قراءات نقدية
رانية مرجية: التحليق بأجنحة من حجر

حين يصبح العشق دينًا والمحبوبة ميتافيزيقيا.. قراءة نقدية في ديوان يحيى السماوي ..
ليس "التحليق بأجنحة من حجر" مجرّد ديوان شعر، بل هو نصٌّ كونيّ يتقاطع فيه الله مع المرأة، الوطن مع الجسد، والتصوّف مع الزنا المقدّس. إنه صرخة مجنونة على هيئة قصائد، يخوض بها يحيى السماوي معركته الأخيرة ضد الخذلان، الغربة، الفناء، والجمود العقائدي.
في هذا العمل، لا يعرض السماوي نصوصًا، بل يفتح عروقه ليكتب بدمه، بلحمه، بصلاته، بعريه، بطفولته، وبشيخوخته. كل بيت هو خلية نابضة، وكل صورة تشقّ الحواس كالعاصفة. نحن أمام شاعر لا يخاف من المجازفة، ولا يخاف من المجاز.
المحبوبة: أنثى، إلهة، كونٌ مكتمل
في ديوان السماوي، المرأة ليست نصف المجتمع، ولا نصف القصيدة؛ هي القصيدة بكاملها، وهي الجسد والنصّ في آنٍ معًا.
إنها البتول السومرية، العذراء المقدّسة، ومَن يتوضأ بنداها، ويصلّي نحو نهديها، ويُقيم شعائره على خصورها كأنه يؤسس ديانة جديدة:
" متوضئًا بنداكِ
صليتُ الغروبَ
ميمّمًا نحو الواحد الأحد: الفؤادَ
ونحو خدركِ مقلتي
وفمي توجّه نحو كوثر زمزمِكْ "
هنا، نلمح انزياحًا لاهوتيًا جريئًا، يعلن فيه الشاعر أن المحبوبة هي القبلة والقيامة والمحراب. هي الله الممكن في زمن الآلهة الغائبة. هو لا يعشق امرأة، بل يؤمن بها. ولعل إيمانه بها أعمق من إيمانه بالمفاهيم الثابتة.
القصيدة كعقيدة، والمجاز كفداء
يكتب السماوي كما لو كان الحلاج يعود بعد ألف عام، لكن أكثر عريًا، وأكثر ولهاً، وأقل خوفًا من صلب جديد. قصائده تتفجر مثل نبوات متمردة. وفي لحظة، تصبح القصيدة خمرة، ثم سريرًا، ثم صلاة، ثم سيفًا.
"أحببتُ فيكِ غدي الذي قد مرَّ في
أحلامِ أمسي حين عزّ المطلَبُ"
في كل بيت، هناك صوفيٌ يقبّل قدم نبيته، وفي كل فاصلة، هناك رسولٌ يعترف بخطيئة النور. إن اللغة عند السماوي ليست أداة وصف، بل طقس خلاص.
الدين الآخر: أنثوي، حسي، صادق
في ديوانه هذا، يتقاطع الإيمان مع اللذة، ويتقابل الجسد مع الروح، في لحظة شعرية نادرة. الصلاة لا تُقام في المساجد فقط، بل على شفتين، على نهدين، على عطرٍ فائرٍ من جسدٍ حيّ:
"صلّى على قميصها يومًا صلاةَ الظهرِ
ركعتينْ
لأنه في سفرٍ
بين سهوبِ الخصرِ والساقِ
وبين الجيدِ والنهدينْ "
ويعلن بلا وجل أن طقوسه قبلها كانت مدنّسة. كأن الحبيبة، في لاهوته الشعري، هي "الطهارة المطلقة"، وهي وحدها من تغسله من أدران الخطيئة:
"أقسمُ بالتفاحة المقدّسةْ
وبالندى الناضحِ من زهرتها
واللذة المحتبسةْ
أن طقوسي كلها قبلكِ
كانت
نزوة مدنّسةْ "
هذا ليس تمرّدًا على الدين بقدر ما هو إعادة تشكيل للقداسة نفسها، بنزعة حسية لا تخلو من النور.
المنفى الأبدي: الجسد وطن، والوطن قبر
الغربة ليست مكانًا في هذا الديوان، بل هوية مجروحة.
السماوي، المنفي بين وطنه المسروق وحلمه المشنوق، يُحوّل قصائده إلى خيام مؤقتة ينام فيها قلبه ويهذي.
هو النبي المطرود، والحبيب المصلوب، والشاعر الذي يرتّق جراحه بالحبر والدمع والغناء:
"ما منقذي مني سوايَ ..
أنا عدوي لو جنحتُ عن اليقينْ"
هكذا يعلن أن الصراع ليس فقط مع السلطة أو الوطن، بل مع النفس التائهة، ومع القلب الذي يخونه الرجاء.
لغة من لهب وماء
ينسج السماوي لغته من الياقوت والرماد، من الرموز السومرية والمفردات الطقسية، من ماء زمزم وخمر بابل. يجمع بين فصاحة التراث وتمرّد الحداثة. لا يخشى من المجاز العالي، ولا يتورع عن العري البلاغي:
" حينًا أمُصُّ التين والخوخَ
وحينًا أرشفُ الزفيرا
وأفرشُ البساطَ والوسادَ والشرشفَ
والسريرا
عبدٌ ..
ولكنّ الهوى صيّرني
أميرا "
هذا شاعر لا يؤمن بالقصيدة المداجنة .. يؤمن فقط بالقصيدة الحقيقية، وإن كانت مرقّطة بالجنون، بالوحل، بالشهوة، بالبكاء.
خاتمة: الشاعر متَّهمٌ بالحب
التحليق بأجنحة من حجر هو شهادة شاعر في محكمة الكون.
هو سِفر عشقٍ لا يعرف التوبة، وكتاب صلاةٍ من دون محراب، وأسطورة شاعر اختار أن يكون عاشقًا حتى الوجع، ومؤمنًا حتى الكفر.
في هذا الديوان، القصيدة ليست قصيدة، بل حياة موازية، بديلة، مكثفة، وموجعة.
وأكاد أجزم: لم يكن يحيى السماوي يكتب، بل كان يتطهّر.
***
بقلم: رانية مرجية