قراءات نقدية

عبد الـمـُجيب رحمون: مغامرة السرد النسائي في مواجهة الأنساق الثقافية (1)

نقد رواية "أموات يحكموننا ل شيماء أبجاو"

دهشة الحقيقة وسؤال المعرفة

من الأمور التي تجعل عقل الإنسان في شغل دائم وتفكير مسترسلٍ هو البحث في أسئلة متعددة كالتي تطرحها الفلسفة الوجودية، أو كما يصورها فلاسفة ومفكري علم الكلام مثلا، أو كما ينقلها لنا النقد الثقافي في علاقته بالأنساق المتوارثة، من هذه الأسئلة: ما الحقيقة الكامنة وراء الوجود؟ هل العالم مادي أم طبيعي؟ كيف يوازن الإنسان بين العقل والقلب؟. كل هذه الأسئلة  يمكن أن نجد صداها في النفي الهايدغري المعبر بصيغة   Ne-pas التي تحيل للوجود كاختلاف، وهذا ما يفسر عبارة: الوجود الأنطولوجي[1].

من هذا المنطلق تبحث "شيماء أبـجاو" في روايتها (القصيرة) "أموات يحكموننا"[2] بحيث شيدت خطها السردي بناء على قسمين: قسم يؤطره حوار دقيق بين شخصية طارق وأبيه حول مفهوم الحقيقة، بعدما سلمَّ ابنَه

وصيةً مكتوب فيها عبارة:  وحيدة «وصيتي ألا أدفن»[3] ، إذ شكلت هذه العبارة قلقاً فكرياً ودهشة عارمة لطارق، لم يستوعب أبعادها، خصوصا عندما دعاه إلى البحث عن شريط (الفيديو) الذي يتحدث عن البعث والإحياء وقراءة كتاب «مكة في جغرافية القرآن»[4]، لقد «أصاب طارقَ زلزالٌ رج بعنف تلك السكينة اللذيذة التي ركن إليها، الشعور بالتيه يكتم أنفاسه»[5].

أما القسم الثاني فهو انسلال فني من موضوع البحث عن الحقيقة والوجود إلى  الحديث عن علاقة الرجل بالمرأة في سياقاتها الدينية والتاريخية، انسلال انطلق من المشهد الأول، أو القسم الأول بعد غياب سلوى عن لقاءاتها الافتراضية مع طارق: «عزيزي طارق أعرف أني لم أفعل صوابا بهذا الانقطاع البشع، فما كنت لأقبل منك غياباً دون مبرر أو وداع»[6]. وكان غيابها مرتبطاً بمشاكل أسرية أساسها تسلط وظلم الأب لها ولأمها وأختيها، وهذا في نظري هو رهان هذا العمل، وموضوعه الرئيس الذي راهنت عليه الكاتبة برؤية فنية تطرح الكثير من الأسئلة. لقد شكل هذا القسم، حديثا صريحاً وقوياً عن الأزمة التي خلقتها بعض النصوص الدينية وتأثيرها عن علاقة الرجل بالمرأة، دون أن تبحث في سياقتها وموثوقيتها (Fiabilité). هي نصوص حديثية استهلكت بحثا ومناقشة من طرف الكثير؛ في تبئير مشوش لموضوع الإسلام والمسلمين، دون أن تقدم شيئا ــ هذه المناقشات ــ غير التحليق خارج السرب، فالعقل الأخلاقي الذي ينظم الفكر، ويبحث ويساجل يرفض أن يجعل المرأة دون الرجل مكانةً ومهابةً وقيمةً، وما ورد في الرواية من أحاديث منسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخصوص هي أحاديث شاذة وظفت في سياقات دينية وسياسية وتاريخية مختلفة  تبنتها الكاتبة، وكان عليها أن تنفتح على مختلف النصوص الدينية الأخرى، كما كان عليها أن تتأكد من صحتها؛ إذا كانت الرؤية السردية تتجه نحو نقد الموروث الثقافي والديني «دون أن نسير عميانا على خطوات أموات مازالوا يحكموننا»[7]. فالفكر لا يموت والحضارات استمرار في الوجود؛ منها تنهل الثقافات والإنسان ماهيتها وهويتها، لذلك فزاوية النظر النقدي للأنساق الثقافية في الرواية ضيقة، أرادت المؤلفة أن تخوض في موضوع كبير بنفس سردي قصير، لن يسعفها ذلك في تتبع وتطور علاقة الرجل بالمرأة من خلال فترات زمنية متنوعة؛ يتقاطع فيها الفلسفي بالديني؛ والأخلاقي بالثقافي.

الـمغامرة المعرفية و التحايل على مقولة التجنيس

استهلت الكاتبة موضوعها بذكاء كبير، حيث وهمت القارئ بسؤال المعرفة، وورطته في ثنايا عالمها السردي والغوص في أسئلته الوجودية، أسئلة تدعمها تلك العتبات النصية التي تعلو بداية كل فصل وهي عبارات وأقوال مقتبسة من فلاسفة ومفكرين، جعلت القارئ ينساب وراء أسئلة "طارق" وحيرته الوجودية، كما يتساءل مع "السيد مصطفى" في همومه المعرفية، وهي أسئلة مشروعة ومنسجمة مع ماهية العقل، ولا يمكن للقارئ أو للباحث، أن يرفضها فالتدبر والتفكر في الحقيقة الكونية تطرحه النصوص الدينية، كما تطرحه النصوص الفلسفية، والوصول إلى ماهيته تظل نسبيةً، وتغذيه ثقافة ومرجعيات متنوعة، كما يتحكم فيه إرث إيديولوجي، هذا الإرث تجلى لنا في عتبة العنوان "أموات يحكموننا"؛ حيث قصدت من ورائه ذلك  الرصيد الديني والمعرفي الذي يؤطر حياة الإنسان المسلم، وقد أغفلت المؤلفة أن تاريخ الحضارات والفلسفات القديمة مازال ينير طريق العلم والمعرفة، ومازال سؤال المعرفة يعلن نفسه سيداً على كل الأسئلة. لقد اعتمدت الساردة من خلال صوت شخوصها أحاديثَ وأخباراً مجردةً من سياقها، وعبرت عن ما يسمى ب"تيار الوعي الحداثي"، بحيث أضحى شعار "أنا أفكر أنا موجود" يسم أغلب الأعمال التي تبحث في العقل الديني[8]،  بعدما أصبح الدين الإسلامي مستهدفا في إحدى خطاباته؛ من منطلق كونه يكرس الطبقية بين الرجل والمرأة، ويعلي من سلطة الرجل، عبر هذه المنزلقات المعرفية جردت الأحكام من سياقها، وركزت على متغير في الحياة البشرية، متصل بالسلوك البشري وليس بقوانين، فالغلو في استعمال السلطة أو تعنيف الزوجة وأطفالها، أو ما تقوم به بعض الجماعات المتطرفة باسم الإسلام من قتل وعنف للعامة والخاصة فهي سلوكات بشرية مرضية عنيفة، ينبغي معالجتها، ويجب محاكمة مرتكبيها فهم المسؤولون عنها، وليس الدين.

وعلى وجه القياس فقط هنا لا على وجه المقارنة، نتذكر كتاب الشخصية المحمدية "لمعروف الرصافي" الذي استطرد وأسهب في الحديث عن بلاغة الإعجاز القرآني، مستظهرا جما وافراً من كتب التفسير، لكن حينما وصل إلى انتقاد هذه البلاغة لم يجد ما يشفع له في التفاسير واكتفى بقراءته وتأويلاته للنص الديني، هنا يكمن الرهان أو المغامرة، التي عولت عليها المؤلفة في كتابـها، وتوريط القارئ في متاهة الخطاب دون تحديد مستواه التداولي السياقي، يحدثنا "بروان ويول" عن ضرورة توفر المتلقي على معلومات لتكون حظوظه قوية لفهم الرسالة وتأويلها[9]. والخاصية الأولى للسياق مما يتعين التوكيد عليها هي الديناميكية، فليس السياق مجرد حالة لفظ، وإنما هو على الأقل متوالية من أحوال اللفظ، وفضلا عن ذلك، لا تظل المواقف متماثلة في الزمان، وإنما تتغير وعلى ذلك فكل سياق هو عبارة عن اتجاه مجرى الأحداث.[10]

هكذا لا يمكن لخطاب أن يستقيم دون النظر في مجراه ومصادره وهو السياق، فالنص ينزل منازل كثيرة بحكم ظروفه المتعددة التي تفرضها سياسة الحكم في غالب الأحيان. إن التسرع في تحليل نصوص دينية يفضي بصاحبه إلى منزلق التيه، ويفقده القدرة على التأويل الذي يطلبها النص؛ تأويلا يسائل معانيه ودلالاته ويبحث في مراميه وأبعاده، يذكرنا هذا التسرع من طرف الباحثة؛ في الهجمة التي تلحق الأديان والدين الإسلامي على وجه الخصوص حيث أضحى شعاراً حداثيا وحديثا، تحت يافطة تيار الوعي الحداثي كما تقدم، وقد تجلى هذا التسرع كذلك في التحايل على مقولة التجنيس، إذ نعلم أن  الأدب يطرح إمكاناتٍ فسيحةً للتعبير عن هواجس مختلفة منها الاجتماعي والديني والسياسي، وقد أصبح وضع المرأة الثقافي يفرض عليها التعبير عن صوتها بما يخدم فلسفتها في الحياة وتوجهها الديمقراطي، لأن المرأة تحب وتعشق البوح والاعتراف، وهكذا  يمكننا تصنيف هذا العمل ضمن الكتابة النسائية المنفتحة المتحررة من مقولة النوع الأدبي، هذه المقولة التي تفرض على الكاتب الالتزام بصرامة القواعد الفنية والتقنيات المعتمدة، ولأجل تغليب الموضوع على القاعدة يتم تجاوز النوع "وصارت الرواية أم الأنواع فصار كل شيء رواية و لا شيء غير الرواية[11] ، لأنها تتضمن وتختزل كل الأنواع الأدبية دون أن تفصح عنها، لأن الكاتب يختبئ وراء هذه الفسحة الأجناسية ليمرر خطاباته ويلونها بأي لون شاء، ويصطحب القارئ معه في تحديد النوع الأدبي المقصود، بل يحمله مسؤولية ذلك.

***

د.عبد الـمـُجيب رحمون

...............................

الهوامش:

[1] - انظر محمد هلالي وحسن بيقي، الاختلاف، دفاتر فلسفية، عدد 28، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، ص: (19-20).

[2] - دار نشر الوطن، الرباط، الطبعة الأولى، 2020.

[3] - الرواية ص: (14).

[4] ـ الرواية، ص: (15).

[5] ـ الرواية، (ص: 24).

[6]ـ الرواية، (ص:72).

[7] ـ الرواية، ص: (28).

[8] - انظر، ديفيد لودج، ترجمة ماهر البطوطي، الفن الروائي، المشروع القومي للترجمة، العدد، 288، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ص: (50).

[9]- محمد خطابي، لسانيات النص، مدخل إلى انسجام النص، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1991، الدار البيضاء، المغرب، ص: (297).

[10] - فان ديك، النص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي، ترجمة عبدالقادر قنيني، أفريقيا الشرق، 2013، الدار البيضاء، المغرب، ص: (339).

[11]- انظر سعيد يقطين، قضايا في الرواية العربية، الوجود والحدود، دار الأمان، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى، 2012، ص: (78-79).

في المثقف اليوم