قراءات نقدية
عاطف الدرابسة: القصة القصيرة في الأردن.. قراءة ورؤية
عند الحديث عن القصة القصيرة في الأردن، لا أعرف حقيقة مدى الإضافة التي يمكن أن أُسهم بها في هذا المقام، خصوصاً وأنَّ الإشكالية التي يمكن أن أواجهها على مستوى المنهج، أو على مستوى الوقت المتاح، المرتبط بالغاية أو الأداء، على مستوى هذه القراءة، قد لا تعطي الموضوع حقَّه، غير أنَّني سأفيدُ من روح هذا العصر، الذي يتميَّز بالتوثيق، فلن أتحدَّث كثيراً عن تاريخ القصة من حيث النشأة، ويمكن هنا أن أُحيل إلى كتابين مُهمَّين اهتما بتوثيق القصة في الأردن هما:
- كتاب فهرس القصة القصيرة في الأردن بين عامي 1920 و1967 الذي أعدَّه الدكتور خلف خازر الخريشة، وأصدره مركز الدراسات الأردنية في جامعة اليرموك.
- وكتاب الناقد عبدالله رضوان: النموذج، الذي يغطي الفترة الواقعة بين 1970_1980.
ثم وثق محمد المشايخ الفترة الواقعة بين 1990 إلى نهاية العقد الأول 1990 -2005.
وهنا لا بدَّ أن أُشير احترازاً على المستوى التاريخي أنه يصعب الفصل بين الأردن وفلسطين، فهما كيان واحد بحكم الجغرافيا والتاريخ، والمجتمع، خصوصاً حين نشير إلى الإصدارات الريادية بين عامي 1948 و1967.
وتكشف القراءة التاريخية أن عقد الخمسينات من القرن المنقضي هو البداية الحقيقية لتكوين ملامح القصة القصيرة في الأردن ؛ لما شهدته هذه الفترة من تغيرات كبيرة، على المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية، وهو أمرٌ مرتبط على نحو واضح بنكبة 1948، التي أحدثت تغيرات جذرية في البنى الاجتماعية، والبنى المكانية.
وتتفق الدراسات التاريخية إلى أنَّ الريادة في كتابة القصة القصيرة في الأردن وفلسطين مرتبطة على نحو وثيق بخليل بيدس، ثم محمود سيف الدين الإيراني، ونجاتي صدقي، وأحمد الدباغ، وعبدالحميد ياسين، الذي ظهرت أول قصصه عام 1946. وبعضهم يشير إلى محمد صبحي أبو غنيمة الذي نشر قصصاً في العشرينات.
وأما البدايات المنشورة حسب تاريخ الإصدار، فيمكن أن نشير إلى ما يلي:
وحي الواقع - لأمين فارس ملحس
عطف أمٍّ (وقصص أخرى) - عبدالحميد الأنفاسي
شعاع النور - لمحمد أديب العامري
الأخوات الحزينات - لنجاتي صدقي
وطنية خالدة وأزاهير الصحراء - لروكس العزيزي
طريق الشوك - لعيسى الناعوري
مع الناس - لمحمود سيف الدين الإيراني
لعلَّ الأمر اللافت للانتباه أنَّ ثمَّة قصص كانت مجهولة النسب، أن عدد القصص الأردنية القصيرة التي تم نشرها في الصحف والمجلات المحلية والعربية خلال السنوات التي يغطيها كتاب خلف الخريشة في الفترة الواقعة بين 1920-1967، (1481) قصة قصيرة، منها (1186) قصة معروفة المؤلف، و(96) قصة لم يكتب مؤلفوها أسماءهم الحقيقية، بل كتبوا رموزاً وأسماء مستعارة بدلاً منها، و(209) قصص قصيرة تمَّت الاشارة إلى أنَّها لكُتَّاب مجهولين. كما أنَّ الأردن قد شهد خلال السنوات المذكورة نبوغ (579) قاصاً وقاصة، تمَّت معرفة أسماء (342) منهم، وبقي (237) قاصَّاً وقاصَّة غير معروفي الأسماء.
ولقد أحدثت التحولات السياسية والتاريخية، التي شهدها الأردن حالة من التطور الفني على مستوى البناء والمضمون، فاستجاب القاصُّ الأردني لها، خصوصاً نكسة 1967، وفي السبعينات ظهرت رابطة الكتاب الأردنيين التي أسهمت في تطور القصة القصيرة في الأردن ؛ إذ فتحت آفاق النشر للمبدعين، فضلاً عن رعايتها لهم، وإثرائها لهم بالمحاضرات والقراءات النقدية، مما أدى إلى إحداث نقلة نوعية في اتجاهات القصة القصيرة وأنماطها البنائية، وتساميها الفني، وشرعت تأخذ مكانتها الحقيقية وهويتها الفنية، وازداد كُتَّاب هذه المرحلة ثقة بأدائهم وتجربتهم، وبدأت حالة التجريب والتحديث تطرأ بوضوح على نماذجهم القصصية، وطفقوا يوظفون مخرجات النظرية النقدية: المخرجات المعرفية والمخرجات التقنية، فتحللوا من السرد التقليدي، والإيغال في التفاصيل، وصاروا يميلون إلى الإيجاز والإيحاء والتداعي، وترك مساحات من الفجوات والفراغات البنائية، لإشراك المتلقي ودمج وعيه في بنية القصة.
والواقع أنَّ هذه التقنيات قد استجابت للشروط التاريخية والاجتماعية، تلك الشروط التي نشأت نتيجة أحداث 1967، وأحداث 1970، واجتياح لبنان سنة 1982، والحرب العراقية الإيرانية.
إنَّ هذه التطورات التاريخية قد أحدثت تحولات كبرى في بنية المجتمع الأردني نتيجة الهجرات المتسارعة، واعتبار الأردن ملاذاً آمناً للعرب، كما شكَّلت مرحلة غزو الكويت والربيع العربي انقلاباً جذرياً في اتجاهات الأدب عموماً، والقصة خصوصاً، فتجلَّت أكثر الواقعية السياسية، علماً أنَّ القاصَّ الأردني قد تأثر كثيراً بالاتجاه الواقعي الاجتماعي، وقد تجلى هذا الاتجاه عند خليل السواحري وفخري قعوار ويحيى خلف، كما ظهر أيضاً اتجاه واقعي ملتزم بالعروبة تحديداً وبالقضية الفلسطينية، ويمكننا أن نلمحه عند ماجد أبو شرار، محمد أبو شلبايه، صبحي شحروري، نمر سرحان، كما ظهر الاتجاه الرمزي في قصص بدر عبدالحق، وجمال أبو حمدان.
ولعلَّ الجيل الحديث من الكُتَّاب قد أثرى القصة الأردنية، وأسهم في بلورة صورتها الفنية، ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى إبراهيم جابر، وأحمد الزعبي، وابراهيم العجلوني والدكتور أمين عودة، كما يمكن أن نشير إلى بعض الكاتبات من مثل: أميمة الناصر، أمينة الحجوج، أنصاف قلعجي، أسماء فتحي، هند أبو الشعر، بسمة النمري، تغريد قنديل، جواهر رفايعة، سحر ملص، سميحة المدني، صباح المدني، صفية البكري. كما يمكن أن نشير إلى بعض الكُتاب الذين ركزوا على الجانب التقني مثل الدكتور سليمان الأزرعي، وطلعت شناعة، الدكتور غسان عبدالخالق، ومحمد طملية، والدكتورة مريم جبر.
ولعلَّه من المناسب أن أشير هنا إلى تأثر القاص الأردني بالحداثة، على مستوى الرؤى والأفكار، والحداثة كما هو معروف مرتبطة بشبكة من المفاهيم التقنية والفكرية، فظهرت في قصصهم إعادة إنتاج مفهوم الزمن، والتنبؤ، وممارسة ثنائية الهدم والبناء، وإعادة الإنتاج، والتركيز على المدهش والمفاجئ والغريب، فضلاً عن خلخلة بنى المجتمع، وإعادة إنتاج التاريخ، وتوظيف ما هو مغيِّر، ومن أبرز الكُتَّاب الذين انعكست السمات الايجابية للحداثة في قصصهم: سميحة خريس في مجموعتها: أوركسترا الصادرة عام 1998، وجواهر رفايعة في مجموعتيها القصصيتين: الغجر والصبية 1993 أكثر مما أحتمل 1996، وجميلة عمايرة في مجموعتيها: صرخة البياض 1993 سيدة الخريف 1999، ومحمد سناجلة في مجموعته وجوه العروس السبعة 1995، ورمضان رواشدة في مجموعتيه: انتفاضة وقصص أخرى 1989 وتلك الليلة 1995، وانصاف قلعجي في مجموعتيها: للحزن بقايا فرح 1987 ورعش المدينة 1990، ومحمد خروب في مجموعته: في زمن الفصل 1991.
وكنموذج على استيعاب كتاب القصة لبعض السمات الايجابية للحداثة في قصصهم، نقدم جزءاً من مقطع من قصة (اسق العطاش) للقاصة انصاف قلعجي المنشورة في مجموعتها القصصية (رعش المدينة) والتي قسمتها الى 4 مقاطع: (الزمن يتحرك، قوى خفية تحرك الزمن، ينبثق الكون. خلايا مجهولة تتوالد «لعلها التاريخ» من تقاطع خط الزمن السائر من غير منبع الى غير مصب. وخط الكون المنبثق الى أعلى في زاوية قائمة سرعان ما تزول. الخلايا تتفشى وتترك شيئاً كالجماجم على حافتي نهر الزمان. يبقى الزمن رغم كل الشوائب صافياً. يسير الزمن ويزيل عن كاهله كل الحمولات التي خلفها التاريخ القذر. خلايا مجهولة تنبض بالنشيد. قوى تحارب ولكن ليست كمرض الايدز. هم فاغرو الأشواق ضد الزمن الجائع اللائب. خلايا تهجم على القبور. موكب الحريق يقترب. يدخل من سياج الحديقة. فوق الشوك. فوق الدم. الحريق يسحبهم. لكنهم رافعو الهامات والقامات. ترى رؤوسهم كأنها السحب الداكنة السائرة مع قمم الجبال البعيدة).
ومن المناسب أن أُشير هنا إلى أنَّ ظهور المجلات الثقافية من مثل: مجلة الأفق الجديد، ومجلة الفجر الأسبوعية، ومجلة أفكار، ومجلة القلم الجديد، قد أسهمت على نحو واضح في تطوير القصة الأردنية، كما أسهم إطلاع الكاتب الأردني على القصص الغربية والتجارب العالمية في تطوير أدواته الفنية على مستوى السرد، مما أسهم في إخراج القصة الأردنية من طورها التقليدي.
ويمكنني أن أُشير في هذا السياق أيضاً إلى القاص الدكتور أمين عودة الذي أحدث تطوراً مدهشاً في بنية القصة على مستوى السرد والرمز والإيحاء.
***
د. عاطف الدرابسة - الأردن