قراءات نقدية

كريم عبد الله: أصابع ديسمبر.. بين برودة اللمسات وحلم الجنوب الساحر

قراءة نقدية تحليلية في قصيدة: أصابع ديسمبر – للشاعر: أنور غني الموسوي – العراق.

 ***

أصابع ديسمبر – للشاعر: أنور غني الموسوي

أنا من هنا؛ من الجنوب حيث كل شيء ناعم وحلو، وأصابع ديسمبر لها لمساتها المذهلة على خدودنا. هنا، تحتضن الشوارع القصة الكاملة لأصابع ديسمبر الباردة؛ حيث تنام الليالي هادئة ويهمس القمر خلف الغيوم. انت لا يمكنك رؤية أي شيء هنا في ديسمبر، غير الأغاني والقصص القديمة. نعم، أصابع ديسمبر هنا باردة، لكن أحلامنا دافئة. نعم، ديسمبر غريب ومتهور، لكننا نحبه لأننا نتمتع بابتسامات مذهلة. ديسمبر شهر حُّر وبارد يملأ رئتي بهواء برّي. إنه مجنون وله عيون شرقية جذابة للغاية. انت قد ترى روح ذلك الغصن، وتلك الورقة، وذلك الطائر الصغير جدًا؛ قد تشعر بهم، لكنك لن تعرف شيئًا عن رغباتهم البرية لأنك لست سمكة تسبح في نهر الفرات. هنا؛ في الجنوب، الأرواح مبتهجة بشكل ساحر، انها مبتسمة ودافئة، لذا فإن ديسمبر هنا لا يصدق، فهو يصنع جنّيات مذهلة من حكاياتنا القديمة.

أصابع ديسمبر: بين برودة اللمسات وحلم الجنوب الساحر

هذا العنوان يجسد التباين بين البرد الحسي والدفء الروحي في القصيدة، مع إبراز الحس الشعري للجنوب ورؤيته الخاصة لشهر ديسمبر. كما يعكس أيضًا تداخل الواقع مع الخيال في القصيدة، ويستحضر جوهر العواطف المتناقضة والمذهلة التي يمر بها الشاعر.

***

القراءة النقدية:

قصيدة (أصابع ديسمبر) للشاعر (العراقي أنور غني الموسوي) ليست مجرد تأمل في شهر ديسمبر أو في الأجواء الشتوية الباردة، بل هي رحلة إلى الذات والروح، حيث تتداخل عناصر الطبيعة مع المشاعر الإنسانية العميقة. القصيدة تتميز بأسلوب سردي تعبيري شعري يعكس رؤية شخصية معبرة عن علاقة الإنسان بالزمان والمكان، كما تتسم بالرمزية العميقة التي تخلق ارتباطًا بين الطقس والمشاعر الداخلية للشاعر.

سنتناول القصيدة بشكل تفصيلي وفقًا للأبعاد اللغوية، الرمزية، والعاطفية التي تحتويها.

1. الجنوب كمكان: رابط بين الذات والطبيعة

القصيدة تبدأ بتأكيد هوية الشاعر الجغرافية والثقافية من خلال قوله:

(أنا من هنا؛ من الجنوب حيث كل شيء ناعم وحلو).

هذا المقطع ليس مجرد تقديم جغرافي، بل هو مدخل إلى عالم الشاعر الداخلي، حيث يصبح الجنوب أكثر من مجرد موقع مادي. الجنوب هنا يتحول إلى حالة شعورية تمزج بين الصفاء والنعومة، فكل شيء فيه (ناعم وحلو). الصورة التي يخلقها الشاعر عن الجنوب ليست فقط طبيعية بل ذات طابع وجداني، فهو يربط المكان بالراحة النفسية والعاطفية، ما يعكس تأثره الشديد بجمال هذه البيئة.

الجنوب في القصيدة يمثل الفضاء الذي يعكس شخصية الشاعر وتجاربه الحياتية، وهو أيضًا المكان الذي يحيا فيه الشاعر بمعزل عن القسوة التي قد تعصف بالمكان. (هنا) في هذه الجملة تكرارٌ يعكس ارتباط الشاعر بالمكان، حيث يشعر أن هذا هو مكانه الأمثل، هذا هو وطنه الروحي. من خلال هذه الصورة الشاعرية البسيطة، يوحي الموسوي بأن الجنوب هو مصدر إلهام شعري، فيه تكمن الحكايات القديمة، والأغاني، والقصص التي تندمج مع الطبيعة لتخلق واقعًا مميزًا.

2. أصابع ديسمبر: بين البرودة واللمسات العاطفية

تتجسد الصورة المركزية في القصيدة في عبارة (أصابع ديسمبر). هذه العبارة تستحضر صورة ليدٍ تمتد لتلامس وجوهنا، ولكن بدلاً من لمسة إنسانية دافئة، تكون هذه الأصابع باردة. الفعل (تلامس) يعكس اتصالًا حسيًا مع الواقع، ولكن هذه اللمسات الباردة تحمل في طياتها معاني أعمق، إذ أن الشاعر يربط بين (البرودة) و(الأحلام الدافئة) في تباين بليغ بين القسوة والعاطفة. في هذا التناقض، يُظهر الشاعر قوة المشاعر الإنسانية في مقاومة الظروف الباردة.

الجملة:

(وأصابع ديسمبر لها لمساتها المذهلة على خدودنا)

هي تعبير مجازي عن تأثير فصل الشتاء على حياة الإنسان، حيث لا يقتصر التأثير على الجسد فقط، بل يتسلل إلى الروح. البرودة التي تحملها أصابع ديسمبر هي مجرد إطار خارجي لما يمكن أن يكون بمثابة استحضار للذكريات والعواطف الدافئة. بهذه الصورة، يخلق الموسوي من فصل الشتاء حالة من الغموض والدهشة التي تتناغم مع حالته النفسية. البرودة تمثل في هذا السياق تحديات الحياة، بينما (الأحلام الدافئة) تشير إلى الأمل والطموحات التي تبقى حية رغم الظروف القاسية.

3. الليل والقمر: صور طبيعية تعكس الحالة النفسية

في جزء آخر من القصيدة، يقول الشاعر:

(هنا، تحتضن الشوارع القصة الكاملة لأصابع ديسمبر الباردة؛ حيث تنام الليالي هادئة ويهمس القمر خلف الغيوم).

الليل في هذه الصورة يعكس حالة من السكون والهدوء، والليالي (الهادئة) التي تتبع (الأصابع الباردة) تنشئ تناقضًا بين الهدوء الظاهر والاضطراب الداخلي. هذه الهدوء الظاهري قد يكون رمزية للشعور بالعزلة أو الوحدة التي يشعر بها الشاعر في مواجهة العالم. القمر، في هذه الحالة، لا يظهر بمفرده بل خلف الغيوم، مما يضيف عنصر الغموض إلى المشهد.

يهمس القمر، وكأن الشاعر يطلب منه أن يكشف أسرار الليل الذي يحيط به، ولكن في نفس الوقت يبقي هذا السر خفيًا خلف الغيوم. غياب وضوح القمر يُعتبر استعارة للضبابية التي قد تحيط بالأفكار والمشاعر الداخلية في حياة الشاعر. الغيوم هنا قد تكون رمزًا للمتاعب أو الغموض الذي يحيط بمواقف الحياة، بينما الهمسات تشير إلى أن هناك دائمًا شيئًا ما غير مرئي، يظل خارج نطاق الفهم الكامل.

4. ديسمبر: شهرٌ غريب ومجنون

في السطور التالية، يصف الشاعر شهر ديسمبر بأنه (غريب ومتهور)، وهو وصف يبدو متناقضًا، حيث أنه يضيف صفات إنسانية لشهر غير حي. هذا التوصيف يعكس حالة من الاضطراب واللااستقرار، وهو ما يتماشى مع تقلبات الحياة، مثل التغيرات التي يجلبها الشتاء. من خلال هذه الصفات المجازية، يربط الشاعر بين (الجنون) و(الحرية)، كما لو أن ديسمبر يعكس كيانًا يحمل في طياته كل الملامح المعقدة التي تجعل منه رمزًا للحياة ذاتها، بتناقضاتها وتقلباتها.

الشاعر يعترف بحبّه لهذا الشهر:

(لكننا نحبه لأننا نتمتع بابتسامات مذهلة).

هذا الاعتراف يوحي بأن الشاعر يتقبل المجنون والمتهور، وأنه يجد الجمال في التحديات التي تجلبها الحياة، حتى لو كانت تلبس ثوبًا من البرودة والاضطراب. الحب في القصيدة ليس ناتجًا عن التكيف مع الظروف فحسب، بل هو أيضًا تقبّل لها، والاعتراف بها كجزء من الكينونة.

5. الرمزية العميقة للطبيعة: الغصن، الورقة، الطائر

في القسم الأخير من القصيدة، يضيف الشاعر بعدًا رمزيًا عبر ذكر (الغصن) و(الورقة) و(الطائر الصغير جدًا). هذه الرموز الطبيعية تعكس بشكل مباشر معانٍ تتجاوز مجرد المظاهر المادية. (الغصن) و(الورقة) يمثلان الحياة في حالتها الهشة والضعيفة، في حين أن (الطائر الصغير) يمثل تلك الكائنات التي تسعى إلى الهروب أو التحرر في عالم صعب.

هذه الرموز لا تمثل فقط الطبيعة المادية، بل هي أيضًا تمثيل لرغبات الحياة (البرية) التي لا يمكن للبشر أن يدركوها بالكامل، مما يخلق حاجزًا بين ما هو مرئي وما هو غامض. وعندما يقول الشاعر:

(قد تشعر بهم، لكنك لن تعرف شيئًا عن رغباتهم البرية لأنك لست سمكة تسبح في نهر الفرات)

فإن هذا يدل على أن الشاعر يرفض أن يظل أسيرًا للتفسيرات السطحية. الشاعر يقدم رؤية حية للطبيعة، حيث لا تكون الرغبات واضحة أو مفهومة إلا لمن هو غارق في (نهر الفرات)، أي لمن يعرف الحياة من منظور عميق.

6. الختام: الجنوب كمرجعية روحية ومكان للأمل

ختام القصيدة يعيد التأكيد على طبيعة الجنوب التي تحتفل بالحياة، حيث يقول:

(هنا؛ في الجنوب، الأرواح مبتهجة بشكل ساحر، انها مبتسمة ودافئة).

هذه العبارة تعيد التأكيد على ما بدأ به الشاعر في البداية: الجنوب ليس فقط مكانًا ماديًا، بل هو فضاء روحي يحمل الأمل والدفء في قلب قساوة الظروف. فبينما تبقى الحياة مليئة بالبرودة والتحديات، يظل الجنوب يمثل ملاذًا نفسيًا حيث الأرواح تحتفل وتبتسم.

القصيدة تنتهي بنظرة شاعرة إلى عالم من السحر والخيال: (ديسمبر هنا لا يصدق، فهو يصنع جنّيات مذهلة من حكاياتنا القديمة).

في هذه النهاية، يُبرز الشاعر قدرة الحكايات والقصص القديمة على تحويل الواقع إلى عالم من الخيال المدهش، حيث يصير ديسمبر أكثر من مجرد فصل، بل هو شعور، وذكرى، ورغبة في التمسك بالأمل.

الخلاصة:

هذه القصيدة السردية التعبيرية النموذجية هي رحلة تأملية معقدة وجميلة في العالم الداخلي للإنسان في مواجهته للطبيعة والمشاعر المتناقضة. من خلال الرمزية الدقيقة والصور الشعرية، يُعبّر الشاعر عن تقبل الحياة بكل تفاصيلها، من البرودة إلى الدفء، من الجنون إلى الجمال. هذه القصيدة هي مزيج من الواقع والخيال، حيث يتداخل الجنوب العراقي مع الزمان والمكان لخلق عالم داخلي لا ينسى.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

في المثقف اليوم