيرا يؤمد انها رواية : " مكتملة وناجزة وسوف يرى القراء اكتمالها بأعينهم. لم أجدْ نفسي مضطرًّا ولا مرّة بالطبع لإضافة أيّ كلمة على النصّ، بل إنّني لا أجد ضرورة لذكر ذلك.

يقول غونزالو في حديث الى صحيفة الشرق الاوسط اجراه شوقي الريّس :" هذه الرواية هي ثمرة الجهد الأخير الذي بذله والدي للاستمرار في الكتابة رغم الظروف الصحية التي كان بدأ يعاني منها. ولدى قراءتها مرة أخرى بعد عشر سنوات تقريباً على وفاته، اكتشفنا أن النص يزخر بالعديد من المزايا التي تستدرج القارئ إلى التمتع بأبرز ما في أعمال غابو: قدرته على الإبداع، ولغته الشعرية، وسرديته الأخّاذة، ومعرفته العميقة بمكامن النفس البشرية، ومدى التصاقه الحميم بما عاشه من التجارب، وبخاصة في الحب الذي ربما هو المحور الأساس والمحرك الأول لكل أعماله " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم