قراءات نقدية

كريم عبد الله: قراءة اسلوبية في نصّ الشاعرة هناء مرشد

رؤى الذات في قلب الموج

النصّ:

إني هنا وهناك كما عهدتني

أيها الموج اللطيف

يا من اقتنيت ألمي وجعلته فرحاً

حين كان الضباب يخيمُ في وحدتي...

لتحميكَ كلماتي ويرافقك دعائي

فأنا كنتُ قد افتقدت نفسي لكن الوجل من غدي أشار إلى دُنياك

وعندما لاحت رؤاك لي وجدتني هناكَ في رِحابكَ أتجول...

استمتع بكل وقتي وأستثير الفرح كي لا يغادرني

فلم أعدْ أحتملُ الأحلام بعد أن تحققت الرؤية......

القراءة:

نص الشاعرة هناء مرشد يعكس تجربة إنسانية غنية ومتعددة الأبعاد، حيث تتداخل الذات مع العالم المحيط بها وتستحضر موضوعات العزلة، البحث عن الذات، والتحول النفسي. يظهر هذا النص على أنه شهادة حيّة عن رحلة روحية ونفسية مليئة بالتأملات الوجودية. من خلال استخدام الشاعرة لأساليب لغوية متقدمة ورمزية معقدة، يتم بناء النص كفضاء معبر عن العلاقة الملتبسة بين الذات والعالم، بين الماضي والحاضر، بين الألم والفرح.

1. البنية اللغوية والتركيب الأسلوبي:

النص يبدأ بعبارة /إني هنا وهناك كما عهدتني/، وهو مدخل أسلوبي يعكس التوتر والتداخل بين الحضور والغياب. /هنا وهناك/ ليست مجرد تعبيرات مكانية، بل تشير إلى حالة وجودية بين الحاضر والماضي، بين الاستقرار والاضطراب. الكلمة /عهدتني/ تحمل دلالة تذكّر، وتستدعي في ذهن المتلقي فكرة العلاقة المستمرة بين الذات والعالم الخارجي. هنا، الشاعرة توظف الزمن والمكان ليظهر هذا التنقل الروحي والنفسي الذي تعيشه.

التركيب اللغوي في النص بسيط ظاهريًا ولكنه مكثف في دلالاته. فالتكرار الممزوج بالأسئلة الاستفهامية والتوصيفات الرمزية يخلق طبقات من المعنى. على سبيل المثال، في الجملة /لتحميك كلماتي ويرافقك دعائي/، نجد أن الأفعال /تحمي/ و/يرافق/ تعبر عن العلاقة الحميمية بين الشاعرة والموجه إليه (أو الموضوع الشعري)، حيث تستخدم الشاعرة اللغة كوسيلة للحماية والتعبير العاطفي. هذا التوظيف الفاعل للغة يشير إلى قوة الكلمات كأدوات تأثيرية في بناء العواطف.

2. الرمزية والمجاز:

تستند القصيدة بشكل رئيسي إلى الرمزية التي تعمل على تحويل الأشياء الملموسة إلى معانٍ غير مرئية، مما يتيح للشاعرة التعبير عن مشاعر غير قابلة للتوضيح المباشر. /الموج اللطيف/ هو أول رمز يقدمه النص، إذ يعكس الأثر العاطفي الذي تتركه اللحظات الموجعة عندما تمر بحالة من الهدوء الظاهر. الموج يرمز إلى الحركة والاضطراب، بينما اللطف يضيف عنصرًا من السكينة، ما يعكس التناقض بين الهدوء الخارجي والاضطراب الداخلي.

أما /الضباب/ الذي يخيم على وحدتها، فهو يشير إلى حالة من الغموض الفكري والنفسي، وهو ليس مجرد حجب للرؤية البصرية، بل هو أيضًا حجب معنوي. الضباب يُحتَمل أن يكون مرحلة من الضياع أو البحث في الظلمات، ومن ثم يصبح الفهم وتحقق الرؤية بمثابة لحظة النور التي تطرد هذا الضباب، وهو ما نراه في قول الشاعرة /"عندما لاحت رؤاك لي/. هنا تتلاقى الرمزية البصرية مع الرمزية الوجدانية، حيث أن الضباب ليس مجرد حالة خارجية، بل يمثل حالة شعورية أيضًا، وهي حالة الارتباك والقلق التي تتصاعد في داخل الذات وتبحث عن وضوح.

3. التحولات النفسية: من الضباب إلى النور:

القصيدة تنتقل عبر تحولات نفسية معبرة عن رحلة الشاعرة بين التشتت الداخلي والوصول إلى الاستقرار. بدايةً من /الضباب/ الذي يخيم في وحدتها، إلى ظهور /الرؤى/ التي تجعل الشاعرة تجد نفسها في /رِحابك/ كما تقول. يمكن تفسير هذه النقلة بأنها تشير إلى نمو نفسي من حالة الانغلاق إلى حالة الانفتاح. الضباب يمثل العزلة والتمزق الداخلي، بينما الرؤى تمثل وضوح الفكر والنضج النفسي الذي تحققه الشاعرة.

في هذه اللحظة، تتحقق رؤية الشاعرة الذاتية في حضور الآخر أو العالم الذي تجتمع فيه الذات مع غيرها، وتكتشف بعدها أنها كانت /تبحث عن نفسها فيك/. هذا التحول النفسي يعكس عملية تكامل أو تحول داخلي يجعل الذات تلتقي مع نفسها من خلال الآخر. وعليه، فإن الشاعرة في هذه القصيدة لا تكتفي بتوصيف معاناتها أو ألمها، بل تكتب عن تحولها الشخصي والعاطفي نحو وضوح داخلي، حيث الرؤية تصبح بمثابة التحرر من الضباب.

4. العلاقة بين الذات والعالم: الحضور والغياب:

القصيدة تعكس علاقة شديدة التعقيد بين الذات والعالم، بين الحضور الذي لا يكتمل والغياب الذي لا يتلاشى. الشاعرة تبدأ بملاحظة وجودها /هنا وهناك/، وهو تناقض يعكس بُعدًا نفسيًا فلسفيًا؛ الذات لا تحدد مكانها في زمان معين، وإنما هي حالة بين الوجود والعدم، في حالة من التذبذب المستمر بين الحضور والغياب. هذا التذبذب ينعكس في الصور الرمزية، مثل الموج الذي يعبر عن الاضطراب النفسي والضباب الذي يرمز إلى التشويش الداخلي.

وفي النهاية، يظهر هذا الصراع بين الحضور والغياب بشكل عميق، حيث تقول الشاعرة في النهاية /لم أعدْ أحتملُ الأحلام بعد أن تحققت الرؤية/. هنا، يتضح أن الحلم كان يشكل عالمًا متخيلًا بينما الرؤية تمثل الوضوح الواقعي. الرؤية تأتي بعد مرحلة من الضياع والانتظار، حيث أصبحت /الأحلام/ غير قابلة للتحقق بعد أن تحقق الفهم. وبالتالي، تنتقل الذات من حالة من الحلم إلى حالة من الإدراك الكامل.

5. التقنيات الشعرية: التكثيف والإيقاع:

الشاعرة تستخدم التكثيف اللغوي بطريقة متميزة، فكل كلمة تحمل حمولة معنوية كبيرة. الكلمات التي تختارها، مثل /ألم/، /فرح/، /ضباب/، /رؤى/، /"دعاء/، تساهم في خلق عالم شعري كثيف لا يعبر عن الواقع بشكل مباشر، بل يدع القارئ يغوص في معاني متعددة.

كما أن التكرار في النصّ يأتي لخدمة البنية النفسية والتراكم العاطفي للشاعرة. على سبيل المثال، التكرار في العبارات مثل /أنا هنا وهناك/ و/رؤاك لي/ و/استمتع/" لا يقتصر على التعبير عن المعنى فحسب، بل يعزز الشعور بالعودة إلى الذات والمكان في مرحلة زمنية معينة.

6. خاتمة: النص كرحلة وجدانية:

القصيدة تمثل رحلة وجدانية شاملة، تتنقل فيها الشاعرة بين الأبعاد النفسية، الروحية، والفلسفية. إنها رحلة من التشويش إلى الوضوح، من الوحدة إلى النور، ومن الحلم إلى الحقيقة. النصّ يدمج بين الأسلوب البسيط والرمزية العميقة، مما يجعله نصًا يتطلب قراءة دقيقة وتمعنًا طويلًا. كل صورة، كل كلمة، تحمل بعدًا وجدانيًا ووجوديًا يعكس التحولات الدقيقة في مشاعر الشاعرة.

النصّ في مجمله ليس فقط تعبيرًا عن تجربة شخصية، بل هو انعكاس للتجربة الإنسانية بشكل عام، حيث يواجه الفرد التوترات النفسية ويتطلع إلى الرؤية الكاملة لفهم ذاته والعالم من حوله.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق.

في المثقف اليوم