قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في القصة القصيرة (قصة الغياب) للقاص وارد بدر السالم

تداخل الزمكانية وإحالات الميتاحكي

توطئة: قد يصح القول في صدد دراسة نصوص القاص والروائي القدير وارد بدر السالم عبر فحوى نصوص مجموعته القصصية (المعدان) ذلك التوافر التخييلي بالأداة ومعطيات العناصر والعوامل الوسائلية المبثوثة في جملة اوجه متباينة من انتقاءات الموضوعة الحكائية المكرسة في محمل مكتسبات خاصة من احوالية الواقع الجنوبي في الاهوار والاطراف المقصية من احياز هوامش المكان المركزي -اي المدينة- وعندما نطالع طبيعة التركيبة الموضوعاتية -الحكائية،، في أنساق هذه المختارات القصصية الرائعة، تواجهنا مستويات تخييلية عابقة بمعانقة تمثيلات الاحوال والوقائع التي وكأنها من الإمكان وقوعها في مجمل إشارات الزمن والبيئة الطبيعية لتلك الأمكنة والذوات العالقة في محفل تشعباتها العبقة بروائح القصب والبردي وهسيس قامات الاعشاب المتبرعمة عند حواف ضفاف المواقع التي تقع فيها المسطحات وجداول الانهار، ناهيك عن مغزى الأسرار  التي تنبعث مع تناقلات الزوارق -المشاحيف- وما تحمله من روائح رطوبة الاجساد التي اخذت سواعدها بالتجديف لتنكشف عضلات أيديهم المتعصبة والساعية بفعل الحركة التجديفية نحو أماكن أكثر غورا بالصورة والدلالة والمنظور الايقوني المحفوف بالمحتمل الممكن سرا وجهرا، والذي لا يمكننا توكيد وحداته، سوى بالاتكاء على حقيقة تفاصيل المرادات المدلولية والسياقية المدعمة من خلال معطيات حقائق الأمكنة والازمنة في جغرافيا المواقع الأهوارية في جنوب البلاد، اي أن من اعتاد معايشة تلك الطبيعة البيئية من منظور معايشة زمنية قصيرة، لربما سوف يجد في نصوص وارد بدر السالم القصصية موضع بحثنا، اثرا ومؤثرا فاعلا ومحققا في مجموعة (المعدان) خصوصا وإن جذور هذا القاص السيرذاتية تعود الى الجنوب نفسه، فلا عجب من أن يستثمر هذا القاص المبدع من الطبيعة المكوناتية للهور بهذا  الشكل الخصيب من الأسطرة في مستوى قد بدا للقارئ منه بعيدا عن ملائمة الصحة الموضوعية في النص، وأفتقادا الى دليل المعطى الدلالي المبرهن والمعقلن في مرسلات القص. ولكننا مع قصص وارد السالم كلها في نطاق احوال هذه الدالات من موضوعة القص، بخاصة وأن للطبيعة الموقعية والموقفية لمثل هذه الاجواء من الهيئات البيئية، مراحلا أكثر صدقية من الانظمة التوظيفية في النصوص الاخرى، صحيح من جانب ما أن القاص السالم يؤثر في محمولات نصه ظروفا أكثر قربا من الايهامات من حقيقة الوقائع، ولكنها ذاتها الاختلافات تأكيدا على حجم صحة المفترضات الواقعية ذاتها وبذاتها، إذ تتماشى هذه الفرضيات الى جانب حدود اسطورة الاهوار وعوامها القريبة من الغرائبية والأكثر بروزا بمثل تلك النوعيات من معالجة تنصيصات الموضوعة في قصص (المعدان) سردا وتوصيفا ودليلا . فلو قرأنا وقائع قصة (قصة الغياب) المنصوصة في لائحة قصص المجموعة، لوجدنا أن القاص راح يتعامل مع الانظمة الأدائية في محاور النص، من خلال نقطة شواغل حكائيه إمكانية مفترضة بالواقع المعاش، اي بمعنى اصح ان موضوعة الاهوار تتطلب من الكاتب نفسه، كل هذا المدى من القابلية التصويرية بالايحاء الوصفي، ذلك بحكم كون حيوات الشخوص في وسط هذا القلب من الواقع المستنقعي، كان ويكون بمثابة الافتراض على وجود مثل هكذا حساسية فنتازية وعجائبية و معادلات رمزية، تكشف لنا عن مغزى الصور الداخلية والخارجية من ذوات الطبيعة الشخوصية لسكان هذه الاحياز من القرى المستنقعية، وما يصاحبها من خيالات تتخذ لذاتها في الغالب ذلك النمط الصياغي المؤسطر من مجال مكونات الحياة في تلك الامكنة الغارقة في اللامكان في اللاواقع في اللاوثوقية من موارد ومقادير الحقيقة المبررة، ذلك لأن وجهة نظر الكتابة تدخل الحقائق في شكلها المادي الى مجالات مفترضة من تحليقات المخيلة في الانحاء الصورية الاكثر تأويلا في مبررات العليات والاستدلالات الفرضية البحتة.

- الرؤية الاستهلالية بين علاقة السارد ومحكيات المسرود

1- كينونة التمثل في ملامح زاوية الفعل والافعال:

لربما ونحن نطالع مستهل النص القصصي -قصة الغياب- تواجهنا جملة كثيفة من العلاقات والعوامل والأدوار الشخوصية في تدبر ومتابعة دلالات غرائبية لها جانبا من الايهام برؤية تستدع معاينة الاطوار الحوادثية بمنظور (اللامرئي: تصوير - تداخل - شواهد امتداد-ارتداد عكسي)وهذه الطبيعة من المحاور هي الاساس المؤسس لأطوار موضوعة حكاية النص، ناهيك عن ما يسودها من تداعيات استعارية ووصفية تتخذ لذاتها من تقانة التداخل بين الظروف والمتقابلات المشهدية، تفعيلا في أطروحة الحبكة القصصية التي أخذت من عقول وأفئدة الناس، ردحا ملحميا في الانزواء والبطولة والغياب بعدا يتماهى مع حقيقة التفاصيل في حكاية النص الايهامية: (ما من احد يريد تصديق الحاج، إذ انه لا يمكن أن تحدث معجزة، وما من احد بمقدوره أن يصدق أية أقوال أخرى -فقريتنا ما تعودت على مثل ما أشيع ليلة البارحة، برغم أن الحاج رجل طيب وشهم، ومن الصعب عليه وعلى رجالنا أن يكون -حاشاه كاذبا- ولو أن الأمر ظل مقتصرا على ما رواه الحاج لكان بإمكاننا نسيان ما سمعناه وأعتبرنا المسألة مجرد وهم أو ليس وقع فيه الرجل شأنه بقية عباد الله / ص 45، النص القصصي) تتوزع تواترات المناوشة في مجالات التخييل السردي، في حدود ملازمات السؤال والاستفسار وتداعيات مدارية التجاذب والتقاطع، وهذا الامر ما بدا يتعامل وجذوة فعالية خلق التوتر الاستهلالي، كحالات فرعية -عتباتية- تنطلق منها الوحدات في اتون صور ومظاهر الطريق الى الحبكة التي يحاول السارد تحفيزها في قواسم وأطر تحيينية لمعانقة العلل والاسباب التي جعلت من تلاقي أحابيل الدعوة في المقاصد الوحداتية، دليلا على البدء بحكي تفصيلات تتعلق بذلك الشخصية الحاج والاخر عبدالله البلام: (عبدالله البلام كان حائرا مثل الحاج، يقسم باليمين أن عينيه لا تكذبان..فالوقت كان فجرا وباستطاعة المرء أن يرى الاشياء بوضوح .. كان علي متعبا جدا.. لم اشأ أن أتعبه بالكلام، بدا قادما من سفر ./ ص45 ص46 النص القصصي) بين شخصية (الحاج) وشخصية (عبدالله البلام) تتمحور خصال التشابه في البرهان والمشاهدة، فكلاهما قد شاهد ذلك الرجل الذي لا نعلم عنه سوى ان له في الغفير الحاشد من أهل القرية، فمن ياترى هو علي؟هل هو من ذوي الشأن الاجتماعي الرفيع؟ أم تراه كان من كبار صيادي الاسماك ربما في الهور ويمتلك العديد من ملكيات المشاحيف و مئات من شباك الصيد ربما؟ إن لم يكن عليا هذا بهذه الصفات التي يقدرها ويقيم لها أهل القرية ك هذه الفرائض الخاصة، فما يعني هو تحديدا؟ هل هو يمثل سلطة دينية أو حكومية أو عرفانية أو صوفية مثالا؟ . في الحق أن السارد لم يعرف هوية هذه الشخصية في الوحدات الاستهلالية، ولا من ناحية الوحدات الاولى من الجزء الاولي من  الحكاية، بل أنه وضعنا من خلفه القاص في خضم استيهامات مسكوكة تعجز قابلية القارئ عن فك حجب أسلوبها المسرود خطابا وحكيا.

2- الاستيهامات المؤسطرة والحلم الشخوصي بقدوم الغائب:

لو سنحت لنا الفرصة في الاسهاب بصدد الحديث المتسائل حول سرانية أهل القرية واهتمامهم الخرافي بهذا الرجل المدعو ب(عليا) لكان لنا كل الحق في سبر أسرار هذه الهيمنة العجيبة لهذا الرجل، وعندما نتقدم في قراءة النص وحوادثه سردا وحكيا، تتحقق لنا النتيجة القصوى بأن هذا الرجل هو من خارج الزمان أو هو من الخوارق: (لولا أن رجلا من قرية المعدان قال انه شاهد بعيينه الاثنتين عليا يمرق في سوق القرية مصفرا بالتراب، يجري وراءه سحابة من رائحته المعروفة، وتطير خلفه اسراب من الزنابق البرية والشقائق الملونة./ص46 النص القصصي) بهذا النحو جعل السالم شخصيته القصصية تتعدى الٱفاق العلوية من وعي وسذاجة أهل اقرية، ولكن هل كل من شاهد عليا ملء عينيه أن يواجه حلمه في بث المزيد من استطردات الحكايا التي راحت تكشف عن أن هذا الرجل يتصل في حدود قداسية خاصة تتجاوز مواقع وكيفيات كيانية وشخصانية، وتبعا لهذا راحت تتوالد حكايا عمومية وخصوصية، منها ما جعله السارد تراتيبيا في التفاصيل الخطية، ومنها ماراح يتلبس لبوس جلبابا من هيئة الاستيهامات والعجائبي: (علي غاب كما تغيب الشمس في يوم بارد، بحثنا عنه في كل القرى والبزايز، غاب منا ألف رجل في بطون الاهوار الفسيحة أياما طويلة، سوى رائحته المعروفة التي تملأ كل الامكنة  أينما حلت -رجالا ونساء واطفالا واشجارا وبيوتا و انهارا وطيور ونخلا واحلاما، القرى كل القرى، مثل قريتنا، تمارس الانتظار المجهول وتناغي طيف علي وتجمع ما تبقى من رائحته الأليفة المطهرة./ص47 النص القصصي) إن الخطاب المسرود والمروى هنا عبر وحدات القص، هو في أفضل احواله  يشكل حالات  تداخلية في المسافة والرؤية في المنظور المرجعي المرمز، فمثل هكذا تفاصيل لا تستقم إلا والقاص يماثل درجة رمزية تتعلق بأحد من الشواهد المرجعية الخاصة بالمسمى الديني والعرفاني، أعني وضوحا أن القاص راح يختزل لبوس علامة لها شأنها في المعجم السياقي وقد تم بثها في جملة صفات إعادة التوليف لها في مفترضات خاصة تتتاسب طرديا مع حيثيات حكاية أهل القرية، لذا فهي تدخلا خارقا، ولكن في حدود سياق حكايةقصصية لها تمفصلاتها المتباينة والمضمرة مع علاقة تماثلية قصدا. لذلك فالقاص يدخلنا في وحدات نصه الصاعدة الى وقائع ترددية -مونولوجية، نستشف منها ومن وراءها بأن الحدود الزمكانية للافعال السردية راحت تدمج ذاتها في دائرة حوارية استيهاية تقع خارج الزمن للحكاية:(في كل مجلس في قريتنا، في كل القرى، لا بد أن يكون علي في صحراء على فرسه البيضاء، وهو يطوي موج الرمال بصدره المدرع- يطارد الحراب ويفتح اظافرة لجداول الماء، لابد أن يكون في وحشة أدغال الهور المنعزل خلف القرى /ص50) بهذا التعامل الشفراتي راح السالم يؤثث المجال المؤسطر في حياة الشخصية المحورية لديه، انعكاسا واختزالا لذلك الأثر المرجعي الصفات، ولكنه ادخله -اي القاص- في مجال إطار رؤية تتحدث عن محور شخوصي له من الوقائع ما يخوله ان يكون مسرودا في علاقة تتم في حدود خلق عجائبي يتجاوز منظومة الاحداث المتتالية في البناء القصصي، دخولا الى عوالم داخلية من النص، تعيدنا الى وظيفة المونولوج الدائري في مثل طي هذه المحاورة: (من أنت ايتها الصبية ؟ وجدت نفسي هنا .. أحدهم سرق قلائدي وخلاخلي وأقراطي .. وتركني هنا أذرع الرمال وحيدة./ص50)

- تداخل الزمن في كيفية استرجاعية انعكاسية

أن غائية تداخل الزمن أو عكس المنظورين في منظورا صفريا، لربما هي من تقانة التقاطب الكياني بين الطرفين، أو هو التمثيل في تقنية استرجاعية انعكاسية، ولعل جميع الصلات في عملية الاستقطاب الوقائعية للصوتين هي فعلا إيحائيا في الامتزاج بين الازمنة، والاحساس بها يكون متلازما في التضمين والاستحالة في محفوظية التنوع والانشطار، كما الحال في الاجزاء المونتاجية من الوسط الجزئي للتص، فهي عملية تتصادى فيها الابعاد الزمنية وتلتحم عبر مكون تركيبي يجمع ما بين (المونولوج- المونتاج) تماثلا مع تداخل الازمنة في تفاصيل تمدد الى ما قبل زمن الحكاية: (أمي... السنوات حفرت ٱثارها في عينيك - لقد حفرت في قلبي كثيرا ياعلي-- مازلت أمي التي لا أنام إلا في حضنها - وانت ولدي السبع ياعلي -ما حكاية سنواتك ياوالدة؟)

تعليق القراءة:

لعل سياق مقتبسات هذه الحوارية، هي أعلى الاجزاء في النص القصصي (قصة  الغياب) فمنها نستشف تداخل البرزخ الزمكاني في مضمرات مدلولية لها مشخصات وتماثلات عكسية وانعكاسية في الإيحاء الماقبلي لزمن الصفر في بنية الحكاية، ولها جمالية وحدات (الميتاحكي) ضمن مستويات توالدية مرٱوية بالافعال والفعل الشخوصي المتداخل في منظورية الواقع ووسائل فضاءات البناء النصي.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم