قراءات نقدية
فاتن الربيعي: قراءة نقدية لمسرحية (ثورة) من الجزائر
عرضت مسرحية (ثورة) ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي الذي أقامته الهيئة العربية للمسرح بالتعاون مع وزارة الثقافة العراقية ونقابة الفنانين العراقيين ـ الدورة الرابعة عشر ـ بغداد ـ الساعة الخامسة من عصر يوم الخميس 11/1/2024 / المسرح الوطني. قدم العرض (المسرح الجهوي سيدي بلعباس / الجزائر).
النص: يوسف ميلة / هشام بوسهلة.
مُعد عن روايتي (الجثة المطوقة) و(الأجداد يزدادون شراسة) للكاتب ياسين.
تصميم العرض: عبد القادر جريو.
اخراج: عبد الاله مربوح.
تمثيل: نوال بن عيسى، جناتي سعاد، عبد الإله مربوح، عبد الله جلاب، أحمد بن خال، ابو بكر الصديق، سهلي احمد.
(الثورة تحدث نتيجة الاستبداد والطغيان، ولكنها نفسها حبلى بالطغيان) (ويليام جودون).
بُنيت فكرة العرض على وصية كبار رجال الثورة للشباب المنتفض الثائر في حمل الرسالة والاستمرار في المقاومة، فكرة رصينة قوية متينة، محكمة الصنع، تتحدث عن الثورة وما بعد الثورة وتسلط الضوء على اقتسام الغنائم والزعامة والحصول على موقع في السلطة، ثورة لا مكان محدد لها، ولا زمان، الثورة فيها فكرة وفيها مصالح وزعامات ومناصب، ثورة أقرب إلى التاريخ، اقرب الى التوثيق، أفضت بها حوارات قوية البناء، واضحة الدلالة، إلا في بعض المشاهد ادغمت اللغة بلهجة جزائرية صعبة الفهم على غير جمهور المغرب العربي.
ثورة تجسدت فيها المأساة الانسانية عبر نحيب وبكاء وكلمات مؤثرة على لسان شخصية (نجمة) المتلألئة التي حطت على الأرض المعطاء، هي النقاء والطهر كما في ملبسها، لتمثل الأرض الصلبة، إنها الحبيبة التي اوقعت بحبها (الاخضر) حامل الراية التي ـ تسلمها من (كبلوت) الثائر الكبير، الذي قدم وصاياه (للأخضر) للدفاع عن الجياع، عن الفقراء، عن الضعفاء، لتكون حبيبة (الاخضر) الذي نأى بنفسه عن المطامع فهو لا يريد شيئاً لنفسه، هو العاشق الوارث الذي ترشح ليكون حامل رسالة المقاومة والنضال والدفاع عن الوطن ضد العدو المستعمر بمساعدة بقية الثوار الشباب من ابناء البلد ـ مشهد جسد بلغة اقرب الى الشعر، دغدغت مشاعر المتلقي، وحفزت انفعالاته، استعادت ذكراه لماسي الحبيب (الاب، الاخ، الزوج، جميع من فقدوا) ذكرته بالإعدامات والاغتيالات بعد كل الثورات، و(ثورة الجزائر) ككل الثورات التي مرت على جميع بقاع الأرض.
ثمة احالة الى التراث العربي في مشهد ذر الماء من الإناء على الأرض عند الباب، حين تودع النساء احبابها، وهي دلالة رمزية تعني تمني العودة.
جسد العرض ممثلين على درجة عالية من الاحتراف من فرقة (للمسرح الجهوي الجزائري)، كان جميع الممثلين بلا استثناء وبتفاوت بسيط لاحدهم على الاخر في بعض المشاهد، فهم جميعاً امتلكوا الاحساس والمشاعر الجياشة، وقوة التركيز والمطاولة في الاداء، ادوا ادوارهم بجدارة عالية، تلبسوا بالشخصيات، وامتلكوا القدرة والقابلية في الولوج الى التحليل النفسي للشخصيات، وبات ذلك واضحاً من خلال الهيئة/ الشكل الخارجي، فهم امتلكوا مفتاح الشخصية وساروا بها للتواصل مع المتلقي بانسيابية عالية من الاحساس بالصدق والاتقان في عملهم طوال عرض المسرحية، الممثل استطاع ان يسطر افكاره في الدور من خلال التخيل الواسع الذي امتلكه، ولا ننسى دور ومساعدة قائد العرض المخرج (عبد الاله مربوح) الذي اشتغل كثيراً على الشخصيات ليوصل رسالته من خلالهم، فالمخرج عًولً كثيراً على المهارات الفنية والتعبيرية، بالطرف الاخر ارتكز الممثل على موهبته وحسن استخدام ادواته، بالصوت المعبر والنطق السليم والتمكن من ضبط مخارج الحروف، والحركة الانسيابية والمرونة العالية لأجسادهم، ظهر هذا جلياً من خلال الانفعالات والمشاعر المصاحبة للصوت والجسد، كان الجانب الجمالي اساس تكاملية العرض وتألقه، فهم (مجموعة من الشباب الثوار في فضاء تاريخي غير محدد، كل واحد منهم يريد لنفسه نصيباً من السمعة وحتى الزعامة مما سيؤدي بهم الى مأساة تتكرر في كل ثورة) فالممثل وظف نفسه للدور بشعور واحساس عالي نابع من فهمه للهدف النبيل للمسرحية، لذا اتحف العرض بأداء تمثيلي اوقظ الحياة الداخلية للشخصية، امتلك التكنيك العالي، وبذا ايقظ واجج وحفز مشاعر المتلقي، فجاء عرض (ثورة) يعج بالجمال واللياقة والدقة والانضباط العاليين من خلال رشاقة الاداء الواضحة على محياهم. سار العرض بوتيرة اداء متنامية للوصول الى الذروة عبر ايقاعات العرض التي عزفت على وتر المشاعر الانسانية. فهي (ثورة) جاءت برسالة لكل الشعوب التي مرت عليها الحروب والثورات نظرة الى ماضي ومستقبل الشعوب.
جاءت أزياء الشخصيات بتصاميم والوان تحمل عبق الماضي وثرائه، وفيها الكثير من الحاضر، فدلالة الألوان ورمزيتها في زي (نجمة) المتشحة بقماش ابيض اللون ذا دلالة وحالة يتوافق معها اللون وتأثيره السايكوفيزيائي، فهو النقاء، والخلود، والطهر، والبراءة، والصحة، هو لون خفيف متحرك، وهذا انعكس على أداء الشخصية بٍعدها الحبيبة والوطن والأرض.
اما (ماريان) ذات الرداء الاحمر مثلت المستعمر، أدت الشخصية بحرفية عالية وجمالية استعانت ببعض حواراتها بـــ (اللغة الفرنسية) جاء اللون الأحمر الطاغي على هيئتها ، دلالة لون ثقيل، دافئ، ينم عن القدرة، والنعيم، والاستحقاق، والجدارة، هكذا جاءت دلالة ورمزية زيها، وبالتالي دفع هذا بالشخصية ان تكون الطاغية والمستعمر والعدو، استعانت (ماريان) بقطعة اكسسوار (مروحة يدوية) بلون احمر باتت دلالتها ورمزيتها باستخدامها بشكل دقيق وواعي ومؤثر واضح كنسق علامي بارز. فالأزياء كتصميم جاءت بلا هوية، لا زمان لها، ولا مكان محدد.
أما المنظر فقد كان بسيط في شكله وعميق في مضمونه، تجسد في تكوين جمالي وسط وسط المسرح، تشكيل ضخم ذو بوابتين أراد من خلاله مصمم العرض (عبد القادر جريو) ايصال رسالته الى المتلقي مبطنة بالدلالات والإشارات والرموز والمعاني من خلال الأنساق العلامية، تمكن من صناعة تعبيرات مسرحية مشهديه غايتها خلق المتعة البصرية، فهو تارة مُصلى وأخرى تعاملت معه (نجمة) ليكون مرآة تحاكي نفسها وتلومها وكأنها السبب في سحب البساط من تحت عباءة (الاخضر) واغوائه لأن يكون حبيبها الذي لا مصلحة له، ولا طمع في السلطة والحصول على المغانم، واخرى مقصلة او مكان اعدام (الاخضر) وتعليقه فيه، واخرى مكان دخول المستعمر المتمثل بـشخصية (ماريان) ثم اخيراً اصبحت باباً لخروج الطغاة والاعداء وطردهم منه.
أفاد المخرج من ذلك التصميم ومن حرفية الممثلين التي جاءت بمستوى عالي صوتاً وجسداً باعتبارها الفاعل الأساسي للتجسيد الفعلي لرؤية الإخراج وإيصال رسالة العرض، مع الاشارة الى ان المخرج استخدم المقاطع الموسيقية المؤثرة ذات المسحة المحلية الشعبية الجزائرية رافقت بعض المشاهد المسرحية في تسليط الضوء على تاريخ وحياة الشعب.
رسالة العرض (حدثت ثورة... ماذا بعد؟ الثوار يتقاسمون السلطة ليكونوا... ؟) ان ما قُدمَ من مشاهد مسرحية ذات بُعد جمالي ودلالي عالي لم يكسر افق توقع المتلقي في ما تؤول اليه الثورات وما بعدها من الصراع على مغانم الثورة إثر توالي الحروب ووجود المستعمر في واحدة أو أكثر من الدول التي تعرضت للثورات والحروب، سلطت المسرحية الضوء على تاريخ وحضارة الشعوب التي تعرضت الى الحروب والثورات.
***
د. فاتن الربيعي